ما الذي سيحل بالعالم الذي
نعرفه اليوم فيما لو خلا فجأة من البشر؟
سؤال افتراضي قد يقود الذهن إلى ما يشبه واحدة من رحلات الخيال العلمي. ولكن السؤال نفسه يكشف في طيَّات جوابه حقيقة حضارة اليوم، التي باتت قائمة على «الصيانة ، ويظهر هشاشة المنجزات العظيمة التي يتشدَّق بها كأدوات سيطرته على الطبيعة من حوله، ودلالات هذه السيطرة. هذا ما يكشفه لنا أشرف إحسان فقيه*، وهو يرسم الصورة المتخيلة، ولكن على أسس علمية، لما ستؤول إليه الحياة وكل منجزات الإنسان، بدءاً من الساعات الأولى التي تعقب اختفاءه عن وجه الأرض، وحتى اختفاء كل الآثار الظاهرة التي تدل على أنه عاش ذات يوم على سطح هذا الكوكب.
«ماذا بعد أن يختفي كل البشر؟ . هذا السؤال الرهيب في جوهره وتفاصيله قائم في الأساس على قاعدة كَونيَّة بسيطة: كل المخلوقات مآلها الفَناء.
لكن فلنأخذ هذه القاعدة البديهية ولنلوِ أطرافها قليلاً. لنتخيل أن البشر بالذات قد اختفوا من هذه الأرض. لنتخيل عالمنا اليوم وقد خلا تماماً من أي ابن آدم. لا يهم إن كان ذلك قد حصل في طرفة عين أو خلال فترة زمنية ما. المهم أننا سنقف عند اللحظة التي لم يعد فيها إنسان واحد على قيد الحياة. والسؤال الذي سنطرحه ليس عن كيف اختفى البشر.. لكنه عن المصير الذي ستواجهه الحضارة التي خلَّفوها وراءهم. عن مظاهر المدنية بأسرها: الطرق والسدود وناطحات السحاب، المساكن والمستشفيات والمصانع، مصادر الطاقة ووسائل الاتصال وحتى الأثاث المنزلي والحيوانات الأليفة، ناهيك بالتراث الفكري بصيغه التقليدية والإلكترونية. كيف سيمر العام الأول بلا بشر على هذه «المخلَّفات كلها؟ وإذا كُتِب للحياة -بصورها الأخرى- أن تستمر ألف عام بعد فَناء الناس، فكيف سيكون شكل العالم.. الذي شكَّلَته حضارتُنا.. من بعدنا؟
العالم من دوننا ميت.. حقاً؟!
لوهلة، يبدو إرغام العقل على تصور هذا المشهد صعباً وقاسياً. أن نتخيل مدناً بأكملها، نيويورك أو لندن، القاهرة أو جدة، خاوية على عروشها. بلا ضوضاء ولا زحام ولا ملايين الوجوه والأصوات والروائح البشرية التي تمتزج بها لترسم ملامح الحياة الإنسانية. أن نتخيل ساحة «تايم سكوير في نيويورك أو ميدان «التحرير في القاهرة فارغين وصامتين، وشوارع شانغهاي ودبي بلا أية حركة سيارات عبرها.
النجاح في استحضار هذه الصورة الخيالية سيقودنا إلى قناعة أوليَّة واحدة. تخيُّل أي من هذه الحواضر بلا بشر يدبون على أرضها.. تصورها من دون أصوات تخترق سكونها إلا حفيف الشجر، هديل الحمام بالنهار ونباح الكلاب الضالة بالليل سيدفعنا دفعاً لإعلان هذه الأماكن «مُدناً ميتة . سنعدها كذلك بدون أن نلقي بالاً لصورتي «الحمام و«الكلاب السالفتين!
الحقيقة أن النقطة الأولى التي يجدر بنا أن نعيها ونتأقلم معها وقد ارتضينا الخوض في هذه اللعبة الخيالية، وهي النتيجة التي سنخرج بها من هذا الموضوع بأسره، هي مدى هشاشة وهامشية وجودنا البشري. فقد اعتدنا نحن البشر أن نعد أنفسنا محوراً للوجود في مقابل باقي الكائنات التي تشاركنا الحياة بهذه الأرض. إذ إننا وعبر حضارتنا الصناعية التي أوصلتنا إلى قمة المدنية، أسأنا تأويل الكيفية التي (سُخِّرت) لنا بها هذه الأرض بمواردها وموجوداتها. حَولنا علاقة الشراكة بيننا وبين هذه العناصر إلى علاقة استنزاف واستهلاك من طرف واحد بصفتنا «كائناً مسيطراً . والحقيقة المدهشة التي سيأخذنا إليها تصور هذا العالم من بعدنا تتعلَّق بزيف هذه السيطرة، وبعظمة الخلق واتساع دائرة الحياة التي ستتجاوز وجودنا لتنتعش بل وتتعافى من الأدواء التي صنعناها نحن، مبتلعة عبر السنين أي أثر لحضارتنا التي نراها فائقة وعظيمة. العالم من بعدنا سترثه كل أشكال الحياة الأخرى الحيوانية والنباتية. ومخلفات حضارتنا سترتع وتمرح فيها الكائنات المجهرية قبل الكبيرة، هي وكل عوامل الطبيعة الأخرى.
الإنسان خلال تاريخه على هذه الأرض قد أوجد، دون سائر المخلوقات، علامة فارقة بين ماهو طبيعي وماهو صناعي. الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي تجاوز مرحلة التكيّف مع الظروف الطبيعية إلى التمرد عليها وتحديها. والإنسان كان الكائن الذي لوى ذراع البيئة وعناصرها وطغى بحضارته على توازنها فأخلَّ به.
ما سيحصل، في حال اختفاء الإنسان، هو عودة إلى الحالة الأولى.. قبل ظهوره. الغابات والمحيطات والصحارى ستدير ذاتها بذاتها كما خُلقت لتفعل منذ ملايين السنين. وفي اليوم الذي يختفي فيه البشري الأخير، فإن الحياة الفطرية ستتولى الزمام.. وستبدأ في تنظيف المشهد!
اليوم الأول بعد اختفاء البشر
ستنكشف متانة الحضارة البشرية المزيفة خلال الساعات الأولى بعد غياب الإنسان عن الساحة. فحضارتنا بكل تعقيدها وعظمتها الظاهرة هي في الواقع حضارة صناعية.. استمرارها قائم على الصيانة المتواصلة. وبانتفاء هذه الصيانة والحماية من العوامل الطبيعية، فإن معالم وجودنا ستقع في يد العدم. وستكون مجرد مسألة وقت لتنهار الواحدة تلو الأخرى.
لنفهم الصورة أكثر فإننا سننتقي إحدى المدن الكبرى. لتكن نيويورك أو القاهرة. مظاهر المدنية الأبرز في أي من هذه الحواضر هي شبكات الربط الكهربائي والاتصال والطرق. هناك أيضاً البنى التحتية الخاصة بالمياه والصرف الصحي، وأنفاق القطارات تحت الأرض. ثم المنظومة العمرانية التي تقوم فوقها: ملايين البيوت والمتاجر والمصانع والمستشفيات، ومحطات التكرير والتوليد. وملايين الأطنان من المواد الأولية والمصنعة التي تدخل في تركيب أضعافها من الآليات والمستحضرات. كل هذه وغيرها تعتمد كلياً على المُشغِّل الآدمي، وبغيابه ستتوقف عن العمل. إنما ليس فوراً.
خلال الساعات الأولى بعد غياب البشر لن يتغير المشهد العام تغيراً جذرياً. المحطات ستستمر في تغذية المدن بالكهرباء. المصابيح التي تُركت مضاءة ستبقى كذلك ومثلها إشارات المرور ولوحات الإعلانات وشاشات التلفاز التي لن تنقل سوى مشهد انقطاع الإرسال. سيبدو الكوكب كما لو أنه منزل هائل هجره سكانه بغتة.
للسخرية، فإن الوحيدين الذين سيفتقدوننا خلال ساعات غيابنا الأولى هم الحيوانات الأليفة والداجنة التي روضها الإنسان عبر ألوف السنين لتصبح معتمدة عليه في مأواها وغذائها. ومعها أيضاً ستستأخِرُنا الحيوانات المتوحشة المأسورة في الحدائق. هذه الكائنات كلها سيعضها الجوع وستحاول الخروج من البيوت والحظائر بحثاً عن الطعام.
مع نهاية اليوم الأول ستبدأ آثار غياب الإنسان في الظهور أكثر. المحطات والمصانع الذاتية التشغيل ستوقف نفسها من العمل مع تراكم إنذارات زيادة الحِمل وعدم وجود مراقبين يديرون المفاتيح اللازمة. مكائن توليد الكهرباء وتحلية المياه ستتوقف عن الدوران بعد نفاد وقودها الكربوني. حتى مفاعلات الطاقة النووية ستغلق ذاتها آلياً بعد 24 ساعة من غياب الإشراف. وهكذا فإذا كانت الليلة الأولى ستمر ومعظم الأضواء الصناعية تلفظ أنفاسها، فإن الليلة الثانية ستكون مثالاً للظلام الدامس عبر الكوكب بأسره. ويجادل البعض بأن آخر بقعة ستتلألأ بالضوء الصناعي على سطح الكوكب هي مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا الأمريكية التي تغذيها المولدات الهيدروليكية لسد «هوفر العظيم والمصممة لتعمل من دون تدخل بشري أسابيع وربما أشهراً!
لن يمر اليومان الأولان من دون حوادث طبعاً فهناك آبار ومحطات تكرير وقود وغاز تدور بلا مراقبة قبل أن تنقطع عنها الطاقة. وبوسعنا أن نتخيل إذاً بضعة حرائق هائلة عبر مدن العالم خلال هذه المدة. أما تحت الأرض فإن كارثة أخرى ستتكون سريعاً. فكل المدن الكبرى حول العالم تسبح في الواقع فوق بحيرات هائلة من المياه الجوفية التي تغذيها البحار والأمطار وبرك الصرف الصحي كذلك. هذه المياه تهدد أنفاق المترو والقطارات تحت الأرض. وما لا يعرفه الكثيرون هو أن هناك جيوشاً من الفنيين والأجهزة تتعامل مع هذه الظاهرة على مدار الساعة تجنباً لغرق شبكات المواصلات تحت الأرض. فمدينة نيويورك مثلاً تعتمد على 1700 مضخة لتخليص الطبقة الأرضية أسفل شوارعها من 130 مليون جالون مياه جوفية كل يوم. وفي غضون 36 ساعة من غياب البشر وتوقف الضخ فإن كل شبكات النقل تحت شوارع المدن الكبرى في العالم ستكون قد انغمرت تماماً في بحر من المياه الآسنة.
يمكن القول إن اليومين الأولين من غياب البشر سيكونان حافلين بالقذارة. فمع انقطاع الكهرباء فإن مخزونات اللحوم والثمار في ثلاجات البيوت والمتاجر وفي المستودعات ستتعفن كلها. كما وأن نسبة كبيرة من الحيوانات الأليفة ستكون قد هلكت جوعاً لتبقى جثثها حبيسة المنازل والأقفاص. الحيوانات الكبيرة والمواشي ستهيم على وجوهها -يوجد في العالم حوالي نصف مليار كلب مستأنس، و1.3 مليار رأس بقر- أما ملايين الجرذان والصراصير وسواها من الكائنات المعتالة على القمامة البشرية فستستفقدنا هي الأخرى وتترك مخابئها لتستكشف هذا الوضع الجديد.
كيف ستنهار الحضارة؟
يقول الخبراء إن حضارتنا الصناعية ستبدأ في التضعضع فعلاً مع أول شهر مارس/آذار يمر عليها من دوننا. حين يكون الشتاء بقسوته قد فرغ من تسديد ضرباته للمباني والهياكل المعمارية، فاسحاً المجال للمملكة النباتية لتكتسح كل ما في طريقها.
خلال سنة واحدة من اختفاء البشر، ستكون النبْتَات البرية والحشائش قد أطلت من كل شق وكل فجوة تسقط عليها الشمس عبر مدننا جميعها.. ومن ذلك شروخ الأسفلت وأسطح المباني الأسمنت والخشب وأنابيب المياه الجافة. وستكون الفئران قد أجهزت على كل فضلة غذائية وصلت إليها وواصلت الاقتيات على المكونات العضوية لمواد البناء والأثاث. أما الوحوش البرية التي عاشت يوماً على تخوم المدن فستكون قد استوطنت منازلنا ومكاتبنا منذ ستة أشهر كاملة. بعدما تيقنت من غياب الناس وجذبتها الوفرة الغذائية من قطعان المواشي الهائمة. مدننا الصحراوية ستكون أفضل حظاً من هذه الناحية. فباستثناء أشعة الشمس التي تصليها دوماً، فإن لا شيء سيغزو المباني المهجورة إلا أمواج الرمال والغبار الذي سيغطي كل سنتيمتر مربع من غرفها. وفي غياب وسائل التبريد، فإن المنازل المغلقة ذات الجدران العازلة ستتحول إلى أفران صغيرة تميع فيها هياكل المنتجات البلاستيكية والورقية. ومن نافلة القول إن هذه المنازل ستغدو هي الأخرى مآوي للكائنات الصحراوية.
خلال هذه السنة الأولى سوف تستعر حرائق الغابات من دون أن يطفئها أحد. ولا يستبعد أن تصل هذه إلى مراكز بعض المدن المهمة مثل شيكاغو ولوس أنجليس فتسوي عمارها الخشبي بالأرض. هذه الحرائق إذا ما قدر لها أن تطال مصافي النفط أو مخزونات الغاز الطبيعي في الأنابيب والمواد الكيماوية المكدسة بالمصانع فإنها ستستعر أكثر وستمحو المزيد من المعالم. لكن هذه لن تكون في مجملها أكثر من خدوش في وجه الحضارة.
التغيير الأشد تأثيراً ستحدثه ببطء وتؤدة عوامل من التغير المتطرف في الطقس، الرطوبة والصدأ، ومياه الأمطار المتجمعة داخل الشقوق والمتحولة إلى ثلوج شتاءً، الزحف الصحراوي ورواسب الملح.
هذه العوامل التي نتعايش معها كل يوم ونقاومها على مدار الساعة هي أكبر هموم مهندسي الإنشاء وفنيي الصيانة في كل مكان. الصدأ هو العدو الحقيقي لكل منتج فولاذي.. من قضبان الخرسانة التي تدعّم الملاط الإسمنتي وحتى جسر «البوابة الذهبية في سان فرانسيسكو. الأملاح التي تتراكم على الهياكل الحجرية تعمل في تفتتيها ببطء. هذه العوامل كلها ستمارس نشاطها من دون جيوش عمال الصيانة الذين كانوا يزيلون آثارها.
إلا أن القوة الطبيعية الأشد تأثيراً إطلاقاً سيمثلها الغطاء النباتي الذي عمل الإنسان ألوف السنين في إزالته كي يؤسس مدنه فوقه.. فيعود بعد غيابه ويسترجع مكانته وكأن شيئاً لم يكن. بدون أية بستنة أو عمليات جزّ، ستأخذ الأشجار في النمو خلال بضع سنوات عبر أسفلت الشوارع في الساحات ومواقف السيارات. أرضيات الملاعب ستتحول إلى غابات حقيقية تحجب أغصانها الشمس. وأما النباتات المتسلقة والحشائش فستفترش دواخل أي مبنى يمكننا تخيله: المستشفيات والمصانع والأبراج السكنية أيضاً.
بعد عشرين عاماً ستأخذ الهياكل الخرسانية في المباني في التآكل بعدما تمددت أجوافها بسبب تسلل الرطوبة إلى دعامتها الخرسانية، وستستعمر الحيوانات والطيور فجواتها. وخلال 25 عاماً من اختفاء البشر وتعطل السدود وأنظمة التصريف الصناعية، فإن أجزاءً أساسية من أمستردام ولندن ستكون قد انغمرت تحت الماء. ستكون المدن قد تحولت إلى غابات حقيقية تمرح فيها الوحوش ولا سيما تلك التي كانت مهددة يوماً بالانقراض والتي زال مهددها الرئيسي عن الوجود، وستختفي سلالات الحيونات الأليفة تماماً. وبعد 40 سنة من اختفائنا فإن هياكل المباني الخشبية (%90 من بيوت أمريكا) ستكون قد انهارت تماماً وسويت بالأرض بفضل الحشرات الآكلة كالنمل الأبيض، هذا إذا لم تكن الحرائق والنباتات المتسلقة قد أجهزت على نسبة معتبرة منها.
القرن الأول بعد الغياب
ستكون الفترة الأولى الممتدة ما بين قرن وقرن ونصف من عمر العالم من دوننا حاسمة بالنسبة لكل النفايات الحديدية التي تركناها وراءنا. وستشمل هذه 700 مليون سيارة المهملة في الشوارع، وملايين هياكل السفن والطائرات، إضافة إلى الجسور المعلقة والأبراج الفولاذية. بدون طلاء ولا استبدال أجزاء تالفة فإن قرناً كاملاً من الصدأ سيفتت التركيب الجزيئي للفولاذ ويحوله لمسحوق. هنا ستبدأ مدننا في الانهيار بالمعنى الحرفي للكلمة. الجسور العظمى حول العالم ستتهتك حبالها الفولاذية لتسقط في المياه التي امتدت فوقها. المركبات ستتآكل بما عليها من نباتات متسلقة وسيستحيل التعرف على أي هيكل معدني لسيارة بعد 150 سنة. أما الأعمدة الفولاذية التي ترفع أسقف الأنفاق تحت الأرض وترفع الشوارع المعبدة فوقها كذلك، فهذه بعدما غمرتها المياه الجوفية في الساعات الأولى من القصة، أخذت في التفكك والانهيار أخيراً ساحبة معها أرضيات الشوارع والأرصفة فوقها. لتنكشف الأدوار السفلية للمدن وتتحول مجاريها الداخلية إلى أنهار تجري على السطح الجديد.
خلال هذه الفترة أيضاً ستكون مخزونات النفط المكدسة في ملايين البراميل وداخل مستودعات الاحتياط، وكانت عصب حياتنا العصرية يوماً، قد اختفت بعد أن تكاثرت وتغذت عليها طيلة قرن سلالات من البكتريا المجهرية!
مصير الثروة النفطية سيتكرر أيضاً مع ثروة البشر الفكرية المدونة على الورق والقماش. هذه الكنوز محفوظة اليوم في المتاحف والمكتبات تحت ظروف حرارة ورطوبة دقيقة. خلال 100 عام من التقلب الحراري داخل مخازنها فإن أسعد هذه الكنوز حظاً -تلك التي لم تقع عليها أشعة الشمس ولم تأكلها الحيوانات باكراً- ستكون قد اهترأت تماماً وتحولت إلى غبار. الوثائق الإلكترونية مصممة لتعيش أكثر من ذلك في الظروف الاعتيادية. هذا إذا ضمنا ألا تكون قد تعرضت للبلل أو الاحتراق أو طمرتها الرمال والنباتات الطفيلية!
فترة انهيار الأبراج والمباني العظيمة التي ترمز اليوم لمدينتنا المهيبة ستبدأ بين 100 و300 سنة من تاريخ اختفاء البشر. المباني الفولاذية الصرفة -كبرج «إيفل الباريسي- ستنهار أولاً بفعل قرون من الصدأ والتقلب المناخي. ثم ستليها ناطحات السحاب الخرافية التي تضعضعت أساساتها بفعل ارتفاع المياه الجوفية وتشققت بُناها بسبب المياه أيضاً إضافة للأشجار والحيوانات التي ستستعمر كل طابق منها. ناطحات دبي ونيويورك وشيكاغو ستنهار خلال 3 قرون من الإهمال في مشهد مهيب لن يشهده كائن عاقل واحد.
بعد 500 سنة ستأخذ المباني الإسمنتية الحديثة في السقوط هي الأخرى بعدما استنفدت أساساتها ودعاماتها مقاومتها. قد يكون من المدهش أن تنهار هذه المباني خلال هذه المدة الوجيزة في حين أن مباني أثرية أخرى لا تزال وربما ستستمر قائمة بعدها. لكن المدهش أكثر أن منتجات حضارتنا المعاصرة تحمل في داخلها أسباب فنائها. فالخلطة الإسمنتية مدعمة بالحديد، وهذا كما ذكرنا سيقع ضحية الصدأ وهو ما لا يحدث مع الملاط الذي استخدمه أجدادنا قبل آلاف السنين. كما وأن المادة الإسمنتية الحديثة تحوي مياهاً وجيوباً هوائية أكثر بكثير من نظيرتها المستخدمة قديماً. ويعني هذا أن مباني منازلنا ومكاتبنا ستنهار قبل الكولوسيوم في روما ومعابد الكرنك وآثار بعلبك بوقت طويل!
ماذا سيتغير؟ ماذا سيبقى؟
بعد 1000 سنة من انسحاب الجنس البشري من مسرح الحياة، لا شيء من مظاهر حضارتنا.. مدننا، مصانعنا، مزارعنا ومنشآتنا.. لا شيء من هذا ولا سواه سيكون ظاهراً للعيان. ستكون الأرض قد عادت إلى حالتها الطبيعية الأولى، تقريباً.
ستكون مظاهر الحضارة التي لم تنهر أو تغرق أو تحترق قد اختفت تحت غطاء كثيف من النباتات والرماد. وفي المناطق القاحلة فإن زحف الرمال وعواصف الصحراء سيتكفلان بطمس المشهد البشري تماماً. هذا إذا لم يلف الأرض عصر جليدي ثانٍ يمحو ما كان قبله.
حتى المباني الأثرية الحجرية التي اتفقنا أنها تفوق مبانينا متانة، حتى هذه -باستثناء أهرامات الجيزة وأجزاء من سور الصين ربما- ستختفي خلف الشجر وتحت التراب ما لم يكن ثمة من يدفعهما عنها. ستجري الأنهار مجدداً مكان الشوارع التي بنيت فوقها. وستتغير تضاريس السواحل وفقاً لسطوة الأمواج. أما التضاريس الصناعية التي أوجدانها بأيدينا كقناتي السويس وبنما، فهي ستلتئم وتختفي كأنها لم تكن.
هذا التصور السوداوي ليس كله ضرباً من الخيال. بل هو مبني جزئياً على أمثلة صغيرة موجودة حولنا اليوم. هناك بقايا مدينة أنغكور الحجرية في قلب غابات كمبوديا وهي مهجورة منذ مئات السنين. هناك المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين ولم يستعمرها بشر منذ 1957م. وهناك مدينة بريبيات الأوكرانية التي غدت مدينة أشباح منذ كارثة تشيرنوبل النووية عام 1986م. هذه المواقع كلها تتيح لنا فرصة تأمل كيف ستتعامل الطبيعة مع مخلفات مدنيتنا.
إذا أغرقنا في الخيال أكثر، وافترضنا زيارة كائنات فضائية عاقلة لكوكبنا بعد مرور عشرة قرون على اختفائنا، فإن هؤلاء الزوار لن يعثروا غالباً على أي دليل يشير إلى وجود حضارة عاقلة قبلهم بهذا المكان. كل ذكرياتنا سوف يطويها العدم. لكن هذه العبارة الأخيرة ليست دقيقة تماماً. هناك مخلفات من حضارتنا الصناعية ستظل موجودة في تركيبة الجو والماء طويلاً بعد أن نرحل وبعد أن تختفي كل منشآتنا الكبيرة. فالمبلمرات الصناعية الكربونية، مركّبات البلاستيك التي تدخل اليوم في صناعة كل شيء تقريباً، الأكياس والحاويات والإلكترونيات والدهانات ومستحضرات التجميل والنايلون وقوالب الستايروفوم. كل هذه «الملوثات التي نشكو منها اليوم، هذه لن تفنى ببساطة. وستظل آثارها باقية في البيئة لآلاف السنين بعدنا. المطاط الصناعي لعجلات السيارات سيصمد هو الآخر. سينتظر من ينتشله من تحت الأرض يوماً كدليل إثبات.
حتى ثاني أكسيد الكربون الذي نلقي عليه بلائمة ظواهر الاحتباس الحراري، لن تُحل مشكلته مع كوكب الأرض بمجرد غيابنا. فالحسابات تشير إلى أننا لو توقفنا -تماماً- عن ضخ المزيد من هذا الغاز لطبقات الجو، فإن الكوكب سيحتاج إلى 100 ألف سنة كي تتوازن نسبة غاز الكربون في الأجواء والبحار وترجع إلى ما كانت قبل العصر الصناعي!
آخر ما سيتذكره الكون من آثار حضارتنا على الإطلاق موجات الإذاعة والتلفاز التي ستتردد -نظرياً- عبر الفضاء إلى الأبد. لكن هذه الموجات ستكون غير ذات قيمة حتى لو التقطتها حضارة متطورة أخرى. لأنها ستضعف وتفقد قدرتها على حمل أية رسالة مفيدة خلال مسافة لا تتجاوز سنة ضوئية واحدة.
لكن، هل يمر وجودنا على سطح هذا الكوكب هكذا من دون أي أثر إيجابي على كائناته؟ ألن تتأثر أي من المخلوقات الحية التي ستبقى بعدنا بالتجربة المشتركة التي خضناها معاً خلال بضعة عشرات ألوف من السنين؟
معظم الحيوانات المستأنسة التي تطورت بالتهجين، لن يستمر. كلاب وقطط الزينة الأليفة لن تعيش بعدنا أكثر من أسبوع. والأخرى الأكثر تحملاً سوف تفتك بها الضواري الحقيقية التي ستستعمر المدن. لا شيء يمنع تخيل حصول تزاوج بين بعض السلالات الداجنة التي قاومت الفناء والحيوانات البرية. وستنتج في النهاية أجيال متوحشة أيضاً إنما ذات صفات أشد تنوعاً.
الكائنات المعتالة على البشر، كالفئران والصراصير وحتى النوارس التي انتعش تعدادها بفضل الغذاء والدفء الذي وفرته البيئة الصناعية، هذه ستتعرض لانتكاسة شنيعة عقب اختفائنا، ثم ستتطور لتغدو أكثر اعتماداً على أنفسها. هناك على كلٍ، سلالة حية ستختفي تماماً معنا: حشرة القمل التي تعتاش على الجسم البشري، وشقيقتها التي تعتاش على نسيج القماش. هذان النوعان سيفقدان باختفائنا موارد حياتهما الوحيدة!
أما حضارتنا الزراعية فلن تصمد أبداً أمام الزحف الطبيعي. نباتات المحاصيل التي طورناها ونشرناها عبر ألوف السنين ستموت مع انعدام الرعاية البشرية وأطنان السماد الكيماوي. وتلك التي ستتكيف مع الظروف البرية ستنتج بالتأكيد ثماراً مختلفة عن التي نعرفها. ومع أن الإنسان قد حوّل %12 من مساحة الأرض إلى مزارع وخصص %3 فقط لأجل مدنه، إلا أن المدن ستصمد أكثر من المزارع بكثير.
بقيت البحار التي تحتل ثلاثة أرباع مساحة الكوكب. هذه ستنتعش من جديد بعدما كاد الإنسان يفتك بثروتها السمكية. والتلوث سينقطع عنها باختفاء سيول الصرف الصحي ومخلفات السفن والمصانع وحوادث بقع الزيت.
باختصار، يبدو أن الكوكب الذي نتشدق دوماً بأنه مُسخَّر بما فيه لأجلنا، سيتعافى وينتعش بعدنا. هل يكون هذا الاختفاء عقاباً مستحقاً على سوء استخدامنا للأرض؟ هل سنفسح بغيابنا المجال لسلالة عاقلة أخرى كي تحل محلنا وتجرب حظها في إدارة موارد هذا الكوكب؟ الحقيقة الحسابية تقرر أننا لو كان بوسعنا أن نضغط تاريخ الأرض الممتد أربعة مليارات ونصف المليار عام في فلم مدته 24 ساعة، فإن الفترة التي سيستغرقها ظهور الجنس البشري في هذا الفلم لن تتجاوز لقطة مدتها 30 ثانية.
ستة مليارات إلا واحداً
قضيتا «النهاية و«اليوم الأخير حاضرتان وراسختان في الأدبيات البشرية حول العالم بأسره. ولا يكاد تراث شعبي يخلو من روايته الخاصة لآخر أيام البشر على هذه الأرض. ولكن الأدباء في رواياتهم الخاصة بالنهاية لا يفترضون إمحاءً كاملاً للسلالة البشرية، إنهم غالباً ما يضيفون ذروة درامية بترك إنسان وحيد على قيد الحياة. شاهد أخير يقوم أيضاً مقام الراوي ومقام عين القارئ ولسانه في هذا العالم الخالي من البشر.. إلا واحداً.
أول الأعمال الشهيرة في هذا الصدد كانت رواية ماري شيلي التي ظهرت عام 1824م وعنوانها «الرجل الأخير (The Last Man). شيلي، التي اشتهرت قبل ذلك بروايتها «د. فرانكنشتاين ، قفزت في هذه القصة بخيالها إلى بدايات القرن الحادي والعشرين. حيث يُزهق طاعون مجهول كل أرواح البشر إلا نبيلاً إنجليزياً واحداً يتمتع بحصانة خفية تجعله الإنسان الحي الوحيد في العالم.
الموال نفسه كررته أعمال أدبية وفنية عبر السنين لعل آخرها الفلم الهوليوودي «أنا أسطورة (I Am Legend) مع تنويعات مختلفة هنا وهناك. وعبر الأعمال الشبيهة كلها: «حرب العوالم لهربرت ج. ويلز، ورواية «الطريق لكورماك مكارثي، وسلسلة (Y: The Last Man) التي تفترض وباء يقتل كل الرجال ويُبقي على النساء! فإن أسباب النهاية البشرية هي صناعة محلية، أو قادمة من كوكب آخر. لكنها تظل نهايات صناعية وقعت نتيجة أفعال أقدمت عليها كائنات عاقلة ما. المتأمل لكل هذه الخيالات الكئيبة لا يسعه إلا أن يتنبه لمقدار الخوف الذي يمزق ضمائر أصحابها. لتفسيرهم للحضارة وللمدنية كوحش لا يلبث أن ينفلت من عقاله ليلتهم أصحابه. أو على الأقل كتمرد على الحالة الأصلية أو مغامرة لا تلبث أن تنتهي ليعود كل شيء «إلى ما كان .. هذه الحالة الأصيلة عند هؤلاء المبدعين لا تتضمن مكاناً للبشر. إنها تستلزم زوالهم.. إلا واحداً.. البطل الذي سيحكي.
لو صح هذا الخيال، فإن هذا الناجي البشري الوحيد سيكون أتعس إنسان عاش على هذه الأرض. إنه أسوأ حالاً من روبنسون كروزو الذي قرأنا قصته وحيداً على جزيرة مهجورة. كان كروزو يحيا على أمل أن يرجع إلى الحضارة يوماً. أما هذا الناجي الأخير فيعرف تماماً ألا بشري سواه. إنه يعرف أن عليه أن يحيا وحده ضد الطبيعة الصرفة وضد المدن المنهارة وضد الحياة الحيوانية والنباتية التي تسنمت الآن سدة السيطرة. عليه أن يفعل ذلك كله من دون مبرر واضح، ولا هدف معين. حتى عذر «حفظ النسل لن يكون قائماً في حالته.
لو حصل وفنيَ الستة مليارات بشري إلا واحداً فإن هذا البشري الأخير قد لا يعمر طويلاً. قد لا يخوض أياً من المغامرات التي قرأنا عنها وشاهدناها في الأفلام الخيالية. إنه قد لا يتأخر في اللحاق ببقية البشر كثيراً. هو بانتمائه الفادح للمدنية الصناعية التي سلبته لياقته للانتماء الأصلي للطبيعة، إن لم يقتله الجوع أو تقضِ عليه الوحوش والجوائح سريعاً فإنه قد يسلب روحه بيده قبلاً. قد ينهار داخلياً وينهزم أمام محض فكرة وجوده المتفرد. ولتكونن هذه أقوى نهاية درامية لجنسنا البشري!
العالم من دوننا
The World Without Us
بدأت فكرة هذا الكتاب بمجرد مقالة، لكنها تطورت لتستولي على قلب وعقل الأكاديمي والكاتب الصحفي آلان وايزمان وتأخذه في رحلة عبر قارات العالم ليقف بنفسه على الدلائل النظرية والمحسوسة لقدرة الطبيعة على تجاوز السيطرة البشرية وعلى إدارة شؤونها بذاتها.
عبر 300 صفحة من القطع المتوسط، يأخذنا وايزمان في رحلتين متوازيتين. إنه يستحضر لنا المستقبل ويصور لنا الطريقة التي ستؤول إليها البيئة بعنصريها الطبيعي والصناعي إذا اختفينا كجنس حي. وهو كذلك، يفتح أعيننا أكثر على الحاضر. على الأثر السلبي الذي نخلفه وراءنا. وعلى الجرائر التي كنا سنندم في المستقبل على ارتكابها في حق الأرض والحياة الفطرية.
كتاب «العالم من دوننا يكشف لنا كم نحن غير محوريين ولا أساسيين بالنسبة للكوكب. كم هي الأرض متجدِّدة وقادرة على لأم جراحها العميقة التي أحدثناها بها. وكم هي صابرة علينا وسخية معنا. وإذا كانت فكرة اختفاء الجنس البشري وانهيار حضارته من بعده في ظرف بضع مئات من السنين مخيفة ومذهلة. فإن الأكثر إثارة للدهشة هو إهمالنا لصيانة هذه الأرض التي ننتمي إليها أصلاً بأكثر مما ننتمي للشوارع الأسفلتية ومباني الحديد والزجاج التي لن تصمد طويلاً بدون صيانتنا وإشرافنا أمام محض الماء والشجر.