في ظل الصوم خلال شهر رمضان المبارك, هناك عادات وتقاليد تزخرف الحياة اليومية للصائمين وتضفي عليها نكهتها الخاصة المميزة. منها ما هو موغل في القِدَم. ومنها ما يتجاوز الألف سنة. والكثير الكثير منها مشترك ما بين معظم أصقاع العالم الإسلامي, وإن كان لبعضها مكانة أكبر هنا مما هي هنالك. ولكن بعض هذه العادات والتقاليد واجه في العصر الحديث ظروفاً جديدة, كان معظمها ناشئاً من نمو المدينة الحديثة وتضخمها, واقتحام التكنولوجيا لحياتنا اليومية, وبداية تسللها منها إلى عادات وتقاليد عريقة. حول مظاهر هذا التحوّل يحدثنا
إبراهيم السحيباني وياسين سراي الصويلح.
يمكن لكل من بلغ الأربعين أو الخمسين من العمر أن يلحظ اليوم بعض التبدل الذي طرأ على العادات والتقاليد وبعض الطقوس الاجتماعية التي تميِّز الحياة اليومية خلال شهر رمضان المبارك.
ويمكن للائحة المتغيرات هذه أن تطول بنسب مختلفة بين مكان وآخر. سواء أكانت هذه التقاليد عريقة أم مستجدة استنبتتها الحياة العصرية, فإنها تنبع كلها من مصدر واحد: الرغبة في التعبير عن البهجة بحلول الشهر الفضيل, وتمييز محطات الحياة اليومية خلاله, التي تبقى قبل كل شيء أيام صوم وتعبد تقرباً إلى الله عز وجل.
اللافت في مظاهر هذا التحوّل هو أنها تطال في بعض الأحيان تقاليد قديمة جداً صمدت عصوراً وعصوراً, وهي تتضمَّن ظهور بعض التقاليد الجديدة, بعضها جيد وجميل, وبعضها الآخر يمكنه أن يكون أفضل.
الميل إلى التبسيط
لو شئنا اختصار الكثير من مظاهر التحوّل التي طرأت على العادات الرمضانية لقلنا إنها تميل إلى التبسيط أكثر فأكثر. ولو بدأنا بأولى هذه التقاليد, ونقصد تلك المتعلقة برؤية الهلال مطلع شهر رمضان لوجدنا أنها كانت تتم في الماضي من خلال مواكب رسمية وشعبية يرأسها القضاة, يعود تقليدها إلى عام 155هـ, عندما خرج قاضي مصر بنفسه لرؤية الهلال بفعل اضطراب وقع الناس فيه إذ أكد بعضهم رؤية الهلال، والبعض نفاها.
ويروي المستشرق الإنجليزي إدوارد لين مشاهد رؤية الهلال في مصر عندما زارها سنة 1240هـ فيقول: إن العادة جرت في مصر ليلة الرؤية أن يسير موكب المحتسب ومعه أصحاب الحِرَفْ كالطَّحانين والخبَّازين والجزَّارين, تصحبهم فرق الموسيقى وجماعة من الجند. وعند سماع خبر الرؤية, يعود بعض الجند إلى القلعة ويطوف الباقون في أحياء القاهرة وهم ينادون بأعلى أصواتهم: يا أمة خير الأنام.. صيام.. صيام.. صيام . وقد ظلت عادة الاحتفال بالمواكب منتظمة في مصر حتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين, ثم تلاشت تحت وطأة الضغوط المختلفة.
فاليوم يَرصد الهلال في جميع البلدان الإسلامية جماعة من الناس الموثوق بهم, وتعلن نتيجة الرصد رسمياً دار الإفتاء عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بالدرجة الأولى.
مدفع رمضان.. لم يعد مدوياً
تعد مكة المكرمة من المدن القليلة المتمسكة بمدفع رمضان عادة ورمزاً. ويمكن لسكان المنطقةالواقعة شمالي الحرم سماعه وقت الإفطار. أما الأحياء والمناطق البعيدة نسبياً, فعليها أن تعتمد على الأذان لمعرفة وقت الإفطار والإمساك. فنمو المدينة في العصر الحديث واتساع رقعتها بات يتجاوز مدى صوت المدفع, وهذا شأن معظم المدن الكبيرة في العالم الإسلامي.
وتتضارب الحكايات حول نشوء عادة إطلاق المدفع عند الإفطار والإمساك. فهناك من يردها إلى عام 859هـ عندما كان الأمير خوشقدم يتولى حكم مصر, وأهدي إليه مدفع جديد وشاء تجربته. وصادفت التجربة وقت الإفطار, فظن الناس أنها إيذان لهم بذلك. ولما رأى السلطان سرورهم قرر اعتمادها عادة يومية, وزاد على طلقة الإفطار طلقة أخرى للإمساك.
وهناك من يرد الحكاية نفسها تقريباً إلى عهد محمد علي باشا في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي. ولكن المؤكد خلال الحملة المصرية على بيروت في مطلع القرن التاسع عشر, أن إبراهيم باشا أمر بوضع مدفع فيها, وخصص له جندياً لإطلاق طلقة عند وقت الإفطار ووقت الإمساك والأوقات الخمسة, وكذلك إطلاقه أيام عيدي الفطر والأضحى. أما عشية العيد, فكان المدفع يطلق 21 طلقة إعلاناً لرؤية هلال شهر شوال.
انتشرت فكرة المدفع في معظم مدن العالم الإسلامي.. ولكن النصف الثاني من القرن العشرين لم يرحم المدفع في الكثير من هذه المدن. ففي القاهرة مثلاً حيث نشأ هذا التقليد, توقَّف إطلاق المدفع سنوات عديدة في الستينيات والسبعينيات لأسباب أمنية. وفي عام 1981م صدر قرار عن وزارة الداخلية المصرية يقضي إطلاق مدفع الإفطار من مكانه القديم في قلعة صلاح الدين الأثرية. غير أن الهيئة العامة للآثار اعترضت على ذلك بدعوى أن الطلقات المستمرة تؤدي إلى إحداث اهتزاز عنيف في أساس القلعة وجدرانها، فأمرت الوزارة بنقل مدفعين من المدافع الثلاثة إلى أحد المرتفعات القريبة من المكان, وأبقت الثالث أمام القلعة للذكرى.
وقبل ذلك بسنوات قليلة, كان مدفع الإفطار في المدن اللبنانية قد صمت تماماً بفعل اندلاع الحرب الأهلية, التي حرمت الناس أن يميزوا بين طلقة المدفع الرمضاني وطلقات مدافع الاقتتال. وبعدما انتهت هذه الحرب, عاد المدفع الرمضاني إلى الظهور. ولكن الكثيرين ماعادوا يعتمدون عليه للإفطار والإمساك لأنهم بكل بساطة لا يسمعونه. إذ نمت المدن واتسعت ضواحيها السكنية فلم يعد صوت المدفع يصل إلى جميع أرجائها.
الفانوس..
من الوظيفة إلى الرمز
ظلَّ الفانوس عصوراً طويلة وسيلة الإضاءة الأساسية في المدن الإسلامية وغيرها من مدن العالم. ولكنه تحول تدرجاً إلى رمز من رموز شهر رمضان المبارك. وكانت بداية التحوّل حسبما يروى في رمضان العام 358هـ عندما دخل المعز لدين الله الفاطمي القاهرة ليلاً فاستقبله أهلها بالمشاعل والفوانيس. ثم درجت العادة أن تضاء الشوارع بالفوانيس تسهيلاً لتحرك الناس والنشاط التجاري في الأسواق الذي كان يمتد خلال شهر رمضان إلى وقت متأخر. وبقيت الفوانيس تضيء الشوارع بين الغروب والفجر أيام الشهر الفضيل, حتى ظهور الكهرباء والاعتماد على الإضاءة الكهربائية.
جرَّدت المصابيح الكهربائية الفوانيس من وظيفتها تدريجاً, في الأحياء الغنية من المدن أولاً ثم من الأحياء الشعبية التي وصلتها الكهرباء متأخرة. وما هي إلا سنوات قليلة من القرن العشرين, حتى كانت الإضاءة الكهربائية قد عمَّت كل الأماكن وقضت نهائياً على وظيفة الفانوس. ولكن الفانوس عوّض خسارته هذه بتحوله إلى رمز. أصبح بدوره كهربائياً وبقي يضيء بعض الأماكن مثل المطاعم والمقاهي ومداخل المباني. حتى أن بعض أصحاب هذه الأماكن العامة يستبدلون مصابيحهم العصرية بالفوانيس خلال ليالي رمضان.
وفي هذا الصدد يروي أحد المسؤولين عن استيراد السلع لسلسلة متاجر كبيرة في المملكة أن عدد الفوانيس الكهربائية التي يستوردها لمتاجر السلسلة يتضاعف كل سنة. فالناس يحبونها ويعدونها أداة جميلة تميِّز حياتهم اليومية ولياليهم خلال هذا الشهر عما يعيشونه خلال باقي أيام السنة.
وباختصار, لا تحتاج رمزية الفانوس إلى الكثير من الإثبات. إذ يكفي أن نلحظ المجسمات التي تمثله والتي تنتشر في معظم الأماكن العامة خلال شهر رمضان, وظهوره في إعلانات المعايدة في الصحف, وعلى البطاقات وقوائم الطعام وشاشات التلفزيون, لنتيقَّن من أن هذه الأداة التقليدية انتصرت على متغيرات الحياة العصرية, وفرضت نفسها رمزاً دائماً يعزِّز مكانته سنة بعد سنة.
المسحراتي.. أقل حظاً من الفانوس
مرَّ التسحير خلال التاريخ بمراحل عدة كان لكل منها طابعها المتميز. وقبل أن تظهر شخصية المسحراتي التقليدية, كان لكل بلد إسلامي طريقته الخاصة في إيقاظ الناس لتناول السحور.
ففي مكة المكرمة, كان التسحير يتولاه المنادون, يصعدون أعلى جبل أبي قبيس وينادون بالسحور, ويستمرون في قراءة القرآن الكريم حتى يحل وقت الإمساك. كذلك كان التسحير في مكة المكرمة يتولاه المؤذنون, إذ كان مؤذن الحرم المكي يتولى هذه المهمة من أعلى المئذنة الموجودة في الركن الشرقي من الحرم, لقربها من دار أمير مكة, ومعه أخوان يجاوبانه ويقاولانه, ويرد عليهم المؤذنون من سائر المآذن مذكرين ومحرضين على السحور. وظهر لاحقاً في مكة المكرمة الزمزمي الذي كان يقوم بعمل مشابه لما يقوم به المسحراتي, وإن كانت تفاصيل عمله تختلف بعض الشيء.
وإذا ما انتقلنا إلى بغداد, نجد أنه شاع في العصر العباسي تغني الناس بنوع من الشعر يدعى القوما . وقيل إنه سمي كذلك بسبب قول البعض نياما.. قوما قوما للسحور . أنشأ هذا اللون من الشعر الرمضاني رجل بغدادي يدعى أبو نقطة. وكان الخليفة الناصر لدين الله العباسي قد أعجب بصوت هذا الرجل ورصانة عباراته, فكافأه على ذلك بأن كلَّفه بوظيفة سنوية هي إيقاظ الناس عند السحور. أما في الجزائر والمغرب وتونس فقد كان التسحير من طريق الأذان ثلاث مرات: مرة لإيقاظ الناس, وأخرى للتنبيه, والثالثة إيذاناً بالإمساك.
وبمرور الوقت, تطور التسحير, وظهرت شخصية المسحراتي التقليدية, الذي يوقظ الناس لتناول السحور من خلال التجول في الشوارع والحارات, والمرور أمام البيوت وهو يحمل طبلته التي يدق عليها بين الحين والآخر, مردداً بعض الأناشيد التي تحمل في طياتها النصح والإرشاد والتذكير بفضائل الشهر الكريم.
وبلغت مكانة المسحراتي في بلاد الشام شأناً لم تبلغه في أي مكان آخر. ففي دمشق مثلاً, تزايد عدد المسحراتية مع اتساع المدينة, حتى أصبح لكل حي المسحراتي الخاص به. وأصبح التسحير مهنة لها أعراف وتقاليد. فجميع العاملين فيها ينضوون في تنظيم على غرار ما كان لسائر الحِرف والصناعة الدمشقية. فهناك شيخ الكار, وهو الشخصية الأولى في التنظيم ويحتل قمة الهرم من حيث التسلسل الوظيفي, ومنصبه وراثي, وهو المسؤول عن كل ما يخص مهنة التسحير. وهناك النقيب, وهو الذي ينوب عن شيخ الكار في حال غيابه, بالإضافة إلى قيامه بالدوريات على مناطق المسحراتية للتيقن من عدم تقصيرهم في عملهم. بعد ذلك يأتي الشاويش والعضوات (الأعضاء) الذين يحلِّون المشكلات التي قد تنشب بين المسحراتية, أو ينوبون عمن يتغيب عن عمله لسبب أو لآخر.
وفي القدس, كان المسحراتي يطوف في الشوارع والأزقة والحواري, ضارباً طبلته, ومردداً كلماته المعتادة, شأنه شأن أقرانه في المدن العربية. وقد أصبح بعض المسحراتية في فلسطين من تراث المدن والقرى, والتصقت أسماؤهم بذاكرة الناس, يذكرونهم كلما استطاعوا الحديث عن الماضي وتقاليده. وكثيراً ما كان لبعض المسحراتية نشاط آخر. فقد كان بعضهم يجيد تغيير صوته وسحنته أثناء الكلام, ويلعب دوراً مهماً في نقل الرسائل بين القادة الفلسطينيين أثناء ثورة 1936-1939م. وكذلك بين القادة في الداخل, وبعض القادة الهاربين من بطش الإنجليز إلى دمشق وبيروت وبغداد.
استمر المسحراتي في أداء مهمته حيثما وجد حتى العقود الأخيرة من القرن العشرين, حينما اصطدم بتوسع المدن إلى ما يفوق قدرته على أن يجوب شوارعها. حاول بعضهم أن يستنجد ببعض معالم الحياة العصرية لمواجهة بعضها الآخر. ففي طرابلس لبنان المعروفة بمحافظتها على التقاليد, لجأ المسحراتي إلى ركوب سيارة مكشوفة تعينه في أن يجوب أكبر قدر ممكن من شوارع المدينة الحديثة, وهو يقرع على طبلته ويردِّد أناشيده. وبقيت أزقة المدينة القديمة وحدها تستيقظ على إيقاع موكب السحور الذي يضم أكثر من طبل ومجموعة من الرايات يحملها الصبية المرافقون للمسحراتية. ولا تعرف أحياء كثيرة من المدينة الحديثة شيئاً لا عن الموكب ولا عن ذاك الذي يستقل السيارة. بل تعتمد مثل سكان معظم المدن على المنبه في الساعة الإلكترونية أو في الهاتف الجوَّال.
المائدة في رمضان
يفرض الصوم إعطاء وجبة الإفطار (والسحور) اهتماماً خاصاً لتعويض الجسم مما افتقده طول النهار من أطعمة صلبة مغذِّية وسوائل. فظهرت خلال مئات السنين شخصية مميزة للمائدة خلال شهر رمضان, تختلف اختلافاً ملحوظاً عن المائدة اليومية خلال الأيام الأخرى.
وتختلف شخصية هذه المائدة اختلافاً كبيراً بين بلد وآخر, وأيضاً تقاليدها. ففي شبه الجزيرة العربية اعتاد الناس أن يفطروا على حفنة من التمر مع قليل من الماء أو الشاي. ومن ثم يتوجهون إلى أداء الصلاة على أن يعودوا لاحقاً لتناول وجبة الإفطار. أما في بلاد الشام مثلاً, فالإفطار يبدأ بنوع من الحساء, ويؤخذ كله دفعة واحدة. ولكل بلد أطباقه الرمضانية الخاصة: الفول المدمس, والسمبوسة, وسلطة الفتوش, والعصائر وأشهرها قمرالدين والعرقسوس والخشاف وغيرها.
أما الحلويات, فحدِّث عنها ولا حرج. إذ يروى أن معاوية ابن أبي سفيان كان أول من صنع الكنافة من العرب. فقد شكا إلى طبيبه ما يلقاه من آلام في جسمه خلال الصوم, فوصف له الطبيب الكنافة وتناولها عند السحور. ومنذ ذلك الوقت صارت الحلوى من أساس المائدة الرمضانية. فهناك أنواع من الحلوى يكثر استهلاكها في شهر رمضان مثل اللقيمات, والقطايف, والمهلبية.
وفي بلاد الشام حلوى لا تصنع إلا خلال شهر رمضان, مثل الكلاج, وهو عبارة عن رقائق من العجين محشوة بالمهلبية (الصلبة نسبياً) تُقلى بالزيت ثم تُنقع في السكر. كما أن هناك مصنعاً شهيراً للحلوى في طرابلس لبنان يصر على أن يبتكر نوعاً جديداً من الحلوى في كل عام لمناسبة شهر رمضان.
ولكن الاهتمام بالمائدة الرمضانية وإن لم يتزعزع تحت وطأة الحياة المعاصرة, فإنه لم يكن بمنأى عن تأثيرها السلبي والإيجابي.
من التأثير الإيجابي للحياة المعاصرة على هذا الصعيد, أن تطور المواصلات وكثرة الأسفار والمسافرين, أغنت الموائد الرمضانية أينما كان بألوان لم تكن تعرفها سابقاً. فكما حمل الشاميون معهم إلى الخليج أطباق الكبة والفتوش والبقلاوة, اكتشف الشاميون أهمية الإفطار على حبة تمر, وروّجوا لهذه العادة في ديارهم بعد عودتهم إليها.
وباتت كثرة المطاعم ومصانع الحلوى ومتاجرها في المدينة الحديثة, توفر للمستهلك أنواعاً لا تعد ولا تحصى من الأطباق والحلويات. ولكن ذلك أفقد الحلوى بعضاً من مكانتها في النفس, فما عادت تضاهي تلك الحلوى التي كانت تنهمك البيوت بتحضيرها للعيد وتشغل البيوت يومين أو ثلاثة في آخر شهر الصوم.
التهنئة برمضان, تحديد الكل.. إرسال
قد تكون التهنئة بحلول شهر رمضان المبارك من أجمل تقاليده الاجتماعية, وأعرقها, وأكثرها تعرضاً لتأثير الحياة المعاصرة. فتبادل التهاني فرصة لتوطيد أواصر العلاقات الاجتماعية بين ذوي القربى والأصدقاء والمعارف. ولهذه العادة المستحبة، وهي في الواقع واجب اجتماعي, صيغ عديدة تختلف باختلاف المجتمعات.
قديماً كانت التهنئة تقضي أن يزور الفرد من هو أكبر منه سناً أو مقاماً لتقديم التهنئة. ومع ظهور البريد, ظهرت البطاقات البريدية لتحمل عبارات التهنئة إلى أناس يقطنون في أماكن بعيدة عن المرسل. ثم تشوهت البطاقة, فصارت تحمل نصاً جاهزاً تجعل مرسلها يكتفي بالتوقيع عليها. ومع ظهور الهاتف, صارت التهنئة عبر مكالمة هاتفية, إلى أن ظهر الهاتف الجوال.
البطاقة ذات النص الجاهز, والمكالمة الهاتفية, رغم أنهما تلغيان شيئاً من أهمية اللقاء, وتفقدان التواصل بعض زخمه, تبقيان أفضل من رسائل التهنئة على الجوال.
رمضان كريم.. كل عام وأنتم بخير , يكتبها صاحب الهاتف على شاشة جواله, ومن ثم بكبسة زر واحدة يحدد الكل , ثم يضغط زر إرسال.. وكأنه قام بواجبه تجاه كل من يعرفه في أقل من دقيقة.
والأسوأ من كل ذلك أن الشقيق يتسلم من شقيقه مثل هذه الرسالة, بدليل أن التوقيع يتضمن اسم العائلة وأحياناً المنصب الوظيفي!! وأحياناً ترد إلى الشخص رسالتان تحملان الخطأ الإملائي نفسه, الأمر الذي يدل على أن المرسل لم يكلف نفسه عناء قراءة رسالة تسلمها ولا كتابة واحدة جديدة, بل اكتفى بتغيير التوقيع وإرسال الرسالة نفسها إلى الكل.
أهو ضرب من الذكاء في استخدام التكنولوجيا؟ أم تصرف يكشف عن لا مبالاة ويكاد يعلن صراحة: أنا لست مهتماً بتهنئتكم , أو إن تهنئتكم لا تستأهل أكثر من هذه الثواني من وقتي الثمين ؟ كثيرون بدأوا يمتعضون من هذه العادة المستجدة, وكثيرون باتوا يرفضون الرد عليها وكأنها لم تكن.
ختاماً, تبقى الإشارة إلى أن كل ما يجمع التقاليد والعادات الرمضانية التي أوردناها آنفاً, يعود في بعضه إلى ضرورات الحياة اليومية خلال أيام هذا الشهر الفضيل, وبعضها يرمي إلى تجميلها وتمييزها عن باقي أيام السنة. ولعل ما يلخص كل المتغيرات التي طرأت عليها في السنوات الأخيرة, يُعزى إلى الرغبة في الحفاظ عليها وتكييفها حيثما أمكن مع معطيات الحياة المعاصرة. والنتيجة شيء من الاختلاف هنا, ومبادرة موفقة هناك, وأقل توفيقاً في أماكن أخرى.