حياتنا اليوم

العملي وماهو أفضل منه

«عملي»، بهذه الكلمة نمتدح أشياءً كثيرة، وخاصة في مجال الاستهلاك، أو عند تقييمنا لسلعة معينة. والمقصود بهذه المفردة أن هذا الشيء يوفر علينا أقصى ما يمكن توفيره من متاعب خلال استخدامه أو التعامل معه.

والواقع أن الطابع العلمي للمنتجات يكاد يكون السمة الأبرز والأكثر حضوراً في حياتنا اليومية المعاصرة، حتى أصبحت الدفة الموجهة لمعظم الصناعات كي لا نقول كلها.

ولكن يبدو أن الاهتمام بالطابع «العملي» للأشياء تحول إلى فلسفة تهدد بجرف الحياة اليومية والزخارف التي تصنعها بعيداً عن «الأفضل» الذي يجب أن يكون هو الطموح.

أكواب للشرب من الكرتون أو «الستايروفوم»، وكذلك الأطباق، وأدوات للطعام من البلاستيك.. كلها عملية، لأنها رخيصة الثمن وتوفر على ربة المنزل عناء غسل الأطباق بعد كل وجبة. ولكن..

لن نتناول هنا الجانب من زاويته البيئية، فقد أشبع درساً وإحصاءات، ولكننا نسأل: «هل تناول الطعام بمثل هذه الأدوات هو حقاً أفضل من تناوله على طبق من الزجاج أو الخزف، وبأدوات من معدن أو من فضة؟ وهل المفرش المقطوع من لفافة بلاستيك هو أجمل أو أفضل من مفرش من القطن الأبيض؟».

و«لا يحتاج إلى كي» أو «اغسل والبس»، بهذا يمتدح البعض الملابس المصنوعة من ألياف صناعية مقاومة للتجعد خلال غسلها. ولكن هل هي حقاً أفضل من تلك المصنوعة من القطن أو الحرير أو الكتان أو الصوف، وتحتاج إلى كي بعد غسلها؟

وهل كوب القهوة سريعة التحضير التي أدمنَّا على استهلاكها في المكاتب وحتى البيوت، هي ألذ طعماً من القهوة العربية التي نكاد أن ننسى طعمها نظراً لرغبتنا الحديثة في التخلص من «غلبة» الدلة وإشعال الفحم وتنظيف الفناجين لاحقاً..؟

وهل طعم الهمبرغر الجاهز ألذ من طعم الحنيذ السعودي الذي يتطلب طهوه ساعات طوال، أو الكبة الشامية التي تتطلب نصف يوم عمل؟

كلنا نعرف الأجوبة عن هذه الأسئلة، ومع ذلك، فإننا ننجرف أكثر فأكثر تجاه هذه الأشياء «العملية»، على حساب ما هو جيد وأفضل..

نعم، جيد وأفضل، وليس ترفاً، لأنه يصنع نوعية حياة يومية أفضل. أوَلَيس هاجس الوصول إلى حياة يومية أفضل هو ما كان وراء نمو صناعات وفنون لا تعد ولا تُحصى بدءاً من صناعة الحرير في الصين وصولاً إلى صناعة البلّور الثمين في أوروبا، مروراً بالسجاد الشرقي وآلاف المشغولات اليدوية في بلادنا؟ ألم تسهم كل هذه المنتجات في صياغة المعالم الثقافية والحضارية الخاصة بكل شعب على حدة، حتى أصبحت جزءاً من هويته؟

عملياً، لم يعد من الممكن لأي منا أن يدير ظهره تماماً لكل هذا الكم الهائل من الأشياء «العملية» التي تحيط بنا ويزداد عددها باستمرار. فهي توفر علينا الكثير من الوقت، بحيث يمكننا أن نخصص المزيد منه للعمل أو حتى لـ «لا عمل».. ولكن القضية التي تستدعي التوقف أمامها هي وجوب الحذر من أن تتحول هذه «العملانية» إلى نمط حياة ينسينا غيره، أو أن تتمكن من أن تنتزع منا الاعتراف بأنها هي الأفضل. لأن ذلك سيكون إعلاناً لموت الذوق الرفيع في نفوسنا بحواسه الخمس، وأيضاً موت الطموح إلى ما هو أفضل من «عملانية» هذه الأشياء الرخيصة التي هي بمعنى ما.. «مبتذلة».

أضف تعليق

التعليقات