قول في مقال

القراءة الرقمية
لماذا تُبقينا على السطح؟

تصاعد الحديث في الآونة الأخيرة عن تأثير الإنترنت والتقنية الحديثة على أنماط الحياة اليومية، وعلى تشكيل الثقافة والمعرفة، بل وحتي على طريقة تفكيرنا، ويجد المتابع لهذا الموضوع قلقاً من التأثيرات السلبية للإنترنت موجوداً عند قطاع عريض من متابعي ومستخدمي الإنترنت. فهد الحازمي يرى أن القضية تتجاوز في أبعادها العميقة، الآثار السلبية المباشرة التي تستوقف معظم المراقبين.

اعتبرت الإنترنت في السابق مجرد وسيلة، سواء للتعليم أو الترفيه أو ما سوى ذلك. وفي الواقع، إن ما نريد أن نثبته خلال هذه المقالة هو أن الإنترنت لم تعد وسيلة نستخدمها -فحسب- بل إنها أصبحت تمارس تأثيراً بالغاً على تفكيرنا، وتعيد برمجة عقولنا بحيث تصبح متلائمة مع سلوكياتنا الجديدة. إذ اتخذ هذا التأثير، الذي سنتطرق إليه في هذه المقالة، مسارين: التأثير على أسلوب تلقينا ومعالجتنا للمعلومات، والتأثير على أسلوب إنتاج هذه المعلومات والتفاعل معها.

الأعراض
الإنترنت يؤثر حتماً على عقولنا، أو بدقة أكثر، فإن سلوكياتنا اليومية على الإنترنت هي التي تمارس هذا التأثير. وهي تمارسه عبر تعزيز نماذج ذهنية محددة، من خلالها نتعامل مع العالم الخارجي. وقبل أن نوضح كيف تمارس هذه السلوكيات هذا التأثير، لنتحدث قليلاً عن هذه السلوكيات. إذ يمكن أن نقول إن هناك مَلمحين رئيسين يشكلان أساس سلوكنا اليومي على الإنترنت، هما: ضعف التركيز، والبقاء على السطح.

بالنسبة إلى ضعف التركيز، نذكر أنه بالكاد يستطيع القارئ إكمال قراءة مقالة طويلة دفعة واحدة من دون أدنى أي تشتيت، وهو الأمر الذي لم يكن يحدث من قبل حينما كنا نقرأ الكتب الورقية. بل إن تركيز القارئ سريعاً ما ينفد بعد صفحات أو حتى فقرات قليلة، ليعود إلى عالمه الخاص. فإما أن يطالع تحديثات «الفيس بوك»، أو تحديثات «تويتر» أو موقع اليوتيوب -أو أي نشاط آخر- ويقضي معها قليلاً من الوقت قبل أن يعود إلى مواصلة القراءة. إنها المقدرة على الصبر في القراءة، حيث -وبشكل حاد- تقلصت المدة التي نستطيع التركيز فيها. ولذا، ويوماً بعد يوم، تزداد صعوبة هضم المواد الطويلة والثقيلة. ونتيجة لكل هذا، تحول أغلب الاستهلاك المعلوماتي إلى معلومات صغيرة، خفيفة، سريعة، ملونة، بما يتناسب مع طبيعة القدرات الذهنية في تلقي المعلومات ومعالجتها، والتي تحولت بفعل الإنترنت.

وأما بالنسبة للمشكلة الأخرى، والتي قد ترتبط بضعف التركيز، فهي فقدان المقدرة على الدخول في العمق، حيث تشعر بأنك تبقى دائماً وأبداً على السطح. سطح كل شيء من معلومات أو أخبار أو مقالات. فالمتعة والإثارة والفائدة موجودة في كل مكان على الشبكة، لكنها -كما يصف المدون علاء المكتوم- في كل اتجاه أيضاً، فإن كنت تلاحق كل شيء فإنك لن تمسك بشيء أبداً.

ما وراء الأعراض
السؤال المطروح الآن هو حول طبيعة تأثير تلك النماذج الذهنية على علاقتنا بالعالم الخارجي؟ بصيغة أخرى، ماهو أثر السلوكيات اليومية على الإنترنت على عقولنا وتفكيرنا؟ سأقوم باستعراض هذا التأثير مجيباً عن سؤالين رئيسين: ما أثر الإنترنت على عقولنا كأدوات لاستقبال المعلومات ومعالجتها؟ ما أثرها على طريقة إنتاج هذه المعلومات؟

ولنبدأ بالسؤال الأول وهو عن أثر الإنترنت على سلوكنا في استقبال المعلومات ومعالجتها. نحن هنا أمام إشكالين سنتعرَّض لهما على التوالي: الأول هو في تحليل عمل أذهاننا أثناء القراءة على الإنترنت وأثرها في تفكيرنا، والثاني هو في علاقة هذه القراءة بأسلوب تلقينا للمعلومات.

بالنسبة لتحليل عمل أذهاننا أثناء القراءة على الإنترنت، فقد ذكرنا في موضع سابق بأن التركيز الطويل على القراءة يزداد صعوبة مع زيادة الاستخدام اليومي للإنترنت. واحدة من ضمن التفسيرات لهذه الظاهرة، هو أن هذا عائد إلى انشغال ذهن متصفح الإنترنت بصناعة قرارات كثيرة بشكل سريع وعشوائي. النقر على هذا الرابط، الاستماع إلى ذاك المقطع، الرد على فلان، زيارة الموقع الفلاني.. وهكذا. واتخاذ القرارات هذه يتم تحت ضغط عاملي السرعة والعشوائية، بحيث تتهاوى في نفس الوقت القدرة على تقييم أغلب المعلومات والمواد التي نستقبلها من الإنترنت، لنصبح مستهلكين سطحيين مهووسين بالأشكال، غير مبالين بقيمة تلك المعلومات. وهذا خلاف الأمر الذي يحصل مع قارئ الكتاب والذي يبقى صافي الذهن منهمكاً في استخلاص المهم أثناء قراءته (ولا يوجد ما يشغله غير ذلك).

في ظل هذا التفسير، هل نحن قادرون على القراءة العميقة، وبالتالي قادرون على التفكير ومعالجة المعلومات بشكل عميق؟ هذا ما تحاول الإجابة عنه السيدة ماريانا وولف، والتي تعتقد أننا حين نقرأ على الإنترنت، فإننا نميل إلى أن نترجم ما نقرأه لأذهاننا فحسب، بما يعني أن قدرتنا على تحويل ما نقرأه إلى مادة ثرية مندمجة في روابطنا العقلية تظل محدودة جداً. خلاف الأمر الذي يحصل حينما نقرأ كتاباً بعمق ومن دون تشتيت. وتضيف وولف «القراءة العميقة لا يمكن أن تنفصل عن التفكير العميق».. وهذا يعطينا صورة واضحة عن مدى قدرتنا على استقبال ومعالجة المعلومات.

بالنسبة لعلاقة هذا اللون من القراءة بأسلوب تلقينا للمعلومات ومعالجتها، فهذا التأثير على عقولنا جعلنا نتوق لأن نستقبل كل المعلومات كما تعطينا إياها الإنترنت، أو كما نستقبلها منها. معلومات سريعة تأتينا بطريقة سريعة، وتتدفق باستمرار.. وهكذا نصبح مثل متزلج يتزلج على سطح بحر المعرفة بشكل «يبدو مثيراً».. بعد أن اعتاد على الغوص في نفس البحر!

ونحن -كمستخدمين عاديين- لسنا الوحيدين الذين تغيرت طريقة تلقيهم للمعلومات، بل حتى الباحثين في أروقة الجامعات تغيرت أساليبهم في التعامل مع المعلومات متأثرة بالإنترنت!. ففي دراسة لجامعة كلية لندن عن عادات البحث على الإنترنت، استغرقت سنوات خمس، قام العلماء باختبار عادات الباحثين الذين يزورون موقعي بحوث مشهورين. في النهاية، كتب القائمون على هذه الدراسة ما معناه: «إنه من الواضح أن المستخدمين لا يقرأون في الإنترنت كما يقرأون قراءة تقليدية، وبكل تأكيد هناك إشارات على أشكال جديدة من القراءة تنشأ مع ظاهرة التصفح السطحي للعناوين وفهرس المحتويات وملخصات البحوث لتحقيق إنجازات وهمية عاجلة. إنهم في الغالب كما يبدو، يلجأون للإنترنت لكي يتجنبوا القراءة بالشكل التقليدي».

السؤال الآخر كان عن طريقة إنتاج المعلومات والتفاعل معها، وأثر الإنترنت فيها. فللإنترنت أثر في تعزيز التفكير الجمعي والاستجابة له. وسنشير إلى دراستين إشارة سريعة فحسب. فقد أجريت دراسة من قِبَل المعهد الأمريكي الوطني للاضطرابات العصبية والسكتات الدماغية تقول إن تعددية المهام في الإنترنت تجعل الناس أكثر اعتماداً على الأفكار والحلول المتاحة على الطاولة للنقاش، بدلاً من أن يخوضوا التحدي ويبتكروا طرق تفكير جديدة. كما أجرت جامعة شيكاغو دراسة أظهرت أن الأوراق والبحوث الأكاديمية بدأت تشير إلى مصادر ورقية أقل، بعد أن توافرت المنشورات على الإنترنت.

نظرة أخرى
هناك دلائل حديثة جداً تشير إلى تحول في التعاطي مع المعلومات على الوجه الذي ذكرناه سابقاً. وقد تبشر هذه الدلائل بلون جديد في هذا المجال.

ففي ظل زيادة تدفق المحتوى الرقمي من تطبيقات الحاسب إلى الأجهزة اليدوية (آي باد، كندل،…)، وفي ظل احتلال تطبيق الكتب في «الآي باد» أعلى التطبيقات تحميلاً في متجر آبل، وفي ظل الزيادة المطردة لمبيعات الكتب الإلكترونية، يبدو أننا مقبلين على تحول في علاقتنا بالمعلومات وبطريقة تلقيها. حيث تشير الدلائل الأولية إلى وجود مقدار هائل من المعلومات، ومقدار كبير من التقنيات والوسائل، بما يعني أننا ربما سنكون أمام أسلوب حديث يدمج بين المعلومات والوسائل لكي نصبح أمام طريقة غير تقليدية لعرض المعلومات، و(قد) نكون حينئذ قادرين على التعمق في المعلومات بشكل أفضل مما نفعله حالياً في الإنترنت. على كل حال، ليس السؤال عن مدى طرق هذه التقنيات هو الأهم، بل السؤال الأهم هو هل ستتجاوز هذه التقنيات الجديدة مشكلات الإنترنت لتجعلنا أكثر تركيزاً؟ أم أنها مجرد تقنيات سطحية لا يمكن أن تتجاوز عمق المشكلة فتقدم جميع وسائل التشتيت تحت مسمى دعم الشبكات الاجتماعية؟

سننتظر، ونرى.

أضف تعليق

التعليقات