حياتنا اليوم

السياحة الأخرى!

حبذا لو يترك المسافر في رحلة سياحية مساحة فارغة في حقيبته, كي يتذكر أن أهم ماسيعود به من هذه الرحلة يكمن في حيز فراغ ضمن برنامج الرحلة. فترات مسروقة إذا جاز التعبير, لا تأتي على ذكرها ولاتوصي بها نشرات الدعاية السياحية على اختلاف أنواعها. وكي يتذكر وهو ينتقل من موقع علم إلى موقع علم, ومن مشهد مدهش إلى آخر, ومن متحف إلى متحف, ومن مقهى إلى مطعم, أن عليه أن يقتنص لنفسه وقتاً مقتطعاً كي يشاركه أو لا يشاركه به أحد وسوف يذكره بعد سنين كالشيء الحقيقي الوحيد الذي يجسَّد المتعة الفعلية في رحلته.

إن عليه أن يقتنص هذه اللحظات كي ينسحب من السياحة الأولى إلى السياحة الأخرى . والسياحة الأخرى لها برنامج آخر, غير مكتوب في أي مكان ولايستطيع أي دليل سياحي أن يدل عليه. وقد يكون باختيار وتخطيط, أو يأتي بالصدفة, ولكنه في جميع الأحوال يتصل في وجه من وجوهه، وفي منعطف من منعطفاته، بلحظات الاسترخاء الذي يذهب بها النظر بالنفس إلى أماكن ترتاح لها كي تحلم أو لتتأمل وربما حتى تستكشف ما ترى فيه مايهمها, أو يثير فضولها بالفعل.وذلك خارج البرنامج اليومي المعد مسبقاً والحركة المتسارعة والمنهكة التي تفرضها أغلب الأحيان الجولات السياحية المنظمة منها بنوع خاص.

وحقيقة الأمر أن السياحة المعاصرة الشائعة قد روَّجت لممارسات سياحية تكاد تكون عكس الغرض الحقيقي منها. فالبرنامج اليومي سواء أكانت الشركة السياحية قد وضعته للمجموعات السياحية, أو حتى وضعه السائح لنفسه تشبهاً بهذه الشركات, قد جعلت زيارة أكبر عدد من المواقع السياحية في أقصر مدّة ممكنة عنوان الرحلة الناجحة. وكم أن هذه الفكرة مجافية للحقيقة!

ومعها يصبح مرتجى السائح والهدف الذي يضعه نصب عينيه في زيارته إلى بلد من البلدان هو تغطية اللائحة الطويلة من المواقع المشهورة واحداً تلو الآخر خلال ساعات أو أيام معدودات. وتنتهي الرحلة والسائح منهك وليس لديه مايحمله عائداً الى بلده وأهله سوى أن يعدِّد بفخر(فارغ في الحقيقة) أسماء المواقع البّراقة التي شاهدها. وكم من منطقة ساحرة ظُلمت, وكم من موقع أثري أُهين, ولم تتعد زيارته الدقائق القليلة التي سمحت الشركة السياحية للسائح تمضيتها فيها, وذلك قبل أن تعود الحافلة تتحرك مسرعة إلى موقع آخر. وكأن الموضوع هو رؤية الموقع أياً كان للعلم فقط, وكأن الموضوع ليس للتأمل والتذوق والحلم بل فرض واجب !

إن السياحة هي أولاً إجازة. والإجازة هي خروج من إطار الروتين وتحرر من الإحساس بالارتباط بوقت ومكان وخط سير مرسوم. ولكن هذا النوع من السياحة ليس إلا روتيناً من نوع آخر. من بداية الصباح الباكر وحتى أفول النهار، وأحياناً حتى آخر الليل، هذا هو دوامك السياحي ، عليك أن تلتزم به وإلا ضاعت فلوسك سدى، وتخلفت عن الركب. أما السياحة الأخرى فتبدأ بالتخلف عن الركب. ثم تنتقل إلى اختيار زاوية للجلوس والاسترخاء والتأمل على غير هدى. ثم بعض الملل. ثم خاطر يخطر ببالك فتتحرك حراً منساباً باتجاهه، وقد يكون أي شيء. العبور إلى شاطئ غير سياحي ، وربما لقاء صدفة مع شخص لطيف يبادلك بعض الحديث، ويدلك على مواقع غير سياحية لسياحتك، أو ربما يصبح صديق زيارتك القصيرة، وقد يأخذك السير على غير هدى إلى دكان فيه بضاعة لا تخطر على بالك وليست أدوات أو عطور أو ملابس أو حاجات منزلية. أو ربما اكتشاف مكتبة قديمة أو مطعم شعبي أو ساحة يلهو فيها أولاد البلد. أو دون كل هذا. مجرد الاستقرار في مكان ممتع ومريح وترك النفس تسترخي وتستجمع وتنفك عن انقباضات الأيام.

السياحة الأولى معروفة البرامج.. هي نفسها أينما اتجهت. السياحة الأخرى احتمالاتها بلا حدود، وأول لا حدودها رحلة إلى الذات يتوق كل واحد منا إليها.

أضف تعليق

التعليقات