خمسون عاماً قضاها العم فارع حارساً لأول مدرسة نظامية في الجزيرة العربية، ألا وهي مدرسة الفلاح بجدة. علي مطير يرسم لنا صورة الرجل الذي يبدو في كل صباح، لأكثر من 18 ألف يوم، ممسكاً بجمر السنين والوحدة بيد، ليمسك بالأخرى مفاتيح هذه المدرسة العريقة، التي تجاوز عمرها اليوم 107 سنوات، منذ أن أنشأها تاجر اللؤلؤ محمد علي رضا زينل في أوائل القرن العشرين في قلب مدينة جدة
طوال نصف قرن، ظل العم فارع، محتفظاً بابتسامة لاتغيب عن وجهه، وبصرامته في متابعة كل شاردة وواردة، أمام أجيال مرت على هذه المدرسة، وشكلت فيما بعد عقداً من اللؤلؤ الحقيقي في جيد النهضة السعودية في مختلف الميادين، صقلتهم التجربة، وأخرجتهم مدارس الفلاح من محارتها التعليمية الكبرى، ليكونوا نواة لمشعل التنمية والتنوير ومكافحة الجهل، وتوريث العلم.
ورغم أن العم فارع، بدا لمَّاحاً، وصاحب ذاكرة تنافس المعلومات المتوافرة عن المدرسة في الموسوعة العالمية «ويكيبيديا»، غير أنه كان في حديثه أقرب إلى حافظ الأسرار التي تحويها جدران هذه المدرسة، من كونه راوياً للتاريخ.
عند الباب الأخضر
يقول العم فارع، وهو يتكئ على درفة باب أخضر اللون، من البوابة الرئيسة للمدرسة، «على هذا الكرسي أمضيت قرابة ثلثي عمري. وما أتمناه هو أن أموت وأنا أمارس عملي الذي اخترته لنفسي طوال هذه السنين، وأن يرزقني الله الثواب من عنده».
تبدو روح العم فارع تواقة لعهد مضى، يرى فيه أن المدرسة كانت في أوج نشاطها الصفي واللاصفي، «في الماضي، كان هنا مدرِّس اسمه عبدالحميد، مصري الجنسية، كان يعلِّم الطلاب الموسيقى» ويستذكر كيف أن حفلات مدرسية كانت تقيمها المدرسة لطلابها «كنت أشعر بالمتعة أكثر.. لكن رسالتي في العمل واحدة».
وحول ما إذا كانت المدرسة التي مثلت للعم فارع قصة حياته، سيطالها الهدم ضمن مشروع الأحياء العشوائية، الجاري تنفيذ مراحله الأولى في منطقة البلد وحي النزلة، جاءت إجابته شفافة كاللؤلؤ، وبلهجة أهل اليمن حيث تعود جذوره «ما يهدوها ..صدقني، هذا تاريخ لا يمكن أن يهدم».
خريجون مرُّوا من أمامه
وعبر البوابة الخضراء، التي قال العم فارع إنها طُليت بألوان مختلفة، حسبما يراه مدير المدرسة، فإن أسماء كبيرة في الوجدان السعودي، دخلت للتعلم من هذه البوابة، وخرجت إلى العطاء وإذكاء نار الإبداع في مشارب عدة. فمن بين خريجي هذه المدرسة نذكر الشاعر والأديب حمزة شحاتة، ووزير الحج الأسبق عبدالوهاب عبدالواسع، ووزير الصحة الأسبق حسن نصيف، ووزير البترول والثروة المعدنية الأسبق هشام ناظر، وشهبندر التجار إسماعيل أبوداوود، ورجال الأعمال محمد محمود زاهد، ومحمد ناغي، ومحمد إبراهيم مسعود، والدكتور إبراهيم طرابلسي، وإبراهيم يوسف زينل، ومحمد عبدالله علي رضا، وأحمد باعشن، والدكتور حسن عبدالرحمن باصبرين، والمهندس عبدالحليم مليباري.. وغيرهم الكثيرون.
وعندما تتجوَّل في ردهات مدرسة الفلاح، فلابد لك أن تقف عند مسميات بعض الغرف، من بينها غرفة «الهلال الأحمر المدرسي»، التي يقول عنها العم فارع إنها تقع ضمن نطاق المبنى القديم للمدرسة، وكانت تستخدم لأوجه النشاط اللاصفية لتعليم الطلاب على الإسعافات الطبية الأولية. مضيفاً «الخبرة جعلتني هنا حارساً، وطبيباً، ولاعب كرة، ومعلماً» ليكمل عبارته الجميلة قائلاً «ومتعلماً طوال عمري».
وعلى قسمات وجه حارس اللؤلؤ، يظهر تأثره بمناخ أهل الحجاز المتميز بالبساطة وعدم التزمت في الشكل أو التعامل، على عكس الصورة النمطية لحراس المدارس في الوقت الحاضر. فهو كما يقول مجاورون للمدرسة، حريص على متابعة أخبار الجميع، ويسأل عن جيرانه، ويشجعهم على متابعتهم لتعليم أبنائهم، بل ويتوسط في كثير من الأحيان لما فيه مصلحة الطلاب.
باقٍ في المدرسة
حارس العلم، بما له من روح مرحة، تشعر أن دمعة تكاد تطفر من عينيه كلما تذكر أحداً وهو يسرد قصة نصف قرن من الزمان، وحينما يردد عبارة «ماتوا ماتوا.. كلهم ماتوا»، يقولها ويضغط لا إرادياً بقوة على سلسلة مليئة بالمفاتيح القديمة والجديدة، حتى تبرز عروق يده من فرط التعب والتوتر الذي يخفيه خلف ابتسامة لاتفارقه أبداً.
ويشعر العم فارع بالفخر لأنه حصل على استثناء إداري بألاَّ يسرَّح من عمله رغم بلوغه سن التقاعد: إما أن يطلب التقاعد من تلقاء نفسه، أو يموت وهو على الكرسي الحديدي ذاته بجوار الباب الرئيسي لمدرسة الفلاح.
وعندما يتحدث العم فارع، عن المبنى القديم للمدرسة، ويشير إلى مرافقه المتعددة، تشعر معه، أن فِلماً سينمائياً يمر أمام ناظريك، يحكي قصة التراتبية في الطابور المدرسي، وقصص حفلات التخرج، وتكريم المتفوقين.. ويسرع في كلامه عندما يتحول الحديث إلى المبنى الجديد، وهي العلاقة نفسها التي تتداعى بين كونه لايعرف اسم مدير المرحلة المتوسطة للمدرسة، بينما يسرد لك، أسماء عائلات معظم المديرين الذين مروا عليه.
يقول حارس مدرسة الفلاح في جدة: «المعلمون في الماضي، كانوا سموحين، صبورين» فيما يكتفي بالصمت عن توجيه انتقادات لمعلمي اليوم، مكتفياً بالقول إن «فيهم البركة».
قرش عن كل طرد للمدرسة
تاريخياً تعود قصة إنشاء المدرسة إلى الوجيه محمد علي زينل الذي تقدَّم إلى الوالي العثماني في ذلك الحين، يعاونه في ذلك الشيخ عبدالرؤوف جمجوم بطلب إنشاء مدرسة نظامية فوافق الوالي، وقدَّمت السيدة خديجة عبدالله زينل، وهي ابنة قائمقام الشريف في جدة، حليها ومصاغها لشراء مبنى المدرسة وتمويلها.
وفي العهد السعودي حظيت مدرسة الفلاح بدعم كبير، خاصة بعد انهيار تجارة اللؤلؤ الطبيعي، وماتعرَّض له منشئ المدرسة محمد رضا من خسائر مادية، حيث أقر الملك عبدالعزيز قرشاً عن كل طرد يصل ميناء جدة الإسلامي كدعم لاستمرارية المدرسة، ولتدخل في مرحلة لاحقة تحت إشراف ماكان يعرف في ذلك الحين بـ وزارة المعارف.