الفن الرقمي هو شكل تعبيري جديد، يرسِّخ اليوم مكانته أكثر فأكثر إلى جانب وسائل التعبير الفنية التقليدية. إنه الفن الذي ننتجه باستخدام الأجهزة الرقمية. والمقصود بالأجهزة الرقمية الكمبيوتر والحواسيب اللوحية وألواح الرسم الرقمية والكاميرات الرقمية والماسحات الضوئية وغيرها.
ويندرج في الفن الرقمي التصوير بالكاميرات الرقمية و المسح الضوئي وصناعة الأفلام وإنتاج البرامج التلفزيونية وصناعة الرسوم المتحرِّكة والرسم الرقمي والقص الرقمي والتصميم الرقمي وتصميم المواقع وتأليف الموسيقى وكتابة الأغاني رقمياً وتصميم ألعاب الفيديو.. ولضيق المجــال، نتوقف هنا أمام الرسم والتلوين الرقميين؛ ونشأتهما وتطورهما، والفرق بينهما وبين الرسم التقليدي.
الرسم الرقمي هو الرسم بالأدوات الرقمية الحديثة، للحصول على نتائج وتأثيرات مشابهة للرسم التقليدي، مثل ما نراه من رسم زيتي أو مائي أو أكريليك أو حتى رسم الفحم أو الباستيل وغير ذلك من أنواع الرسم التقليدية.
تحاول برامج الرسم الرقمية إعطاء إحساس الأدوات التقليدية من خلال تنويع الفرش وتنويع الألوان والملمس. وتتيح بعض البرامج إمكانية الحصول على تأثيرات طبيعية قريبة تماماً من واقع الرسم الزيتي مثلاً. وبعض البرامج الرقمية تتيح للمستخدم إمكان صنع فُرَشِهِ الخاصة بما يناسب طريقة استخدامه ورغبته وتسهيل حصوله على نتائج ترضيه.
كان أول برنامج رسم إلكتروني قد صمِّم عام 1963، تحت اسم “لوح الرسم”. وكان هذا البرنامج حجر الأساس لاختراع فكرة الحاسب اللوحي، الذي ظهر بالشكل البدائي في بداية السبعينيّات. ويعدّ برنامج الرسام ( MacPaint) أول برنامج رسم رقمي ينتشر انتشاراً تجارياً، وقد أُطلق أول إصدار منه عام 1984. أما برامج “أدوبي” مثل “إلاسترايتور” و”فوتوشوب” فقد ظهرت في نهاية الثمانينيّات، وظلت تتطور حتى باتت تلعب دوراً رئيساً في مجالات فنية عديدة.
تأثيرات عامة للتقنية الحديثة
ثمة علاقة تفاعلية متعددة الجوانب نشأت بين مكونات عالم الفنون بفعل ظهور التقنية الحديثة. فرأيناها أولاً تسهل اتصال الفنانين ببعضهم بعضاً، لتبادل الآراء والخبرة وتسهيل إقامة المعارض المشتركة أو حتى إقامة المعارض الافتراضية. وصحيح أن الرسم الرقمي وبرامجه تعمل على محاكاة الفن التقليدي والواقعي سواء في النتائج أو حتى في بيئة العمل، لكن منذ أن ظهرت التكنولوجيا الرقمية، أثرت برامج الرسم الإلكترونية في الرسم التقليدي والواقعي تأثيراً كبيراً. فقد سهّلت البرامج الرقمية تعلُّم الفن من تصوير ورسم وغيره. وبات سهلاً الحصول على المحاضرات والدروس الفنية عبر الإنترنت والوسائل الرقمية. وبات كثير من الفنَّانين يعمل اليوم على تخطيط لوحته مبدئياً بواسطة الكمبيوتر، ثم ينفذها على اللوحة الحقيقية. وبعضهم يلتقط صوراً للوحته ويعدّلها في برامج الرسم الرقمي قبل أن يعدّلها عملياً على إطار اللوحة. وليس هذا فحسب، بل تأثرت أساليب الرسم التقليدي بأساليب الرسم الرقمي من ناحية اعتماد الألوان والمواضيع وحتى طريقة العمل. ونستطيع القول إن بعض الفنَّانين اليوم ينتج فناً واقعياً بأسلوب رقمي، وكثير منهم يستخدم التقنية الرقمية لإنتاج فن واقعي أو تقليدي.
تعلّم الرسم بالأجهزة اللوحية
في وقتنا الحاضر، ومع التطور الهائل الذي وصلت إليه أجهزة الحاسب اللوحية ومع تنوُّع البرامج والتطبيقات فيها، انتشر وازدهر الفن الرقمي على نحوٍ أتاح للفنَّان القدرة على العمل بوسائل وإمكانات لا يمكن الحصول عليها في الرسم التقليدي، مثل العمل على طبقات، والتحكم بالشفافية، وإمكانية التراجع عن الأخطاء ومسحها والرجوع إلى الخطوات السابقة، وإمكانية تكبير الصورة من أجل العمل في التفاصيل، إضافة إلى القص وقلب الصور والتعديل للحصول على أفضل تكوين فني. وتتيح البرامج الرقمية للفنان خيارات لونية واسعة لا يمكن أن يحصل عليها في الرسم التقليدي، حين تحتوي صينية الألوان على ملايين الخيارات، كما تتنوَّع الفُرَش وأحجام اللوحات تنوعاً غير محدود. كما أن خيار تعديل حساسية الجهاز للّمس، واستخدام أدوات مثل الأقلام والفُرَش على اللوح، يسمحان للفنان بمجال أكبر للإبداع. وفوق هذا، فإن هذه اللوحات والألوان والفُرَش وكل الأدوات المتوفرة في العالم الرقمي لا تكلِّف الفنان أي شيء.
إن أكبر ميزة للأجهزة والبرامج الرقمية هي بيئة العمل النظيفة والمرتبة جداً للفنان. وتعمل البرامج على إعطاء الفنان إحساس الأستديو الحقيقي من توفير أنواع الفُرَش وإمكان مزج الألوان والعمل بجميع الأساليب من الأسلوب الواقعي إلى الانطباعي أو حتى الحصول على تأثير المواد المختلفة كالألوان المائية مثلاً.
ومع انخفاض أسعار الأجهزة اللوحية بشكل ملحوظ، وتوافر البرامج المجانية فيها وسهولة جعلها في متناول اليد، أصبح سهلاً جعلها أداة من أدوات الرسم أو حتى أداة لتعلم الفن الرقمي.
تتعدّد مصادر التعلم واكتساب المهارة وتقاسم الخبرة على المواقع التعليمية. وتوفر هذه المصادر شرحاً يسهل العمل في خطوات. وتكثر المواقع الأكاديمية والموسوعات والمجلات على “الإنترنت” وتسهل الوصول إلى هذا الفن الشاسع الحدود. وهناك كثير من مقاطع الفيديو التعليمية، وفصول تعليم التصميم والرسم الإلكتروني بواسطة الكمبيوتر الشخصي. ويتوافر الآن كذلك كثير من الفصول الخاصة لتعليم الرسم على الأجهزة اللوحية في الجامعات ومدارس الفن الواقعية. هذه الفصول هي فصول حقيقية، يعمل فيها المدرّس على جهازه الخاص، ويكون العرض على شاشة عرض ضخمة ويعمل الطلاب في أجهزتهم اللوحية الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، نجد هناك فصولاً افتراضية يتواصــل فيها الطالــب مع المدرّس في العالــم الافتراضي عبر برامج الاتصال الحديثة والتطبيقـات، ويقاسم زملاءه عرض الأعمال والخبرات.
الفن الرقمي على الأجهزة اللوحية
من التطبيقات الكثيرة على الأجهزة اللوحية التي تعطي المستخدم خيارات كثيرة وإمكانات متعددة لإبداع فنه نذكر البرامج التالية:
أرتريج Artrage
يحتوي هذا التطبيق على خيارات متعدِّدة كلون الورق ومقاييس إطار اللوحة وأنواع المواد المستخدمة من طباشير وأقلام وألوان مائية وزيتية وفحم وباستيل. ويعطي هذا التطبيق إحساس الرسم الواقعي، إذ يكون الرسم مباشراً على الشاشة ويَسهُل تغيير حجم الفرش والعمل باستخدام صينية ألوان واسعة ويوفر سهولة التوليف اللوني والمزج. ويسهل فيه دمج العناصر والتقنيات المختلفة. ولكن من عيوبه صعوبة التحكم وتغير مقاييس اللوحة في أثناء العمل عليها.
الآرت استديو ArtStudio
يحتوي هذا التطبيق على خيارات متعدِّدة لمقاييس أطر اللوحة وتنوُّع في الفُرَش التي يصل عددها إلى 20. وبالإضافة إلى ذلك، فإن لهذا التطبيق ميزة العمل على طبقات مستقلة بعضها فوق بعض، ويوجد فيه كثير من المرشحات والمؤثرات التي تعطي الفنَّان مجالاً أكبر للإبداع. كما يحتوي هذا التطبيق على كثير من الدروس التعليمية لتمكين المستخدم من الحصول على أفضل النتائج. ولهذا التطبيق ميزة مهمة هي سهولة فتح ملفاته في برامج “فوتوشوب” وغيره من برامج الرسم على الكمبيوتر. فهو يستقبل ملفات “فوتوشوب” ويصدر ملفات يمكن فتحها في “فوتوشوب” وغيره من البرامج الشهيرة. وهناك بعض التطبيقات التي تعطي إحساساً بالرسم الواقعي مثل تطبيق أورين إنك Auryn Ink. فهو صُمِّم ليعطينا رسومات مشابهة للرسم بالألوان المائية. ويُعدّ أفضل برنامج للحصول على تأثيرات الرسم المائي، وتتطابق نتائجه تطابقاً كبيراً مع الرسم المائي الواقعي. وهو يتيح للفنَّان إمكانية التحكم في شكل طرف الفرشاة، ويمكن تعديل كمية الماء واللون فيها، ويمكن تغيير الملمس وحتى أنواع سطح الورق ومقاييسه.
براشز Brushes
وتتوافر تطبيقات أخرى ممتازة وسريعة تتيح للفنان إمكانات أكبر وأوسع، مثل تطبيق الفُرَش “براشز” (Brushes). ويتضمن هذا التطبيق شريط أدوات بسيطاً ومرتباً، والعمل فيه على صينية الألوان واستحضارها أمر سهل، وهو سريع وحساس للمس.
وتعمل شركات الأجهزة اللوحية الآن في إنتاج أدوات مختلفة مثل الفُرَش والأقلام التي تباع كمكملاتٍ للجهاز اللوحي، لتجعل الرسم الرقمي تجربة مشابهة للرسم الواقعي وتردم الفجوة بين النوعين. وقد استغنى بعض الفنانين عن دفتر التخطيط واستبدل به جهازاً لوحياً أو هاتفاً ذكياً في أثناء تنقله أو عند رغبته في عمل تخطيط سريع. هذا الخيار حل مشكلة توافر الأدوات، فكل ما يحتاج إليه الفنان هو جهازه وإصبعه ويداه. وثمة ميزة أخرى هي عدم حاجة الفنان إلى مصدر آخر للضوء. فالرسم الليلي في الخارج أمر صعب فعلاً، لكن مع الأجهزة اللوحية لن يواجه هذه المشكلة، إذ إن الشاشة في الجهاز اللوحي مشعة للضوء على عكس كراسه الورقي الذي يحتاج إلى ضوء خارجي ليراه.
إن أكبر ميزة للأجهزة والبرامج الرقمية هي بيئة العمل النظيفة والمرتبة جداً للفنان. وتعمل البرامج على إعطاء الفنان إحساس الاستديو الحقيقي من توفير أنواع الفُرَش وإمكان مزج الألوان والعمل بجميع الأساليب من الأسلوب الواقعي إلى الانطباعي أو حتى الحصول على تأثير المواد المختلفة كالألوان المائية مثلاً.
أما عن أسلوب عرض اللوحات، فضلاً عن إمكان طباعة الأعمال وتعليقها على الجدار، أو حتى إقامة معارض افتراضية على الشبكة العنكبوتية، فالإمكانات والأفكار الجديدة بدأت في إثارة الدهشة لدى الجهمور. فهناك فنان يقول: ما الذي يمنع تعليق الجهاز اللوحي على الجدار من أجل عرض الأعمال عليه الآن؟.
فاليوم، هناك متاحف حديثة خصصت قاعات خاصة فيها لعرض الأعمال الفنية التي أُنتجت بالأجهزة اللوحية مثل “الآيباد” و “الجلاكسي” وغيرها. مثال ذلك “متحف لويزيانا للفن الحديث” في الدنمارك، الذي أقام في صيف 2011 معرضاً فنياً للفنان ديفيد هوكني تحت اسم “أنا أرسم في الآيباد” عرضت فيه رسومه التي رسمها بواسطة جهازي “الآيباد” و”الآيفون”. وقد علَّق على جدار القاعة نحو 20 جهاز “آيباد” عُرضت الأعمال فيها. وقد رافق المعرض أجهزة عرض ضوئية كانت تبث مقاطع فيديو توضح مراحل العمل في اللوحات.هذه إطلالة سريعة على الفن الرقمي وعلاقته بالتقليدي، وما هي الإمكانات التقنية المتاحة التي حضرت في عصرنا من أجهزة وتطبيقات، وما هي الفرص المشرّعة التي قدمتها وما زالت تقدِّمها للمستخدم. قد تجلب هذه التقنيات والتطبيقات فناً جديداً وإبداعاً، وهي في الوقت نفسه تسبب قلقاً لعشاق الفن التقليدي. ولكن لنرَ كيف تسير عجلة التطور على الصعيدين، وماذا يقدّم لنا الفنَّانون والتقنيون.