علوم

الطائرات بلا طيار في الأفق

picture4قد تكون طائرات «درون» التي تطير بلا طيار، أهم اختراع بعد الهاتف الذكي لجهة التأثير في الحياة المعاصـرة، اسـتناداً إلى تعدد استخداماتها رغم حداثة عهدها. والمؤسف أن صورة هذه الطائرات لا تزال مرتبطة في الوجدان العام بجانب استخداماتها الحربية، رغم أن الواقع مختلف تماماً عن ذلك. فحضور طائرات «درون» في فضاءات الحياة المدنية هو أكبر من ذلك بكثير. فكيف ستغيِّر هذه الطائرات حياتنا اليومية، وما مدى خطر انتشارها على سلامة استخدامها وسلامة الطيران المدني. أسئلة كثيرة تواجه قصة لا تزال في فصولها الأولى.

كم هو عدد الطائرات بلا طيّار، التي باتت اليوم تحلِّق في أجواء العالم؟ مليون؟ مليونان؟ عشرة ملايين؟ لا أحد يعلم! مع أن المعروف بلا شك أن المبيعات تتخطى مئات الألوف كل سنة، على نحو يبدو أنه خرج عن السيطرة. فالمحترفون والهواة، سواء بسواء، يجدون في الأسواق بسهولة كافة التقنيات والأدوات اللازمة لتجميع أساطيل من الطائرات بلا طيار، في مُحترفَاتهم وورشهم ومرائبهم وحتى بساتينهم.

إنهم الآن مثل أولئك الذين سبقوا الناس إلى امتلاك الهاتف الخلوي، روَّاد يحرّكون لدى الآخرين غريزة الفضول، وربما ابتسامة الاستغراب أيضاً. فالثورات التقنية حين تبدأ، يقابلها معظم الناس بعدم التصديق وربما بالتجاهل، لكنها تكسب الرهان في النهاية، وتُحدث التغيير العميق في المجتمع. وطائرات «الدرون»، ليست ألعاباً بسيطة، بل إنها تنتشر الآن انتشار النار في الهشيم، والأمور إلى تصاعد يوماً بعد آخر. تلك «الروبوتات» الطائرة باتت تحتل الأجواء!

ففي كل أنحاء الكرة الأرضية، صرت ترى هذه الطائرات الصغيرة تحلِّق، من باب التسلية، أو لأغراض قياس الريح ومراقبة الطقس، أو حتى لتوصيل البيتزا أو مبيعات شركة (أمازون). لقد بلغت تقنيات تطوير هذه النماذج من الطائرات سن الرشد، حتى إنها صارت الآن في متناول الناس العاديين، من حيث التكلفة. وهذا عنصر حاسم ينبئ باكتساح تجاري لابد آت.

العنصر الثاني للنجاح المحتم، هو تعاظم الأداء التقني نفسه: محرّكات فعّالة وصغيرة، وبطّاريات كهربائية قوية وطويلة العمر، مصنوعة من مكوّنات خفيفة للغاية، ولواقط لاسلكية منمنمة ودقيقة، ومعالِجات رقمية سريعة لا تحتاج إلى كثير من الطاقة، تماماً مثل ما نجده في الهواتف الذكية.

picture 6_2لا شك إذن في أن طائرات «درون» المدنية سوف تنتشر بسرعة. وتشير النشرة السنوية التي تصدرها المؤسسة الدولية لنظم المركبات بلا طيّار (Unmanned Vehicle Systems International) إلى أن في الأجواء الآن ما لا يقل عن 1708 نماذج مختلفة من نماذج الدرونات تحلّق على ارتفاعات تتراوح بين البضعة أمتار والبضعة كيلومترات، لأوقات تتراوح ما بين بضع دقائق وبضعة أيام. وهذه الطائرات تقوم بمهام مدهشة في تنوّعها.

عيون على العالم لمهام لا حصر لها
تُستخدَم طائرات بلا طيّار لمراقبة الحقول الزراعية. ففي ديسمبر 2013م، اشترت مجموعة برنار ماغريز الزراعية طائرات «درون»، من أجل مراقبة صحة المزروعات في حقولها، في منطقة بوردو الفرنسية.

وتراقب بعض الحكومات حدودها بواسطة «الدرون». فمنذ سبتمبر 2010م، تستخدم وزارة الأمن الأمريكية هذه الوسيلة، لتطيير دوريات على الحدود مع المكسيك، لضبط عمليات التهريب وتسلل المهاجرين.

وفي فرنسا، أعلنت الشركة الوطنية للسكة الحديد، في ديسمبر 2013م، عزمها على استخدام هذه الطائرات من أجل مكافحة سرقة كابلاتها، وهي ظاهرة تزداد انتشاراً وتصيب الشركة بخسائر متنامية.

وفي تشيلي، اشترت الحكومة طائرات كندية بلا طيّار من طراز «سيرينيتي» مزوّدة بعدسات مراقبة بصرية ودون الحمراء، من أجل اكتشاف الحرائق في الغابات، ووضع خرائط بهذا الشأن من أجل تحسين المكافحة والإطفاء.

وفي يونيو 2012م، اختبرت منظمة «الصندوق العالمي للحياة البرية» طائرات «درون» من أجل تعزيز مكافحتها صيد وحيد القرن المحظور، في اثنتين من المحميّات الوطنية في النيبال.

وقبل ذلك في 2011م، اختبر «المركز الفرنسي لأبحاث الطيران والفضاء» بنجاح، ملاحقة سفينة في البحر، بطريقة آلية. وقد تفيد هذه التجارب جهود مكافحة التهريب البحري والتسلل عبر البحار.

بل إن شرطة دبي، تجهّزت في سنة 2013م بطائرات «درون»، لمراقبة أحداث الشغب في الملاعب الرياضية. وقررت البرازيل فعل الشيء نفسه في مباريات كأس العالم لكرة القدم في 2014م.

وفي الأرصاد الجويّة، تستخدم وكالة الطيران والفضاء الأمريكية «ناسا» طائرتين «درون» من أجل ملاحقة العواصف الاستوائية، ومنشأ الأعاصير، في المحيط الأطلسي.

الدرون يسهم في إطعامنا
يمثل المزارعون فئة ذات ثقل اقتصادي، باتت تستخدم الدرونات أكثر من ذي قبل لإحداث نقلة نوعية في تخصصها الحيوي.

فهذه الدرونات تمكِّن المزارعين من الحصول على صور جوية للمحصول الزراعي بتكلفة زهيدة، إما بواسطة طائرات صغيرة ذات جناحين ثابتين، أو طائرات طوّافة «هيليكوبتر» ذات مراوح متعددة. وهذه الطائرات مجهزة بطيّار آلي، يَستخدم نظام الاستشعار العالمي «جي بي إس» وعدسة مصوّرة يتحكّم بها الطيّار الآلي. وعلى الأرض، برنامج حاسوبي، «يخيط» الصور العالية الدقة معاً، ليكوّن خريطة للحقل الزراعي.

في حالة المراقبة الجوية التقليدية، تحتاج الطائرة إلى طيّار محترف، أما في حالة استخدام «الدرون»، فيستطيع صاحب المزرعة قيادة العملية كلها من مكتبه الصغير، بدءاً من الإقلاع، حتى الهبوط. ويتولى البرنامج الحاسوبي برمجة الرحلة، حسب رغبة المزارع الموجِّه. ففي هذه الحال يغطي تصوير الحقل كل أرجائه بلا استثناء، وفقاً للخريطة المبرمجة، ويلتقط الصور اللازمة لتحليل وضع الحقل المجمل.

وتوفِّر وسيلة استخدام الطائرات بلا طيار، صوراً دقيقة جداً للحقول، لم يحصل على مثلها المزارعون من قبل. فهذه الصور أرخص كثيراً من تلك التي يحصل عليها المزارع من الأقمار الصناعية، وهي فوق ذلك أدق من غيرها. وأرخص بكثير من الصور التي يوفرها التصوير الجوي بطائرة عادية. فالطيار المحترف يتقاضى 1000 دولار في كل ساعة طيران. أما الطائرة «الدرون»، فثمة نماذج منها لا يزيد سعرها الآن على 1000 دولار.

Untitled-1أما الصورة التي يحصل عليها المزارع في نهاية الأمر، بعد جولة المراقبة الجوية الشهرية أو الأسبوعية أو اليومية حتى، فهي على ثلاثة أنواع: فمشاهدة الزرع من الجو يمكن أن تميط اللثام عن حال الرطوبة في التربة ومشكلات سقاية الأرض. كذلك يمكنها أن تبيّن للمزارع مواضع إصابة الزراعات بالفطر والأمراض المختلفة التي تُرى بالعين المجردة فيعدّل خطته لرش المبيدات. أما نوع التصوير الثاني، فيمكن أن يكون بمختلف أطوال موجة الطيف، مثل التصوير بالأشعة تحت الحمراء، من أجل تكوين صورة مركّبة، تبيّن مواقع الزراعة السليمة، وتلك التي أصابها مرض قد لا يكون مرئياً بالعين المجرّدة. وثمة نوع ثالث من التصوير، هو التصوير الدوري، فالبرنامج الحاسوبي يستطيع أن يكوّن صورة متحركة للتطوّر الذي يحدث في الحقل الزراعي، مستعيناً بالصور التي تُلتقَط أسبوعياً مثلاً، فيتنبه المزارع إلى ما يجري في حقله، من أسبوع لآخر.

إن فائدة مثل هذه المراقبة لحقول الزراعة الواسعة، هي إخضاع المحاصيل لإدارة علمية تمتلك كل المعلومات اللازمة للسيطرة على الوضع الزراعي. فلم يعد العصر عصر الزراعة اليدوية، التي لا تستفيد من التقدم الهائل في الأدوات والآليات التي وفّرها العلم، من أجل زيادة المحاصيل وتحسينها، بعدد أقل من اليد العاملة. فقد صارت آلات البذر الآلي للحبوب تعمل بدقة كبيرة، لا تتجاوز السنتمترات. وتوفر شبكات اللاسلكي الكثيفة سيطرة تامة على رطوبة الأرض، لمعرفة الأماكن التي تفتقر إلى الماء، وتلك التي تكتفي. فإذا أضيف إلى هذه، القدرة على رؤية كل ما يمكن أن يحدث للمحاصيل والتربة، بمراقبة جوية مستمرة على مدار الموسم، فإن النتيجة لا شك فيها.

يقدّر عدد البشر أن يبلغ عام 2050م، ما لا يقل عن 9,6 مليار نسمة. وهم يحتاجون جميعاً إلى الطعام. وأي تقدم في مضمار زيادة الإنتاج، في مساحة زراعية باتت محدودة، هو تقدم في الاتجاه الصحيح، لمواجهة مشكلة هائلة، لا يصح غض النظر عنها، ولا بد من التحسب لها بكل وسيلة ممكنة.

هندسة وآثار وكرة قدم
لا يسعنا أن نحصر مجالات استخدام الدرونات، لكننا سنأتي بمزيد من الأمثلة. ففي أواخر سنة 2011م، صوّر «درون» من صنع شركة «دياديس» 3000 صورة لجسر ميلو، في جنوب فرنسا، من أجل مراقبة أي تفسخ أو كسر في الأعمدة السبعة. وبذلك أمكن الاطمئنان إلى حسن سير بناء الجسر وسلامة بنيته.

وفي 2011م أيضاً استخدم جغرافيون من جامعة غان البلجيكية، طائرة «درون»، من أجل وضع خريطة ثلاثية الأبعاد لحقل حفريات أثرية، عمرها بين 2300 و2800 سنة، في مناطق نائية من ألتاي، على الحدود المشتركة بين روسيا والصين ومنغوليا.

وفي أواخر العام 2013م، أعلن عملاق التجارة الإلكترونية الأمريكي «أمازون»، مشروعاً لتسليم البضاعة إلى المشترين، بواسطة طائرات «درون»، تستطيع حمل 2,3 كيلوغرام، وهو وزن نسبة %86 من مبيعات الشركة.

وفي الصين، تختبر السلطات البلدية في بكين طائرة بلا طيار صممتها شركة «أفيك»، تبث في الجو مواد تقطّر الغازات الملوّثة للهواء، وتجعلها تسقط على الأرض. وتستطيع الطائرة المختبَرة أن تحمل 700 كيلوغرام من المواد المعالجة للتلوث.

وفي بداية العام 2014م، اشترى مطار جنيف في سويسرا، طائرة «درون»، من أجل مراقبة مدارج المطار والتيقن من عدم وجود عوائق عليها.

أمن الطيران المدني ومتاعب ستوجب حلولاً
picture of the cityولعل مثال المطار السويسري هو من الأمثلة النادرة التي تُقدم فيها سلطات طيران مدني على استخدام «درون»، في الوقت الذي تطرح فيه «ثورة الدرون»، معضلة أساسية هي معضلة أمن الطيران المدني، مع تنامي عدد الطائرات الصغيرة بلا طيّار في الأجواء، ومنافستها الطائرات المدنية حاملة الركاب.

فالأرقام تتحدث، وهي بالغة: عدد الطائرات التي تطير بلا طيّار، سيفوق قريباً عدد الطائرات المدنية التجارية. فهل العالم مستعد لتنظيم الأمر من الناحية الأمنية والإدارية والقانونية؟

لقد تخطت التقنية المتطوّرة والتكلفة الزهيدة العتبة، وجعلت الآن من «الدرون» أداة «ديموقراطية» في متناول مزيد من الناس. ولا يبدو أن الأمور يمكن أن تعود إلى الوراء بعد اليوم. فالمصممون والصناعيون والمحترفون والهواة، يُقبلون كل يوم على صنع مزيد من النماذج البسيطة والصغيرة والخفيفة، مستفيدين باستمرار، من التقدم الذي يحرزه عدد من القطاعات التي تسهم في رواج الطائرة بلا طيار، مثل التقنيات الرقمية، وتقنيات النانو، التي تساعد في نمنمة المحركات، وتقنيات تحسين جدوى البطاريات الكهربائية الخازنة لمزيد من الطاقة في حيّز أصغر وأخف.

وخطر التقاء طائرة بلا طيار في الجو، مع طائرة ركاب مدنية، خطر داهم ومتعاظم. فمحركات الطائرات المدنية مصنوعة لكي تتحمل الاصطدام بعصفور أو حتى طائر كبير، لكنها ليست مصممة للاصطدام بجسم معدني.

ومطيّرو «الدرون» ليسوا جميعاً رسميين يعرفون القوانين التي تحكم إشغال الأجواء، واستخدام المجالات الجوية المفتوحة لهم، وتجنب تلك المجالات التي تختص فقط بالطائرات المدنية.

وقد بدأت تُطرَح على القضاء في عدة بلدان قضايا تتعلق بهذه المسألة الحساسة. فالأجواء لمن؟ وما هو مصير استعمال الأجواء في الأحياء القريبة من المطارات، وما هو حكم طائرات «الدرون» التي تستطيع أن تحلِّق عالياً في الجو، إلى الارتفاع الذي يجعلها تنافس الطائرات المدنية التجارية على خطوط طيرانها؟ بل ما هو حكم طائرة «درون» تسقط لخلل ما، أو لفراغ بطاريتها، فتهوي على بشر وتلحق الأذى بهم، أو حتى تقتلهم؟

إنه السباق بين مطوّري «الدرون»، ومطوّري القوانين والنظم الإدارية، قبل وقوع الحوادث، أو حتى قبل وقوع الكارثة.

أضف تعليق

التعليقات