على الرغم من تعدد وظائف القناع خلال التاريخ، وحضوره الدائم في كل الثقافات والحضارات، فإن طغيان بعض استعمالاته على غيرها دفعت الوجدان العام إلى اختزال صورته ومعانيه بكونه نقيض الهوية الحقيقية وخافيها.. إنه الوجه المزيَّف الذي يلف بالغموض الوجه الحقيقي لدوافع مختلفة. وهذه الصورة، على صحتها، تبقى غير دقيقة ولا كاملة. في هذا الملف يستكشف عبود عطية عالم القناع الممتد من متاحف العالم إلى البقالة المجاورة لنا، والذي حضر ولا يزال يحضر على وجوه لا يمكن تخيل أية صلة ما بينها، من ملوك الحضارات القديمة إلى الأطباء اليوم، ومن خنادق الحروب القديمة إلى الحديثة منها، ومن الفرسان إلى عمال البناء والرياضيين، ومن الممثلين على خشبات المسارح إلى.. اللصوص.
إذا كانت مهمة القناع في لف وجه صاحبه بغموض يشكِّل تحدياً للناظر إليه، فإن أكبر نجاحات القناع في هذا المجال هي في لف نفسه بغموض أكبر، حتى ليبدو هو نفسه أحجية يتطلَّب فهمها التجوال عبر التاريخ بكل ما فيه من ثقافات وأنماط حياة وفنون وعلوم. ولأن ملامح وجه الإنسان تشكِّل الهوية المميزة لشخصه عن كل الآخرين، فإن تغطية هذه الملامح بأخرى غير حقيقية يصبح تعبيراً عن وجود دافع ما إلى ذلك، وكثيراً ما يكون هذا الدافع مثيراً للقلق.
فالإنسان بطبعه عدو ما يجهل، فكيف الحال إذا كان ما يجهله هو في هوية شخص على تفاعل معه؟ ولهذا، فإن وقع كلمة «القناع» في النفس يثير الحذر من المجهول والغامض، من الهوية المزيفة والدوافع إلى تزييفها. نعم، استخدم القناع
ولا يزال يستخدم منذ آلاف السنين كحاجب لحقيقة الهوية. ولكننا عندما نراجع كل عوالم الأقنعة نجد أنه من الأصح القول إن وظيفته الأساسية تكمن في كونه الحاجز الفاصل بين الذات وكل ما هو خارج عنها، دون أن يعني ذلك بالضرورة وضع الهوية موضع التباس. إذ تشمل هذه الوظيفة الرئيسة وظائف عديدة تشترك كلها في قطع التواصل والتبادل بين الوجه كغلاف للذات ومنفذ إليها، والخارج بكل ما فيه، سواء تعلَّق ذلك بملامح وجه لص لا يجب أن تصل إليه عين شاهد، أو بالجراثيم التي لا يجب أن تصل من الخارج إلى الذات عبر الوجه. إذ طوَّر الإنسان خلال آلاف السنين أنماطاً من الأقنعة لا حصر لها ولا صلة ما بينها. فصنعها من الذهب والخشب والنباتات والأقمشة والبورسلين والبرونز والورق والبلاستيك.. واقتصر أحياناً في تزويدها على فتحات للأنف والعينين، وزوَّدها أحياناً بمناظير إلكترونية ومصافٍ للغازات السامة أو الجراثيم.. وإن كان بعض الأقنعة مثيراً للخوف أو القلق، فإن بعضها الآخر قد يكون مصدر طمأنينة. وإن دخل بعضها في إطار الضرورات، فإن بعضها الآخر يكاد أن يكون صورة للترف. ومهما كان شكل القناع ووظيفته المباشرة، فهو لم يغب يوماً عن أي مجتمع. نشاهده يومياً دون أن نلحظ وجوده. وفي عدم ملاحظة وجوده لغز آخر يُضاف إلى ألغازه العديدة.
تاريخ القناع ومنشؤه العسكري
حتى أواسط القرن العشرين، كان المؤرخون يربطون نشأة القناع بالديانات الوثنية القديمة، نظراً لكثرة ما وصلنا من نصوص تشير إلى ذلك، واللُّقى الأثرية التي تدعم هذه النظرية وأقدمها قناع يعود إلى الألف السابع قبل الميلاد، وهو محفوظ اليوم في أحد متاحف فرنسا.
ولكن الدراسات المتأنية التي بدأت في أواسط القرن العشرين وتناولت الرسوم الجدارية التي اكتشفت في نحو عشرة مواقع مختلفة (معظمها في أوروبا) باتت ترجِّح رد نشأة القناع إلى دوافع حربية. فبعض هذه الرسوم العائدة إلى العصر الباليوليتي (30,000 إلى 40,000 سنة قبل الميلاد)، تؤكد أن المحاربين آنذاك كانوا يغطّون أوجههم بأقنعة من الطلاء وجلود الحيوانات. وظلَّت القبائل الهمجية في أوروبا (وخاصة في شمالها) تقنِّع محاربيها بأقنعة تمثل حيوانات ومخلوقات مخيفة خلال غاراتها على المدن المتحضرة حتى أيام الإمبراطورية الرومانية وما بعدها ببضعة قرون.
واستخدام القناع بغية إرهاب العدو من قبل الجيوش، أو بعض فرقها في الحضارات القديمة معروف عند الإغريق والرومان، وخلال القرون الوسطى في أوروبا، وحتى عند المقاتلين الساموراي في اليابان وقبائل الهنود الحمر في أمريكا، ولهذا كان على القناع أن يمثِّل وجهاً ضخماً، قبيحاً وغاضباً، أو طلاء الوجه بألوان وخطوط تجعله كذلك.
في القرون الوسطى اللغز البندقي
وشهد القناع في القرون الوسطى تطورات عديدة في وظائفه وأشكاله. فعلى الصعيد العسكري، ظهرت وظيفة جديدة للقناع تكمن في حماية وجه المقاتل من ضربات السيوف والرماح، بدلاً من إرهاب العدو. فأصبحت البزَّات والدروع المعدنية التي يعلوها قناع معدني بدوره يغطي الوجه، من مستلزمات الفروسية خلال الحروب الصليبية، وأيضاً خلال المبارزات الرياضية العسكرية.
ومن الوظائف الأخرى التي ظهرت في تلك الفترة أيضاً، كان استخدام القناع بشكل دائم من قبل النبلاء والملوك والأمراء الذين كانوا يصابون بالبرص، وواحد من أشهرهم هو ملك القدس الإفرنجي بولدوان الرابع الذي عاصر صلاح الدين، وكان مصاباً منذ سن مبكرة بالبرص، فأمضى السنوات الأخيرة من عمره ووجهه مغطى بقناع من الفضة، لتخبئة التشوه الفظيع الذي كان يطرأ على وجهه. ويُروى أن لا أحد شاهد وجهه على حقيقته، إلا أخته الملكة سيبيلا، وكان ذلك عند احتضار الملك. ولكن أغرب ما طرأ على عالم القناع والتقنع منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، كان في مدينة البندقية الإيطالية، حيث أصبح القناع معلماً من معالم المدينة. وأكثر من ذلك، جزءاً من اللباس اليومي، وهو ما لم يحصل في أي مكان آخر في العالم.
تعود علاقة البندقية بالقناع إلى القرن الثاني عشر. ويروى في هذا الصدد أنه بعد انتصار المدينة التي كانت تُسمَّى آنذاك «الجمهورية السامية» في معركة ضد بطريرك أكويليا جرت في العام 1162م، صار سكانها ينظِّمون مهرجاناً سنوياً للاحتفال بذكرى الانتصار. وأول وثيقة تؤكد استخدام القناع خلال هذا الاحتفال السنوي الذي استمر حتى القرن الثامن عشر، تعود إلى القرن الثالث عشر، وهي عبارة عن فقرة وردت في قرار لمجلس المدينة، يحظر على المقنَّعين المقامرة.
ولكن تدريجياً، ولأسباب لا تزال تحيِّر المؤرخين، راح سكان البندقية يستخدمون الأقنعة في الحياة اليومية، وخلال تجوالهم في الأسواق. فظهر في القرن الرابع عشر قانون يحظر بعض الأنشطة على المقنَّعين، وفي أواخر عهد جمهورية البندقية كانت القوانين قد تشددت كثيراً في استخدام القناع في الحياة اليومية، ولكن التقاليد المتوارثة كانت أقوى، وفرضت السماح بذلك لفترة محددة من السنة ما بين الخامس من أكتوبر وحتى الخامس والعشرين من ديسمبر. ومن ثم لفترة ثانية تبدأ في السادس والعشرين من ديسمبر وتمتد حتى ثلاثة أشهر تقريباً.
وفي تفسير هذه الظاهرة التي لم تعرفها الحياة اليومية في أي بلد آخر، يقول الباحث الأمريكي جيمس جونسون في كتاب نشره في العام 2011م بعنوان «البندقية المجهولة، الأقنعة في الجمهورية السامية»، إن استخدام القناع بهذا الشكل كان رداً خاصاً بالبندقية على التشدد البالغ في التراتبية الاجتماعية والفصل بين الطبقات، وخاصة بين النبلاء والعامة، فهذه التراتبية تزعزعت بفعل التجارة البحرية التي نجم عنها ظهور طبقة جديدة من البرجوازيين الأغنياء الذين توافرت لهم بفضل ثرواتهم فرص التواصل الاجتماعي مع النبلاء، ولكن تحتم أن يكون ذلك بعيداً عن الأعين، فصارت الشوارع تعجّ بالمقنَّعين إخفاءً لهوياتهم الحقيقية. وطوال هذه القرون، طوَّر الحِرفيون في البندقية طرزاً مختلفة من الأقنعة لكل منها اسمه الخاص ومناسبة استعماله الخاصة. ومنها على سبيل المثال القناع المزوَّد بعصا ليمسك باليد، ويُحمل قبالة الوجه. ويقال إن هذا القناع الذي يُسمَّى «كولومبينا» ابتكر لتلبية رغبة ممثلة مسرح كانت جميلة جداً، ولم ترغب في أن يخبئ القناع وجهها بالكامل. ومنها أيضاً القناع المعروف باسم «باوتا»، وهو يغطي الوجه بالكامل، ويكون عادة ذهبي اللون، ويتميز بذقن مربعة. وقد أصبح ارتداء هذا القناع إلزامياً في القرن الثامن عشر خلال أي اجتماع عام أو خاص يُعقد لاتخاذ قرارات تتعلق بالمدينة ومجتمعها. ومن التقاليد التي لازمت استخدام هذا القناع هو ارتداء معطف أحمر معه. أما القانون فقد حظر تماماً حمل أي نوع من الأسلحة مع هذا القناع بالذات. تبقى الإشارة إلى أنه بعد تدهور نوعية مهرجان البندقية في القرن الثامن عشر ومن ثم توقفه نهائياً، أعيد إطلاقه عام 1979م، بموجب قرار من الحكومة الإيطالية التي ارتأت وجوب إحياء تراث المدينة وثقافتها في إطار تنشيط الحركة السياحية فيها. وصار المهرجان السنوي الذي يقام فيها حالياً، ويمتد لفترة أربعين يوماً، نقطة جذب لنحو ثلاثة ملايين سائح كل عام، ومناسبة لهؤلاء أن يشاركوا سكان المدينة تجربة العيش مقنَّعين. أما الفعالية الأبرز في هذا المهرجان، فهي في اختيار صاحب «أجمل قناع»، اللقب الذي يتنافس عليه مئات الحِرفيين والمصممين.ومن مهرجان البندقية القديم (والحديث)، تفشَّت في مجتمعات كثيرة استخدامات القناع في بعض المناسبات الاجتماعية، ومن باب إضافة طابع اللهو والمرح ليس أكثر.
القناع في طريقه إلى القرن العشرين
ولكن بعيداً عن المرح واللهو اللذين لا يشكِّلان إلا جزءاً يسيراً من استخدامات القناع، تضمَّنت القرون الخمسة الماضية من التطورات التي شهدها عالم هذه الأداة ما يندرج في مختلف المعارف الإنسانية.
فعلى المستوى الثقافي، تعزَّزت مكانة القناع كمنتج إنساني عام، بالاكتشافات الجغرافية وتواصل الثقافات الذي راح يكبر منذ اكتشاف أمريكا، والطرق البحرية إلى الشرق الأقصى. فكانت الأقنعة الطقسية التي عاد بها الرحالة من
أمريكا الجنوبية من أهم الوسائل التي عرَّفت العالم إلى ثقافات حضارات بائدة مثل حضارتي الأزتيك والإنكا. الأمر نفسه ينطبق على الأقنعة الصينية التي تجتمع في تعبيراتها شخصيات تاريخية وأخرى أسطورية، وغالباً كما هو الحال في الأقنعة الأمريكية، بصياغة فنية تضعها في مصاف أرقى ما أنتجه الحِرفيون من صناعات، وباستخدام أغلى الموارد ثمناً مثل الفيروز والذهب عند الهنود الأمريكيين، وحجر الجاد الكريم عند الصينيين. ولكن استقرار هذه الأقنعة القديمة في المتاحف، لا يعني بتاتاً انتهاء القناع في المتحف، بل على العكس، فإن كانت بعض الأقنعة الطقسية قد تحوَّلت إلى مجرد تحف أثرية بفعل موت الديانات الوثنية التي أنجبتها، فإن القناع استنبط وطوَّر مبررات عديدة للبقاء على الوجوه لغايات مختلفة.
وإن استمر أقدم أدواره، ألا وهو التنكر، قائماً حتى اليوم، فإن دوره في الوقاية الذي ظهر خلال القرون الوسطى، راح يتعزَّز باستمرار بدءاً من القرن التاسع عشر، ولا يزال يتوسَّع حتى يومنا هذا. فماذا نجد اليوم من أقنعة لو تطلعنا حولنا؟
القناع الطبي
ويسمَّى أيضاً قناع «الجرَّاح»، لأن أهم استخداماته هو في غرف العمليات الجراحية، حيث يحول القناع دون انتقال أية جراثيم أو رذاذ من فم الجرَّاح وأنفه إلى الجروح المفتوحة عند المريض، كما أنه يقي الطبيب من تلوث أنفه وفمه برذاذ الدم خلال عملية الشق. وكان أول من استعمله الطبيب الفرنسي بول بيرجيه عام 1897م في باريس. وفيما يتألف هذا القناع من ثلاث طبقات مختلفة من المواد اللينة يعمل بعضها كمعقِّم، وبعضها كحاجز فقط، توجد تطبيقات ورقية أبسط من ذلك ومشابهة شكلاً، للاستعمال خارج المستشفيات. فمن الشائع جداً في شرق آسيا ارتداء هذا النوع من الأقنعة لمنع عدوى الإنفلونزا في مواسمها. كما استعمل القناع الطبي بشكل واسع في العالم، وخاصة في الصين وهونغ كونغ وفيتنام خلال تفشي مرض السارس قبل أعوام قليلة، وفي اليابان خلال تفشي إنفلونزا الطيور عام 2007م، وفي أمريكا والمكسيك خلال تفشي إنفلونزا الخنازير عام 2009م. وهذا القناع الورقي أو الإسفنجي يعمل كمصفاة فقط، ويستخدم أيضاً من قبل العمال في ورش البناء، للوقاية من دخول الغبار، وخاصة الإسبستوس، إلى الرئتين، ويباع في البقالة المجاورة لكل منا.
أقنعة الغاز
على الرغم من أن بعض أقنعة الغاز تستخدم للتنفس وضخ الأكسجين إلى المريض، فإن اسمها مرتبط بالحرب الحديثة، كأداة تغطي الوجه لحمايته من استنشاق الغازات السامة. ومن الروَّاد الذين عملوا على تطوير أقنعة الغاز بنو موسى في بغداد خلال القرن التاسع، الذين وصفوا في كتاب كيفية صنع هذا القناع المعد للاستخدام من قِبل العاملين في الآبار العميقة حيث يمكن لبعض الغازات السامة أن تستقر. غير أن تسجيل براءة اختراع هذا القناع لم يحصل قبل عام 1847م، وأول استخدام فعلي له كان في خنادق الحرب العالمية الأولى سنة 1915م، عندما استخدم الجنود الألمان غاز الكلورين ضد الجنود الفرنسيين والكنديين في معركة «يبس». ولأن الأخلاق في الحروب تدهورت في العصر الحديث إلى مستويات غير مسبوقة، صار حضور أقنعة الغاز من ضرورات الاستعداد لأية مواجهة. فتوزعها السلطات على العسكريين والمدنيين على حدٍ سواء عند أول صفارة إنذار. وإضافة إلى استخدامها في ساحات القتال، تظهر أقنعة الغاز أكثر في شوارع المدن على وجوه رجال الشرطة عندما يكون عليهم إطلاق الغازات المسيلة للدموع لتفريق حشود المتظاهرين، الأمر الذي يرد عليه هؤلاء بأقنعة من مناديل وأقمشة قليلة الحيلة في مواجهة الغاز. وتتألف أقنعة الغاز عموماً من مادة مطاطية يمكنها أن تلتحم تماماً بالرأس من دون التقيد بالقياسات الفردية. وهي مزوَّدة بفتحتين من زجاج للرؤية، وخرطوم ينقِّي الهواء من خلال تحييد الغازات السامة، والمادة الأكثر شيوعاً في ذلك هي مادة الفحم.
القناع في الرياضة
هل هو للحماية فقط
وعندما نصل إلى استخدامات القناع في الرياضة، يبدو للوهلة الأولى أن دوره يقتصر على تأمين الحماية لوجه الرياضي، في الألعاب التي قد تحمل بعض المخاطر مثل «الشيش» (المبارزة بالسيف الرفيع) والغوص تحت الماء، وإلى حد ما أيضاً كرة القدم الأمريكية لما تتميز به من خشونة ملحوظة.. ولكن الحضور الأكبر للقناع في الرياضة، وحيث يلعب دوراً يتجاوز الحماية، إن لم نقل أن لا علاقة له بالحماية، هو في «المصارعة الحرة».
سانتو.. هل تذكرونه؟
الذين عايشوا ستينيات القرن الماضي، يذكرون تماماً أن «المصارعة الحرة» كانت تشكِّل واحداً من أكثر البرامج التلفزيونية رواجاً في البلاد العربية، وأينما كان في العالم. وبعد الحماس للأبطال الوطنيين، كان المصارع المكسيكي المقنَّع الشهير باسم «إل سانتو» هو الذي يثير أكبر قدر من الحماسة، لاستقامته في اللعب وقوته أيضاً.. حتى تحوَّل إلى الصورة النموذجية لمفهوم «البطل» في مخيلة الأطفال أينما كان في العالم، ومنذ ذلك الوقت المبكر، راجت صناعة ملابس وأقنعة للأطفال الراغبين في التشبه بـ «سانتو».
و«سانتو» هذا، لم يكن المصارع الوحيد الذي كان يرتدي قناعاً. ففي فِلم وثائقي بعنوان «حكايات رجال مقنَّعين» (موجود على شبكة الإنترنت) وبدأ عرضه في العام الجاري 2013م، يروي المخرج كارلوس أفيلا سِير ثلاثة مصارعين مكسيكيين مقنَّعين، إل سانتو واحد منهم، كان لهم الأثر الأكبر في جعل القناع جزءاً، أو شرطاً من شروط الرياضة الحرة في المكسيك خلال العقود الأخيرة، على الرغم من أن نشأتها هناك تعود إلى ما قبل ثمانين عاماً. ومن المكسيك، خرج هذا التقليد ليستهوي مصارعين كثيرين من مختلف الجنسيات.
وقناع المصارع المصنوع عادة دائماً من المطاط أو من قماش مطاطي، لا يلعب أي دور على صعيد الحماية. بل هو للف وجه المصارع بغموض قد يُرهب الخصم، أو يجعله يشعر أنه بصدد مواجهة مخلوق غير إنساني ومجهول.. ناهيك طبعاً عن أن القناع يُخفي تعابير الألم أو الخوف التي قد ترفع معنويات الخصم، أو تهشِّم صورة البطل أمام الجمهور.. وبذلك يكون دوره نفسياً بحتاً. وصرنا نعرف اليوم الدور الذي تلعبه العوامل النفسية في أي مواجهة من أي نوع.
وماذا عن اللصوص؟
بخلاف الصور الكثيرة التي يمكنها أن تخطر على البال عندما نسمع كلمة «قناع»، فإن مجرَّد سماع الكلمتين «شخص مقنَّع» سوية ترتسم في الذهن فوراً صورة جريمة ما، وتحديداً السرقة، بكافة أشكالها، سواء أكانت عملية سلب، أم نهب، أم من خلال التسلل..
فمن الطبيعي أن يخشى اللص افتضاح هويته، وإذا ما أحسَّ أن هناك أي احتمال بأن يُشاهد، لجأ إلى القناع الذي يُخفي معالم هويته. وفي هذا المجال، يبدو أن اللصوص درسوا أكثر من غيرهم جماليات الهوية، وكم من مساحة الوجه يلزم للشاهد كي يتعرَّف إلى صاحبه، فاكتفى الكثيرون منهم بتغطية النصف الأسفل من الوجه بقطعة قماش، تُخفي الأنف والفم والذقن. أليست هذه صورة اللص التي وصلتنا من أفلام رعاة البقر الأمريكيين خلال القرن التاسع عشر؟
ولكن، إذا كان يكفي للص المسلح أن يُخفي هويته برفع المنديل الذي يلف به عنقه حتى أنفه، فإن حذر بعض اللصوص من سقوط القناع، أو من نزعه عن وجوههم دفعهم إلى إيجاد بدائل أجدى، وأشهرها هو قناع التزلج، المحاك من الصوف ويغطي الرأس والوجه بالكامل باستثناء العينين، ولا يمكنه أن يسقط
أو يُنزع عن الرأس بسهولة، مهما قام اللص بحركات بهلوانية، كما أنه من السهل شراؤه من دون إثارة أية شبهة.
ولكن أجدى أقنعة اللصوص هو بلا شـــك الجـــــورب النســــائي المصـــنوع من خيوط النايلون الدقيقة. فهو شفاف تماماً يسمح بالرؤية في كل الاتجاهات وبالسمع الجيد أيضاً، ولأنه مطــاط فإنه يضغط على معالم الوجه فيغيَّـــر أشـــكال الأنف والوجنتين والشـــفتين والحــاجبين، وفي ذلك ما يغيِّر ملامح اللص تماماً بحيث يستحيل التعرف عليه من دونه.. وأدوات اللصــــوصية هذه، هي على بساطتها كافية لإلغاء جدوى كاميــــرات المراقبة في مجال تحديـــد هوية اللص.. من دون أن يعني هذا أنه ليســــت لهذه الكامـــيرات وظائف أخرى تتغلب فيها على الجريمة مثل إطلاق الإنذار المبكر، وغير ذلك.
القناع في عصر الإنترنت (V)
وفي ختام جولتنا على عوالم الأقنعة نتوقف أمام أحدث الفصول في تاريخ القناع، ونعني به هذا الوجه الأبيض ذا الوجنتين المتوردتين بشكل مبالغ فيه، ويتميز بابتسامته المتحجرة والشاربين المقوسين واللحية الصغيرة فوق الذقن الرفيعة بشكل حاد. إنه قناع V الذي صار يطل علينا من أينما كان في العالم عبر شاشات التلفزيون، وغالباً في مشاهد المظاهرات والاحتجاجات الشبابية. وحكاية هذا القناع تستحق أن تُروى.
تعود قصة هذا القناع إلى سلسلة الكتب المصوَّرة بعنوان «في. فور فانديتا» التي بدأت بالظهور عام 1982م، واستوحت سيرة شخص إنجليزي قديم يُدعى غاي فوكس حاول أن يفجِّر البرلمان البريطاني عام 1605م، ولكن مؤامرته أحبطت. أما في الكتب المصوَّرة التي تدور أحداثها في المستقبل، بعد حرب نووية تركت بريطانيا بين أيدي حكومة بوليسية وفاشيَّة، فيتمرد شخص يُدعى V ويسعى إلى الانتقام من الذين أسروه ويحرِّض الناس من حوله، وينجح في النهاية في تفجير البرلمان.
كان استخدام القناع الذي يمثِّل غاي فوكس أمراً مألوفاً في الاحتفالات السنوية التي تقام في بريطانيا، (ولكن ابتهاجاً بفشل مؤامرته). ولكنه لم يخرج أبعد من ذلك، ولا حتى بعد صدور الكتب المصوَّرة.
ولكن في العام 2005م، تم تصوير فِلم «V for Vendetta» المستوحى من الكتب المصورة، وليس من شخصية غاي فوكس غير المحبوب. وكان القناع الذي يغطي وجه البطل المجهول، والذي صممه دايفيد لويد، من أقوى عناصر الفِلم. ومع ذلك لم يحرِّك ساكناً في عالم الأقنعة لمدة سنتين تقريباً.
في العام 2008م، وعندما نشطت مجموعة من قراصنة الإنترنت أطلقت على نفسها اسم «المجهولون»، احتاجت إلى عنصر بصري يعبر عنها دون الإفصاح عن هوية أعضائها، فاختارت قناع V للدلالة على نفسها، وعلى سعيها إلى محاربة كبريات الشركات المسيطرة على الشبكة. وبسرعة تلقف هذا القناع المحتجون على الأوضاع الاقتصادية في أمريكا، الذين عُرفوا باسم «احتلوا وول ستريت»، وراحوا يرتدون هذه الأقنعة في مظاهراتهم في مدينة نيويورك.. ولأن هذه الحركة الاحتجاجية تفشَّت في مدن وبلدان عديدة، راح قناع V يظهر أينما كان في مواجهة الشرطة من لندن إلى سيدني في أستراليا.. وأكثر من ذلك، في احتجاجات من كل الأنواع. ولكننا لو قرأنا بتمعن استخدامات هذا القناع، المستمرة اليوم في التوسع، للاحظنا أنها وإن كانت في البدء تقتصر على تخبئة الهوية عند قراصنة الإنترنت، فإنها تحولت بسرعة إلى رمز للإعلان عن موقف. فالمتظاهرون في «احتلوا وول ستريت» قادوا حركة علنية، ومعظمهم لم يجد أي حرج في الإفصاح عن هويته، رغم المشادات المحدودة مع الشرطة. وفي مناسبات عديدة أخرى، صرنا نرى «قناع V» كجزء من «زينة» المظاهرة، أكثر منه مسعى لإخفاء الحقيقة. فقد أصبح هذا القناع رمزاً للمطالبة بإحقاق العدل، وللدفاع عن الضعيف ضد المتسلط القوي. بعبارة أخرى، الإعلان عن موقف فكري وأخلاقي.. وفي هذا عودة إلى ما كان عليه القناع في أولى الوظائف التي عرفها قبل آلاف السنين.
قناع الأسى
وأمام هذا الحضور القوي للقناع في الفن المعاصر، كان ولا بد وأن يحضر أيضاً في فن النحت بعيداً عن المصدر الإفريقي. ومن أهم الأقنعة التي يمكن ذكرها في هذا المجال، «قناع الأسى»، أشهر الأعمال الفنية السياسية التي أنجزت في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ففي العام 1996م، أسدل الستار عن مجسم عملاق قائم على تلَّة مشرفة على مدينة «ماغادان»، تكريماً لذكرى الضحايا الذين عُذِّبوا وقضوا نحبهم في معسكرات «الغولاغ» بمنطقة كوليما ما بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن العشرين.
يبلغ ارتفاع هذا المجسَّم 15 متراً، وقد أسهمت في تمويل بنائه سبع مدن روسية، وصممه النحات إرنست نيزفستني، وبناه المهندس كميل كازاييف. وهو يمثِّل وجهاً ضخماً بأسلوب هندسي شبه تجريدي، تنحدر من عينه اليسرى دمعة عملاقة مؤلفة من شلال من الأقنعة الصغيرة، في إشارة رمزية إلى التناقض ما بين الظاهر والحقيقي (التهم المزيفة والبراءة الحقيقية) الذي كان وراء هلاك آلاف الأبرياء في تلك الفترة.
أما داخل هذا المجسَّم الذي يبلغ حجمه نحو 65 متراً مكعباً، فهو مؤلف من زنزانة نموذجية لما كانت عليه زنازين السجون في العهد الستاليني.
الرجل في القناع الحديد
لغز في تاريخ فرنسا
عندما شاهدنا فِلم «الرجل في القناع الحديد» الذي عرضته الفضائيات العربية أكثر من مرة خلال الأشهر القليلة الماضية، بدت حبكة الفِلم الذي أخرجه الأمريكي راندال والاس وقام ببطولته الممثل الإيطالي الأصل ليوناردو دي كابريو، أقرب إلى حكايات الأطفال المنسوجة من الخيال جملة وتفصيلاً.
إذ لا يُعقل أن يقوم ملك فرنسا بسجن شقيقه بعد إجباره على اعتمار قناع من الحديد كي لا يتعرَّف عليه أحد، وذلك لضمان عدم منافسته على العرش، كما لا يُعقل أن يقوم عدد من الفرسان بتحرير الأسير وتسليمه المُلك، وسجن أخيه الشرير بدلاً عنه بعد إلباسه القناع نفسه. ولكن.. لا دخان من دون نار. ففي البحث عن أصل هذه القصة، وجدنا أساساً تاريخياً لها، لا يزال حتى اليوم يشكِّل لغزاً في تاريخ فرنسا خلال القرن السابع عشر. «فالرجل في القناع الحديد» هو الاسم الذي أعطي لسجين فرنسي اعتقل في العام 1669م، أو في العام التالي، تحت اسم أوستاش دوجيه. وتنقَّل هذا السجين بين عدة سجون من بينها الباستيل، لمدة 34 سنة حتى وفاته في نوفمبر 1703م. ولكن سجَّانه بقي نفسه يتنقَّل معه من سجن إلى آخر. أما الهوية الحقيقية لهذا السجين فظلَّت موضع نقاش، وصدرت فيها عدة كتب، لأن لا أحد شاهد وجهه الذي كان دائماً مغطىً بقناع من قماش المخمل الأسود.
في العام 1771م، قال الفيلسوف الفرنسي فولتير في كتابه «أسئلة حول الموسوعة»، إن هذا الأسير كان يعتمر قناعاً من الحديد، وإنه الأخ الأكبر غير الشرعي للملك لويس الرابع عشر. وفي القرن التالي كتب ألكسندر دوماس صاحب رواية «الفرسان الثلاثة» وغيرها من الروايات التاريخية أن السجين الذي أجبر على ارتداء القناع الحديد «هو الشقيق التوأم للملك لويس الرابع عشر». فهل يمكن أن يكون ذلك صحيحاً؟
الحقيقة قد تشبه ذلك
الوثيقة التاريخية الأبرز التي تثير كل الشبهات، هي الرسالة التي وجهها المركيز دي لوفوا وهو وزير لويس الرابع عشر إلى حاكم سجن بينيرول، ويطلب منه فيها الاستعداد لاستقبال سجين يُدعى أوستاش دوجيه يتوقع وصوله بعد شهر!. وقد طلب الوزير من السجَّان سان مارس تحضير زنزانة تقع خلف أبواب عديدة بحيث لا يستطيع أحد سماع صوت السجين، وأنه في حال تعدَّى كلام السجين التعبير عن حاجاته المباشرة، يجب قتله فوراً. حتى أنه لم يكن من المسموح للسجَّان نفسه، بموجب هذه الرسالة، رؤية السجين إلا مرة واحدة في اليوم لتزويده بالطعام. واستناداً إلى رسالة الوزير دي لوفوا، فإن هذا السجين لن يكون صاحب متطلبات كبيرة طالما أنه «مجرد خادم»..
ولكن المؤرخين يعرفون جيداً أن سجن بينيرول كان مخصصاً آنذاك لكبار السجناء الذين يمكنهم أن يتسببوا بالإحراج لطبقتهم مثل المجانين أو بعض كبار الشخصيات، ومن نزلائه في تلك الفترة وزير المالية نيكولا فوكيه على سبيل المثال.. كما أن قيام الوزير لوفوا نفسه بالتحضير لسجن شخص ما قبل شهر من اعتقاله لا يبدو منطقياً على الإطلاق لو كان الأمر يتعلَّق بمجرَّد «خادم».. وأكثر من ذلك، فإن الخبراء الذين حللوا هذه الرسالة اكتشفوا أن الخط الذي كُتب به اسم السجين أوستاش دوجيه هو مختلف عن الخط في باقي الرسالة، أي أنه اختير وأضيف من قبل شخص آخر. وأيضاً، لقد تم اعتقال هذا السجين وإيصاله إلى السجن على يد ضابط يُدعى ألكسندر دي فوروا قائد حامية دانكيرك. وقد ثبت أن التوقيف تم في منطقة كاليه من دون إطلاع السلطات المحلية، كما أن عذر الضابط في التغيب عن مركزه كان يقول إنه في رحلة صيد في إسبانيا.. بعبارة أخرى، فإن كل من اهتم بهذه القضية وجد نفسه أمام مجموعة أكاذيب رسمية، تبرِّر كل أنواع التكهنات.
ومن ضمن هذه التكهنات، إضافة إلى ما ذكرناه آنفاً، هناك مع يقول إنه كان طبيباً، أو دبلوماسياً إيطالياً أو غير ذلك، وأنه سُجن لتورطه في فضائح تطال شخصيات كبيرة في البلاط.. ولكن في هذه الحالة، أما كان للاغتيال أن يحل المشكلة بشكل أفضل؟ بلى. ولكن يبدو أن هذا السجين كان غير قابل للاغتيال لأسباب أخلاقية!.
في العام 2002م، كتب المؤرخ هيو وليمسن كتابه: «من كان الرجل في القناع الحديد»، ووضع فيه آخر النظريات حول هوية الرجل مستخلصاً أنه كان في الواقع والد الملك لويس الرابع عشر.
تقول هذه النظرية إن الكاردينال ريشيليو كان على خلاف شديد مع ولي عهد الملك لويس الثالث عشر وهو أخوه الأمير غاستون دورليان. ولكيلا ينتقل العرش إلى هذا الأمير ارتأى الكاردينال تدبر ولي عهد من خلال تقريب أحد أبناء الملك هنري الرابع (غير الشرعيين) من الملكة آن زوجة لويس الثالث عشر. وهذا ما يفسِّر ولادة ولي العهد بعد أكثر من عِقدين من الزمن على زواج الملك، وبعد 23 سنة تحديداً من هجر الملك للملكة. ويفترض أن يكون الوالد غير الشرعي لولي العهد قد سافر إلى أمريكا، ولكنه عاد في ستينيات ذلك القرن إلى باريس لابتزاز الملك والدولة مقابل حفظ السر. فكان أن زُجَّ به في السجن.
وأياً تكن الحقيقة، فالمؤكد أن ذلك القناع الذي غطَّى وجه هذا السجين الفرنسي لمدة 34 سنة، قد أدَّى مهمته على أكمل وجه، فحفظ السر، وأضاف إلى التاريخ الفرنسي واحداً من أكثر فصوله غموضاً.
قناع شليمان
أصلي أم مزيَّف؟
في العام 1896م، اكتشف عالم الآثار الألماني هاينريخ شليمان في الحفريات التي كان يُجريها في ميسينا بتركيا (موقع مدينة طروادة القديمة) عدداً من الأقنعة الذهبية في بعض القبور القديمة، وواحداً من أجمل هذه الأقنعة هو ذلك الذي اكتشفه في الثلاثين من شهر نوفمبر في ذلك العام، وسماه قناع أغاممنون، واستند إليه ليؤكد حقيقة التاريخ الطروادي وحروبه كما وردت في إيلياذة هوميروس. ويُعد هذا القناع اليوم درَّة المتحف الوطني للآثار في اليونان. ولكن قبل نحو عشر سنوات، بدأ علماء الآثار يشكِّكون في أصلية هذا القناع، وذهب بعضهم إلى حد الإصرار على أنه مزيَّف من صنع شليمان نفسه! وقد خصصت مجلة «أركيولوجي» الأمريكية سلسلة مقالات لعرض مختلف الآراء والآراء المضادة في هذه القضية التي لم تُحسم في أي من الاتجاهين.
فقد استند المشككون في زعمهم أن هذا القناع مزيَّف بالسمعة غير العطرة التي كانت للعالم شليمان. إذ عرف عنه أكثر من مرة أنه زرع لُقىً أثرية في أماكن غير أماكنها الأصلية، وزعم اكتشافها، إما للحصول على تمويل إضافي يسمح له بالاستمرار في عمليات التنقيب عندما لا يعثر على شيء، وإما لتسجيل اكتشاف يدعم نظرياته في التاريخ وفي حقيقة بعض المواقع.
وإلى ذلك يُضيف هؤلاء وجود اختلافات أسلوبية كبيرة جداً بين هذا القناع والأقنعة الأخرى التي عُثر عليها في القبور المجاورة. منها أولاً أن هذا مقولب بالأبعاد الثلاثة، في حين أن الأقنعة الأخرى هي عملياً مسطحة تماماً، كما أن هناك اختلافات في حفر شعر الوجه والأذنين والعينين.. على ذلك يرد المدافعون بالإشارة إلى قواسم أسلوبية مشتركة بين هذا القناع وباقي الأقنعة. كما يقولون أن هذا القناع اكتشف بعد يومين من اكتشاف باقي الأقنعة، ولم يكن هناك من مبرر لاصطناع وجوده، لأن اللُقى الأخرى كانت في غاية الأهمية بحد ذاتها، ناهيك عن أن الحفريات كانت تُجرى تحت مراقبة شديدة من سلطات الآثار اليونانية. الأمر الذي يرد عليه المشككون بالترجيح أن شليمان أوصى على صياغة هذا القناع قبل فترة، عندما كانت اللُقى ضئيلة وغير ذات أهمية ملكية، وأنه بعد اكتشاف الأقنعة الأخرى ذات القيمة الفنية المحددة، أراد تعزيز الاكتشافات بهذا القناع.. وهو الأجمل.. أما الحقيقة، فلا تزال في هذا القناع وخلفه.
توت عنخ آمون: لباس من ذهب أكثر مما هو قناع
منذ اللحظة الأولى التي اكتشف فيها هاورد كارتر واللورد كارنافون قبر توت عنخ آمون عام 1922م، تأكد لهما وللعالم بأسره أن درَّة هذا الكنز الأثري الذي تضمَّن عدداً هائلاً من المصوغات والمشغولات اليدوية والتحف الفنية، هي القناع الذهب الذي كان يغطي رأس مومياء الفرعون حتى الكتفين. فتحولت صورة هذا القناع فوراً إلى أيقونة مفهومة عالمياً برمزيتها إلى كل تاريخ مصر القديم.
تبلغ مقاييس هذا القناع نحو 54 سم طولاً و38 سم عرضاً، ويزن نحو 10 كيلوغرامات من الذهب الخالص المرصَّع بالأحجار الكريمة الملوَّنة مثل اللازورد والأوبسيديان (زجاج طبيعي) والكوارتز. غير أن أهميته الكبرى تكمن في الحِرفية العالية المتمثلة في صناعته بواسطة تسخين صفائح الذهب ثم طرقها، وتشكيل الوجه بشكل يحترم حتى أقصى حد ممكن الشبه بالأصل.
أدهشت هذه التحفة العالم بأسره، وعندما خرجت من مصر للمرة الأولى في عام 1992م في إطار معرض بعنوان «كنوز توت عنخ آمون» جال على العواصم الكبرى في العالم لمدة سنوات سبع، احتشد الملايين على أبواب المتاحف لمشاهدتها. ففي لندن وحدها على سبيل المثال، حيث عرض هذا الكنز ما بين 30 مارس و30 سبتمبر من 1972م، شاهده أكثر من مليون وستمائة ألف شخص، وكان بعضهم يقف في طوابير الانتظار لمدة ثماني ساعات، مما جعل هذا المعرض الأكبر من حيث الإقبال عليه في تاريخ المتحف البريطاني. أما في أمريكا، حيث ظل المعرض قائماً ما بين نوفمبر 1976 وأبريل 1979م، فقد شاهده أكثر من ثمانية ملايين شخص.
وعلى الرغم من أن معارض عديدة للفن الفرعوني ولعصر توت عنخ آمون نظِّمت لاحقاً، فإن القناع لم يحضر فيها، لأن الحكومة المصرية ارتأت أن القناع «حساس بشكل خاص بحيث لا يمكن تعريضه للنقل والسفر بكثرة..»، بعبارة أخرى: «إنه أغلى من أن يجازف بركوب الطائرة..».
ولكن هل قناع توت عنخ آمون هو حقاً قناع؟
إن كانت مهمة الأقنعة تكمن في إخفاء الهوية، وعرض ملامح غير الملامح الحقيقية، فإن قناع توت عنخ آمون صيغ، كما أشرنا سابقاً، ليحفظ بالذهب الذي لا يتغير ولا يتبدل، الملامح الحقيقية للفرعون الشاب، لأن هذا التشابه ضروري للحياة بعد الموت وفق المعتقدات الوثنية عند المصريين القدماء. وبالتالي فإنه في جوهر مهمته يذهب عكس ما ترمي إليه عادة صناعة الأقنعة، ليصبح أقرب إلى التمثال منه إلى القناع. إلا إذا أضفنا وظيفة أخرى إلى وظائف الأقنعة، ولا شيء يحول دون ذلك، وبالتالي لا شيء يحول دون تصنيفه قناعاً.
قناع ثاج
من أجمل العيِّنات التي وصلتنا من الأقنعة المعدَّة للاستخدامات الطقسية في الحضارات القديمة، هناك القناع الذي عثر عليه علماء الآثار السعوديون ضمن أحد القبور الملكية عند اكتشافه في بلدة ثاج، شمال شرق المملكة عام 1998م.
وهذا القناع المصنوع من الذهب الخالص بواسطة الطي والطرق والذي يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، والموجود اليوم في متحف الرياض، كان يغطي وجه فتاة شابة، إضافة إلى ما كان يغطي جسدها من ذهب وياقوت ولآلئ.
كما عُثر بجوارها على أدوات عديدة ذات طابع جمالي يوناني، تؤكد أن ثاج كانت على اتصال بالحضارة اليونانية، إضافة إلى أن استخدام الذهب في هذا القناع يبدو بدوره مستوحىً من الثقافة اليونانية.
وثاج هذه، التي هي اليوم بلدة صغيرة، كانت قبل ألفي سنة مدينة عامرة، ومحطة مهمة على طريق التجارة بين بلاد ما بين النهرين واليمن.
القناع في الفن الحديث
بعدما ظلت الأقنعة الإفريقية في قارتها تؤدي وظائفها العديدة محلياً لقرون عديدة دون أي تفاعل مع أية ثقافة أخرى، وجدناها تخرج من إفريقيا في القرن العشرين لتلعب دوراً تاريخياً في تطوير الفنون التشكيلية في أوروبا، ولتشكِّل واحداً من أبرز المحركات التي حددت الاتجاهات الرئيسة في الفن الحديث. فمنذ بدايات القرن العشرين، راح المستعمرون الفرنسيون ينقلون الأقنعة الإفريقية إلى متاحف باريس، وما أن وقعت عليها أعين الفنانين حتى كانت الصدمة، التي فتحت باباً كان موصداً أمام الانطباعيين بعد نحو ربع قرن على ظهورهم. إذ بدا آنذاك أن الانطباعية وصلت إلى طريق مسدود، وكان الفنانون أمام خيارين، إما الاستمرار بالدوران في الحلقة الانطباعية إلى ما لا نهاية، وإما العودة إلى النيوكلاسيكية، أو إلى أية مدرسة سابقة يشاؤون.
فوجئ الرسامون في باريس بهذه الأقنعة، وبهذا الأسلوب المتحرر من كل الضوابط التقليدية في التعبير التي كانت مسيطرة على الفن الأوروبي بشكل عام منذ عصر النهضة، وليس أقلها تحرره من النسب بين العناصر التي يتألف منها وجه الإنسان، وانتصار الخطوط المستقيمة والأشكال الهندسية على الانحناءات والأشكال العضوية. في طليعة المتأثرين مباشرة بالفن الإفريقي الوافد حديثاً آنذاك، كان بابلو بيكاسو الذي راح يرسم لوحاته الزيتية بأسلوب أقرب ما يكون إلى أساليب نحت هذه الأقنعة، التي استحوذت عليه تماماً لمدة أربع سنوات تقريباً ما بين العامين 1906 و1909م، وهي المرحلة التي يسميها مؤرخو سيرة هذا الفنان «المرحلة الإفريقية»، التي أتت بعد «المرحلة الزرقاء» و»المرحلة الزهرية».
وإلى جانب بيكاسو، كان هناك أيضاً هنري ماتيس وجورج براك وعدد لا يحصى من الرسامين الفرنسيين الطليعيين آنذاك. ومن فن تحويل الخطوط العضوية في رسم الإنسان إلى خطوط هندسية مستقيمة، تمكن بيكاسو وبراك من وضع أسس الفن التكعيبي، الذي اشتقَّ منه في العقد التالي فن التجريد الهندسي.. ولاحقاً تيارات عديدة في الفن المعاصر.
وهكذا، بعد أن كان مقر الأقنعة الإفريقية التي كان الفرنسيون والإنجليز يجلبونها إلى بلدانهم، هو في متاحف الأنتروبولوجيا، مثل «متحف الإنسان» في باريس حيث اكتشفها بيكاسو أولاً، حظيت هذه الأقنعة باعتراف عالمي كقيمة فنية بحد ذاتها، وصارت عنصراً لا بد من حضوره في كل المتاحف الموسوعية، واحتلت مكانتها في سوق الفن إلى جانب أرقى فنون العالم، فبات لها معارض خاصة في صالات الفن الحديث، ومزادات علنية سنوية في أشهر الدور العاملة في هذا المجال، وتكالبت عليها المتاحف تكالبها على أغلى كنوز العالم. ويكفي للدلالة على ذلك، أن نشير إلى أن المتحف البريطاني دفع في العام 2003م مبلغ 14 مليون دولار لشراء قناع من الخشب يعود إلى قبيلة كانت تقيم جنوب بحيرة فيكتوريا، ونقله بعض الإنجليز إلى لندن عام 1789م.
وأدى هذا الإقبال الأوروبي (والأمريكي لاحقاً) على الأقنعة الإفريقية القديمة، إلى تنشيط حِرفة صناعة الأقنعة في معظم بلدان القارة السمراء، بهدف بيعها للسيَّاح. ويُقدَّر أن ما يُنتج منها سنوياً في الوقت الحاضر بالملايين.
تبقى الإشارة إلى أن سوق الفن الحديث وضع تصنيفاً لا مثيل له للفصل بين القناع الإفريقي الثمين والآخر الرخيص. فحدد الأول على أنه القناع الذي صُنع بهدف الاستخدام المحلي واستخدم فعلاً ولو كان ذلك قبل خمس سنوات، والثاني على أنه المصنوع للبيع ولو كان ذلك قبل خمسين سنة!!
القناع في المسرح
من الإغريق إلى برودواي
من المؤكد أن الإغريق استخدموا الأقنعة خلال تأديتهم لبعض طقوسهم الوثنية، ولكن ما هو أهم من ذلك هو في كونهم أول من حمَّل القناع وظيفة ثقافية وفنية بحتة بعيداً عن أي طقس وثني، وذلك من خلال اعتماده في فن المسرح، الذي كان بدوره من ابتكاراتهم الكبرى، ولدوافع «إخراجية» فقط.
فبخلاف ما هو عليه حال استخدامات القناع القديمة المثيرة للجدل، ثمة توافق بين المؤرخين على تفسير حضور القناع في المسرح الإغريقي، وإن لم يصلنا أي واحد من هذه الأقنعة لأنها كانت تُصنع من مواد قابلة للتلف بسرعة مثل أوراق النباتات والخشب والقماش.. وتقتصر معرفتنا بها على ما ورد بشأنها في النصوص التي وصلتنا من الألف الأول قبل الميلاد.
ففي المسرح اليوناني القديم، كان كل الممثلين يرتدون أقنعة ما عدا عازفي الناي. والسبب في ذلك هو أن هؤلاء كانوا يؤدون مسرحياتهم في الهواء الطلق على مدرجات عامة وكبيرة، بحيث يصعب على الجالسين بعيداً رؤية تعابير أوجههم، فكانوا يرسمون هذه التعابير بأشكال مبالغ فيها على الأقنعة بحيث تصل الرسالة إلى الجميع. كما أن استخدام القناع كان يُغني عن استخدام ممثلين كثيرين، إذ يكفي أن يغيِّر الممثل قناعه لتأدية أي دور آخر.
ومنذ ذلك الزمن، ظل القناع حاضراً أينما حضر المسرح. ففي القرون الوسطى، شهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر إطلالة لفن مسرحي وعظي عُرف باسم «مسرح اللغز»، تمحور حول الفضائل والمساوئ الأخلاقية، وكان استخدام القناع ضرورياً للتعبير عن قبح الأشخاص الذين يرتكبون المعاصي.
وفي تلك الفترة، كان العرب قد طوَّروا فناً ترفيهياً يقوم على الإضحاك، ويؤديه بهلوانيون ومهرجون اعتمدوا طلاء الوجوه بألوان زاهية. ومن هذا الفن الساخر، سمّي طلاء الوجه بغية تغيير ملامحه بـ «المسخرة»، ويرجّح الكثيرون أن تكون هذه الكلمة العربية أصل التسمية اللاتينية «ماسكارا»، التي لا تزال مستخدمة حتى اليوم في عالم التجميل للمساحيق التي توضع حول العينين، والأهم من ذلك، أصل كلمة «ماسك» الإنجليزية والفرنسية التي تعني «القناع».
ومن المسرح الإيطالي في عصر النهضة المعروف باسم «كوميديا ديل آرتي» القائم على الإضحاك والمستوحى من فن التهريج وحتى يومنا هذا، كان القناع ولا يزال ضرورياً كأداة تعبير لما لا يستطيع الوجه الطبيعي أن يعبِّر عنه. فلا اختراع مكبرات الصوت ولا فن المكياج في العصر الحديث استطاعا القضاء على القناع كأداة تسمح للممثل بتقمص شخصية مخلوق آخر سواء أكان إنساناً أم حيواناً، كما هو الحال على سبيل المثال، في المسرحية المعاصرة «الأسد ملكاً»، درَّة المسرح المعاصر على خشبات برودواي في أمريكا.
اللثام..
قناع العرب
عندما نضع جانباً غطاء الوجه بطرزه المختلفة الخاص بالمرأة المسلمة، البعيد عن مفهوم القناع كما نتناوله في هذا الملف، كونه معتمد لأسباب واعتبارات أخلاقية متفق عليها، يمكننا القول إن اللثام هو قناع العرب.. هذا القناع المصنوع من القماش، وغالباً من القماش نفسه الذي يغطي الرأس في الحياة اليومية، والحاضر دائماً منذ الجاهلية، وحتى الحوادث التي تعصف بمصر منذ سنتين.. ولكن في أي إطار استخدم اللثام؟
خلال العام الماضي، كان يكفي أن تنشر الصحف المصرية خبر جرم ارتكبه ملثمون في مترو الأنفاق في القاهرة، ليندلع على هامش الخبر في المنتديات الإلكترونية نقاش حول اللثام ومدى ارتباطه إما بفروسية الأبطال وإما بالجريمة والدناءة.. والواقع، أن استخدامات اللثام في المجتمعات العربية قديماً وحديثاً تنوعت بتنوع استخدامات القناع في الغرب.
فقد استخدمه الفرسان لإخافة الأعداء أو للتسلل إلى صفوفهم، كما استخدمه اللصوص وقطاع الطرق، خاصة في الأرياف حيث معظم الناس يعرفون بعضهم. وفي استخدام اللثام «عبقرية» تفوق ما هو عليه القناع الصلب. إذ يمكن لأية قطعة قماش من الملابس أن تتحول إلى لثام خلال ثوان، لتعود في ثوانٍ أخرى قطعة ملابس لا يلحظ أحد ما كانت عليه، وغير قابلة لأن تضبط كدليل.
ولكن اللثام، وإن غلب عليه دور التنكر، فإن وظيفته الوقائية لدواع صحية ليست غائبة بتاتاً.
ألا يلف الكثيرون منا اليوم شماغ الرأس حول الأنف والفم لاتقاء الغبار عندما يكون الهواء مشبعاً به؟
بلى. ولكن هنا يتساءل البعض إن كان هذا الفعل الوقائي البسيط يُعد تقنعاً؟ ولو حتى كان الجواب إيجاباً، فمن المؤكد أننا بعيدون هنا عن صورة اللثام التقليدي بغموضه وشاعريته. غموض يعبِّر عنه مثلاً «البدوي الملثَّم»، وهو توقيع أديب عربي ظهر في «القافلة» و«الهلال» المصرية وغيرهما خلال النصف الأول من القرن العشرين، ليعرف القرَّاء بعد سنوات عديدة أنه الأديب الفلسطيني أبو خالد يعقوب العودات. وقد روت زوجته لاحقاً أنه اختار هذا الاسم عندما كان شاباً بعدما شاهد بدوياً ملثماً ومهيباً في أحد شوارع رام الله، وترك في نفسه أبلغ الأثر.
القناع في الشعر
بعيداً عن تعداد أبيات الشعر العربي التي ورد فيها ذكر القناع (غالباً بشكل مجازي) أو اللثام (غالباً بمعناه الدقيق)، وهي كلها موجودة على الإنترنت لمن يرغب، نتوقف أمام مفردة القناع في دور جديد لها في عالم الشعر العربي، وتحديداً في مجال النقد.
فقد صدر قبل أشهر عن دار الينابيع في دمشق كتاب للناقد رعد زبيدي بعنوان «القناع في الشعر العربي المعاصر»، يتناول فيه عدداً من الشعراء الذين نجحوا في استخدام «القناع» مثل بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتي وغيرهم..
وحول ما هية هذا القناع يقول الدكتور جابر عصفور: «هو رمز يتخذه الشاعر فيضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة تنأى به عن التدفق المباشر للذات».
ويضرب المؤلف عدداً كبيراً من الأمثلة عن القناع وأنواعه، منها على سبيل المثال السندباد الذي كان قناع صلاح عبدالصبور ليروي معاناته مع الإبداع من خلال ما لقيه السندباد من أهوال في قصيدة «رحلة في الليل».
كما كان السندباد نفسه قناعاً متعدد الوظائف عند خليل حاوي في قصيدة «السندباد في الرحلة الثامنة»، وعند علي الجندي في قصيدته «الدوار»، والسياب في قصيدة «رحل النهار».
الرجولة عند الطوارق
يمثِّل ارتداء الرجال للثام بشكل دائم عند شعب الطوارق في شمال إفريقيا حالة فريدة من نوعها. ففي حين أن وجه المرأة عندهم يبقى من دون غطاء، تُعد إماطة اللثام عن وجه الرجل عيباً أخلاقياً واجتماعياً. ولثام الطوارق المؤلف من القماش الذي يلف الوجه من أعلى الأنف حتى ما تحت الذقن، وغالباً يكون امتداداً لقماش عمامة الرأس، هو في معظم الأحيان أزرق اللون، ويسمَّى «ألاشو». ويصبح ارتداء هذا اللثام إلزامياً على كل الذكور عند وصولهم سن البلوغ.
يرد الطوارق استخدامهم للثام بهذا الشكل إلى معتقد شعبي يقول إنه «يدرأ الشر». وهو ما يفسِّره العلماء بسهولة، بقولهم إن الدافع الأساسي إلى اعتماد اللثام، كان دون شك للحماية من الغبار خلال الحل والترحال في بيئتهم الطبيعية – الصحراء الإفريقية الكبرى. وأن الأمراض الرئوية والمتاعب الناجمة عن استنشاق الغبار، هي الشرور التي يريد هؤلاء اتقاؤها اليوم.
وعند أبطال الكرتون
لإضفاء الصدقية على ما لا يمكن تصديقه
الرجل الوطواط، الرجل العنكبوت، الرجل المطاط… نعرف العديد من أبطال رسوم الكرتون، ولكننا لو تطلعنا إلى جردة كاملة بكل ما أنتجته مخيَّلة مؤلفي الكتب المصوَّرة خلال القرن العشرين وفي أمريكا وحدها، لوجدنا أن عدد هؤلاء الأبطال المقنعين يزيد على الخمسين، وقد طغت شهرة بعضهم على الآخرين بفضل تصويرهم سينمائياً، وبعضهم عدة مرات، مثل «الرجل الوطواط» و«الرجل العنكبوت»..
القناع عند هؤلاء الأبطال هو مجرد أداة شاعرية تطمس المعالم الإنسانية الحقيقية والواقعية، لتجعل البطولات الخارقة التي يقوم بها المقنَّعون قابلة للتصديق، أو على الأقل تضعها في إطار لا يحتمل النقاش، طالما أنه لا يزعم لنفسه أية صدقية.
وتميَّزت سلسلة «القناع» التي صوِّرت بدورها سينمائياً في فِلم حمل الاسم نفسه وقام ببطولته جيم كاري، بكون القناع فيها هو نفسه البطل، لقدرته على تحويل شخص خجول وانطوائي إلى بطل ذي قدرات تتجاوز بما لا يقاس ما يستطيع القيام به أقوى الأبطال.
أما أشهر أقنعة أبطال الكرتون فهو بلا شك قناع «زورو» البطل المكسيكي الذي رفع لواء نصرة الضعفاء والمظلومين ضد سادتهم من إقطاعيين وإسبان. ونظراً لأن الثقافة اللاتينية تحرص على اعتبار البطل وسيم الخَلق حكماً، صيغ قناع زورو من قطعة جلد أو قماش سوداء تغطي ما حول العينين فقط.. حتى يبقى من الوجه ما يؤكد هذه الوسامة.