عندما يسمع أحدنا عبارة السوق السوداء تتبادر إلى ذهنه عملية بيع وشراء غامضة المعالم ومخالفة للقانون بدليل قيامها في الظل وبعيداً عن الأعين.
الكاتبة الصحافية
بهاء الرملي تؤكد هنا أن هذا التعبير يشير إلى ما هو أضخم بكثير مما قد يرتسم في الأذهان حوله، وذلك من خلال هذه الجولة على مختلف متاجر هذه السوق، وأحجامها الاقتصادية التي باتت تشكِّل تحدياً عملاقاً لحكومات العالم وشعوبه واقتصاداته.
تجتاح العالم ظاهرة الاتجار بالسلع والمنتجات في السوق السوداء بأسعار تقل عن السعر الحقيقي أو تزيد عليه أضعافاً وفقاً لطبيعة السلعة والظروف التي تتحكم في سوقها. وهذه الظاهرة ليست غريبة عن المجتمعات على وجه الأرض، بل هي قديمة قدم التعاملات التجارية وإن لم تكن عرفت شكلها المنظَّم كما هو اليوم.
وفي الواقع، انتشر هذا النوع من التجارة السوداء في الحرب العالمية الأولى، عندما اضطرت الدول إلى تقنين المواد الأولية الضرورية للمجهود الحربي، واضطر المواطنون إلى تأمينها من السوق غير المعلنة. وازدهرت السوق السوداء مع الحرب العالمية الثانية بسبب التقنين الصارم ومراقبة الأسعار. وشجعت الأرباح الطائلة التي جناها التجار على استمرار هذه السوق بعد الحرب وهي ما زالت مستمرة إلى اليوم وبزخم أكبر، مستفيدة من مناخات أشاعها انفتاح الأسواق وثورة المعلومات والاتصالات وسهولة التعامل التجاري عبر الإنترنت.
وقبل الخوض في تفاصيل السوق السوداء لا بد من تعريفها ووصف طبيعة عملها. فعبارة السوق السوداء مصطلح شاع استخدامه للإشارة إلى أي نشاط تجاري خارج السوق الرسمية وخلافاً للقانون بعيداً من رقابة السلطات المحلية والدولية. ويمكن أن تكون السلع والمنتجات المعنية بهذا النشاط على مستويين من الأسعار قياساً على السعر الطبيعي. فقد تكون أعلى منه نظراً إلى أهميتها الحيوية وصعوبة الحصول عليها لندرتها أو بسبب تقنينها، أو أقل لأنها مسروقة أو مهربة.
تهرب من الضرائب وغسل أموال
وفي الواقع هناك نوعان من الممارسة التجارية غير الشرعية. أولاً الاتِّجَار بمواد يحظرها القانون مثل الأسلحة والمخدرات، وفي بعض الدول الدعارة والسجائر والكحول على سبيل المثال. ثانياً، الاتِّجَار بسلع ومنتجات لا حظر قانونياً عليها لكن التعامل بها بعيد من رقابة السلطات إما لأنها مسروقة أو مقلدة أو مهربة، أو بدافع التهرب من دفع الضرائب، وتعرف الحال الثانية باقتصاد تحت الأرض أو الاقتصاد الخفي، واصطلح في الحالين على تسمية أي نشاط تجاري بصورة غير شرعية بالسوق السوداء.
وإذا كان النوع الأول مرتبطاً حكماً بالجريمة والمافيا، فإن القصد الأساسي من النوع الثاني هو التهرب من الضرائب على أنواعها وهو يشمل نقل الأموال المحققة من نشاط غير شرعي إلى دول لا تفرض ضريبة على الأموال وتكون عادة مقراً لغسل الأموال وتعرف اصطلاحاً باسم جنات ضريبية . ويميل العاملون في هذه السوق إلى توظيف عائداتهم منها في شبكة واسعة من المنتجات المقلدة أو في نشاطات غير شرعية.
وحتى الآن لم يوفق أي مرجع أو جهة محلية أو عالمية في تقدير الحجم الحقيقي للسوق السوداء، إلا أن من حاول ذلك من الاقتصاديين في العالم استند إلى تقدير حجم كتلة الأموال في بلد معين، رغم أن هذا التداول يتم عادة عبر عمليات مصرفية في جنات ضريبية يصعب رصدها، والناتج المحلي لهذا البلد وملاحظة الفارق بينهما، فيقود الفارق بين نمو الناتج المحلي ونمو هذه الكتلة إلى استخلاص حجم هذه السوق. غير أن الاقتصاديين لا يجمعون على واقعية هذه الطريقة ويرى بعضهم أنها تفتقر إلى الدقة.
حجمها.. بات يقارب تريليون دولار
على أي حال، تشير تقديرات تقريبية استقتها مراكز بحوث عالمية من الأمم المتحدة ومراجع متنوعة، إلى أن حجم السوق السوداء بكل أنواعها قُدِّر عام 2005م بنحو 987.059 بليون دولار أمريكي موزعة على 5 فئات من العمليات كالآتي: تقليد السلع وقرصنتها 518 بليون دولار، تجارة المخدرات 321.6 بليون، منتجات للبيئة 55.7 بليون، السلع الاستهلاكية 37.5 بليون، الأسلحة الخفيفة 10 بلايين دولار لعام 2005م. وتقدر هذه الإحصاءات حجم البضائع المهربة بـ 763.89 بليون دولار من المجموع العام. ويعتقد أن المصادر الأساسية للسوق السوداء عموماً هي في حدود 587 موقعاً في العالم، أما السلع المهربة الأساسية فحُصرت بنحو 51 نوعاً مصدرها 62 بلداً.
وصنفت هذه الإحصاءات مصادر التهريب وحجمه في 6 مجموعات جغرافية، وذكرت حجم عمليات التهريب في كل منها وفقاً للترتيب الآتي: الولايات المتحدة الأمريكية 290 بليون دولار، آسيا (21 دولة) 188.18 بليون دولار، أوروبا (19 دولة) 93.6 بليون، دول الأمريكتين (عدا الولايات المتحدة) 68.66 بليوناً، الشرق الأوسط (4 دول) 4.73 بليونات، وإفريقيا (5 دول) 893.3 مليون دولار.
وفي البضائع المهربة أحصي 37 صنفاً يفوق حجم كل منها 5 مليارات دولار واحتل صدارتها مخدِّر الماريجوانا بـ 141.80 بليون دولار، منتجات تكنولوجية مقلدة 100 بليون دولار، مخدر الكوكايين 70.45 بليوناً، مخدر الأفيون والهيرويين 64.82 بليوناً، قرصنة أفلام الإنترنت 60 بليوناً، الأدوية المقلدة 40 بليوناً، الاتجار بالبشر 32 بليوناً، السجائر المهربة 27.75 بليوناً، تهريب الحيوانات البرية 20 بليوناً، قرصنة الأفلام 18.2 بليوناً، قطع السيارات المقلدة 12 بليوناً، النفايات المهربة (عادة تكون نفايات سامة) 11 بليوناً، و10 بلايين دولار لكل من تهريب البشر وتهريب قطع الآثار.
وتراوح قيمة المهرب من باقي الأصناف بين 5.2 بلايين و3.7 بلايين دولار. وتشير المصادر الإحصائية إياها إلى عدم القدرة على تقدير حجم المعلومات المهربة وجوازات السفر المزورة. أما الدول العشر الأولى المعنية بالسوق السوداء فهي: الولايات المتحدة الأمريكية 290 بليون دولار، اليابان 84 بليوناً، الصين 79.5 بليوناً، ألمانيا 32.25 بليوناً، كندا 30 بليوناً، روسيا 21 بليوناً، المكسيك 20 بليوناً، المملكة المتحدة 19.5 بليوناً، و14.2 بليوناً لكل من كوريا الجنوبية والبرازيل.
بلايين الاستغلال
وإذا كانت السوق السوداء كممارسة مدانة أخلاقياً، (عدد كبير من الناس يرفض شراء سلع مهربة لهذا السبب، أو بسبب صعوبة مساءلة البائع في حال الخطأ الصناعي)، وموضع ملاحقة قانونية تقضي بمصادرة البضائع وتغريم صاحبها وأحياناً سجنه، فإن الاتجار بالبشر والاتجار بسلع تلحق بهم أذىً مادياً وجسدياً ومعنوياً، حمل المنظمات الدولية على التحذير من خطورة هذه الممارسة وتعريض من تمارس في حقهم للاستغلال والابتزاز. وفي هذا السياق حذرت الأمم المتحدة من تجارة المخدرات وأثرها في الأشخاص والمجتمعات، ليس فقط بسبب الأذى المباشر على المتعاطين بل أيضاً لارتباطها بالمافيا والعنف والجريمة.
ولا يقل عن خطر المخدرات خطر بيع الأدوية المزورة لأنها لا تحتوي على مواد فاعلة بل إنها تحتوي في كثير من الأحيان على مواد سامة تؤدي إلى الموت. هذا الواقع استدعى تدخل منظمة الصحة العالمية التي عملت على وضع قانون نموذجي وحض الدول على تعديل قوانينها بما يتلاءم معه بهدف التخفيف من خطر هذه الأدوية إذا تعذر القضاء عليها. وتقدِّر المنظمة بـ %50 نسبة الأدوية المزورة المبيعة عبر الإنترنت، وبـ %30 حجم الأدوية المزورة المبيعة في دول إفريقيا جنوب الصحراء ودول أمريكا اللاتينية، وبـ %20 في دول الاتحاد السوفياتي السابق، فيما تتدنى هذه النسبة إلى %1 في الدول المتطورة حيث الرقابة شديدة.
ومن التلاعب بصحة الناس إلى التلاعب بهم مباشرة عبر تهريبهم من الدول الفقيرة إلى الدول الصناعية المتقدمة لقاء كلفة باهظة، حيث يقيمون بصورة غير شرعية ويتعرضون لشتى أنواع الاستغلال والقهر، وهم الهاربون في معظمهم من بطالة وفاقة وقهر يمارس عليهم في بلدانهم. وتشكِّل إفريقيا ودول العالم الثالث عموماً مصدراً مربحاً لممتهني تجارة البشر. ورُصِدت جزر الكناري أخيراً كمركز لتهريب البشر بين إفريقيا والعالم الغربي.
إلى ذلك يشكِّل مواطنو الدول الفقيرة، لا سيما في شرق آسيا والبرازيل وإفريقيا، منجماً للأعضاء الحية التي يطلبها المرضى من أثرياء العالم المتقدم (يقدَّر عدد المرضى الأوروبيين الذين ينتظرون كلية بنحو 40 ألف شخص).
كل شيء قابل للبيع وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، كُلَى، صمامات قلب، عيون، أجزاء من الدماغ، الخ… وينخرط في مافيا هذه السوق أجهزة طبية متكاملة بدءاً من سائق سيارة الإسعاف إلى الممرضين والأطباء ومديري المستشفيات وأقسام الطوارئ فيها وتجار الأعضاء الذين لم يوفِّروا حتى الأموات من ضحايا تسونامي عام 2004م في دول شرق آسيا فاستأصلوا أعضاءهم.
وتقف السلطات الأمنية والشرطة عاجزة عن الحد من نشاط هذه السوق لأن الأطباء يتذرعون بأخطاء طبية لتبرير موت مريض أو استئصال أحد أعضائه السليمة. وتختلف أسعار قطع الغيار البشرية وكلفة زرعها باختلاف الدول المصدِّرة والدول المستوردة. فبين الهند ومولدافيا مثلاً، يراوح سعر الكلية بين 200 و3000 دولار، وتراوح كلفة الزرع بين 10 آلاف دولار و200 ألف دولار بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. غير أن هذه الكلفة لا تتعدى بضعة آلاف من الدولارات في الدول النامية التي اشتهرت بهذه التجارة. والأسوأ من كل ما تقدَّم هو أن بعض الدول الفقيرة تسجل فيها عمليات تبنٍ مزيفة بهدف استغلال الأطفال المتبنين في تجارة الأعضاء أو لاستغلالهم جنسياً. ويقدَّر حجم الاتجار بالبشر وتهريبهم وبيع أعضائهم في هذه السوق السوداء بـ 42.5 بليون دولار.
في مجال المعالجة القانونية تبدو فرنسا الدولة التي تتبع تشريعاً وصف بأنه الأكثر إنسانية في العالم، كونه يمنع بشدة بيع الأعضاء لكنه يسمح للمستشفيات باستعمال أي عضو حي من شخص متوفى ما لم يكن قد أوصى بغير ذلك. وكذلك فعلت كندا بالنسبة إلى الاتجار بالبويضات لأزواج لا ينجبون فسمحت بالتبرع بها ومنعت بيعها تحت طائلة معاقبة من يدان بهذه التهمة بالسجن 10 سنوات. ويراوح سعر البويضة بين 5 آلاف و10 آلاف دولار أمريكي. وتبرر النسوة تصرفهن بالحاجة إلى المال. نحن لا نقتل ولا نتاجر بالمخدرات، نحن نسعى إلى تحسين أوضاعنا المالية وننقذ في الوقت نفسه أزواجاً يئسوا من الإنجاب، وهذا أفضل من ترك البويضات تضيع في المجاري الصحية .
وللسجائر أيضاً قصة كبيرة مع السوق السوداء. 200 بليون سيجارة تُباع في هذه السوق سنوياً حول العالم، على الرغم من أن إحصاءات المنظمة العالمية للجمارك تشير إلى أن تهريب السجائر تراجع بنسبة %50 منذ عام 1997م نتيجة لتشديد المراقبة. وتعد الصين في طليعة الدول التي تقلِّد علب شركات كبيرة، وتصل قيمة هذه التجارة هناك إلى 100 مليون دولار. وثمة مصانع كبيرة متخصصة في هذا المجال في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وعدد من الدول العربية في الخليج والمغرب العربي.
ولعل العمالة غير الشرعية هي أحد مظاهر السوق السوداء الأكثر تعبيراً عن استغلال البشر إلى حد الاستعباد. من خصائص هذه العمالة عدم استمرار العمل والصرف الكيفي والعمل لمدة محددة لساعات عمل طويلة قد تصل إلى 16 أو 18 ساعة يومياً، بالإضافة إلى غياب الضمانات الصحية والاجتماعية وظروف سكن غير صحية ونظام عمل صارم وأجور متدنية. وغالباً ما تفرض هذه الشروط غير الإنسانية على عمال أجانب يقيمون في البلد المعني من دون أوراق ثبوتية وتمارس عليهم ضغوط بإفشاء أمرهم للسلطات وترحيلهم من البلاد. وثمة من يحمِّل السوق الشرعية تبعة وجود سوق عمالة سوداء لأن وجودها يعني أن السوق الشرعية تعاني تشنجاً يحول دون نمو العمالة الشرعية. ومن المعوقات التي تؤخذ عليها كلفة العامل الشرعي التي تفوق قدرة صاحب العمل، وفتح الحدود أمام المنافسة غير الشرعية.
العمالة السوداء تغزو أوروبا
تشكِّل أوروبا الموطن الأول للعمالة غير الشرعية، وهي التي عرفت بأنها تحقق العدالة للجميع. وتؤكد الدراسات منذ مطلع الألفية الثالثة أن هذه العمالة تزداد بدلاً من أن تتراجع. ويعزو المراقبون هذه الظاهرة إلى انفتاح الأسواق والعولمة التي سرَّعت السوق السوداء بكل أشكالها، التي تتيح للدول الغنية أن تضغط على اليد العاملة الآتية من الدول الفقيرة بعد ما ضغطت وما زالت تضغط على مواردها. ويشكِّل الاقتصاد الخفي، وعماده المؤسسات الصغيرة التي تعمل لحساب مؤسسات كبيرة تحرص على أن تبدو وكأنها غير متورطة في هذه الممارسة، المستقطب الأساسي لهذا النوع من العمالة، وهي لم تستثن منها حتى الأطفال والنساء الذين يشكِّلون حلقتها الأضعف. وتشير الدراسات إلى أن حجم الاقتصاد الخفي تضاعف 3 مرات منذ 1974 إلى 1994م في دول أوروبا الغربية وهو ما زال يتصاعد. وفي طليعة الدول المعنية به: إيطاليا حيث ارتفعت نسبته من %10.7 عام 1970م إلى 25.8 عام 1994م ووصل في إسبانيا إلى %22.3 وارتفع في بلجيكا من %10.4 إلى %21.4. وتأخذ الأمور منحىً مماثلاً حتى في الدول التي تقل فيها أهمية هذا الاقتصاد، ومنها ألمانيا، حيث ارتفع في الفترة نفسها من %3.4 إلى %13.1 وارتفع في فرنسا من %4 إلى %14.3 وفي الولايات المتحدة من 3 أو %4 إلى %9.4. وهو ازداد نمواً بعد الجمود الاقتصادي الأخير، وباتت المؤسسات المعنية به تهدِّد بالانتقال إلى دول العالم الثالث، حيث كلفة الإنتاج أقل، إذا تعرضت لأي ضغوط بسبب ممارساتها. وسُجِّل في أمريكا أخيراً نوع من التهديد لشركات كبرى شرعية باتخاذ إجراءات في حقها إذا انتقلت للإنتاج في دول العالم الثالث لأن خطوة مماثلة ستقضي على عشرات ألوف فرص العمل.
أما القطاعات الأكثر استقطاباً للعمالة غير الشرعية التي تفتقر إلى أي مؤهلات علمية أو تقنية فهي البناء والزراعة والألبسة والنسيج والمطاعم والفنادق. ومن المناطق الجغرافية المعنية بهذه العمالة دول أوروبا الشرقية التي باتت تخضع لسيطرة رأس المال الأجنبي بعدما تحررت من سيطرة الاتحاد السوفياتي. ولدول أوروبا الوسطى أيضاً نصيبها من هذه السوق، إذ تفيد دراسات لجامعة لنتس LINZ أن الاقتصاد الأسود يشكل %23.8 من الناتج المحلي القائم في بولونيا، و%31 من الناتج المحلي في المجر، و%22.3 في سلوفاكيا.
أسلحة خفيفة وأسرار نووية
ويبقى للأسلحة الخفيفة نصيبها الوافر من السوق السوداء لا سيما وأن لها علاقة بالجريمة والمافيا وتجارة المخدرات. ويصل حجم هذه التجارة إلى 10 بلايين دولار سنوياً وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، أي ما يشكِّل بين 10 و%20 من سوق تجارة الأسلحة الخفيفة. وتحظر بعض الدول استعمال هذه الأسلحة على الأشخاص العاديين وحتى على رجال الشرطة. وتشير التقارير إلى أنه بين عامي 1970 و1980م كان معظم هذه الحركة يتم بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية لإمداد زبائنهما في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بالأسلحة.
وفي هذا السياق، يسجل أن العائدات من تهريب الماس في إفريقيا تستعمل في تمويل شراء الأسلحة وغسل الأموال. وتقدر قيمة هذه السوق بنحو 280 مليون دولار. ومن المواد المتداولة في السوق السوداء، وإن على نطاق محدود قياساً على غيرها من السلع، والتي تثير اهتماماً خاصاً نظراً إلى خطورتها في تهديد الأمن العالمي، التكنولوجيا النووية المهربة، ويقدر حجم هذه التجارة بـ 100 مليون دولار.
معالجة مأمولة قد لا تأتي
وبغض النظر عن أضرار السوق السوداء ومساوئها على الصعيد الإنساني لجهة الاستغلال الفاضح للأشخاص إلى حد الإذلال في عملهم وتعريض حياتهم للخطر، يبقى خطرها الاقتصادي يثير قلق الدول المعنية بها لأنها تعيش على حساب الاقتصاد الشرعي، وتلحق أذىً كبيراً بالاقتصاد الوطني من خلال إيجاد فوضى اقتصادية تقلِّص وارداتها الضريبية، فيلحق هذا ضرراً بالخدمات العامة التي تقدمها حكومات هذه الدول إلى مواطنيها، وكذلك على الإعانات التي تسهم بها لدول فقيرة من خلال برامج حكومية أو من خلال منظمات ومؤسسات دولية. غير أن هذا الكلام لا يعفي حكومات الدول المتضررة من الاقتصاد الخفي من مسؤولية تشريعه بطريقة غير مباشرة بغض الطرف عن نشاط الضالعين فيه أو بعدم اتخاذ إجراءات قادرة على ضبطه إذا تعذر منعه. وقد أثبتت الأيام عدم القدرة على ضبطه.
على أي حال، فقد استنفر الاتحاد الأوروبي كل طاقاته ووضع نفسه في حال حرب مع هذه السوق، فأنشأ نظام تبادل معلومات بين الجمارك الوطنية لكل دولة من دوله فيما يتعلق بنشاط المهربين. ويهدف هذا النظام إلى كشف أي خرق للقوانين وملاحقة مرتكبيه بتعزيز المراقبة والتعاون بين الجمارك في الدول الأعضاء رغم حواجز اللغة، والسماح للتجار الشرعيين بملاحقة التجار غير الشرعيين والمهربين ومقلدي العلامات التجارية. ويشمل هذا النظام أيضاً جمع المعلومات عن البضائع والسلع وعن وسائل النقل والأشخاص والشركات المعنية بالتهريب ووجهات البضائع المهربة والإمكانات والكفايات المتوافرة لشبكات التهريب.
وفي محاولة لمعالجة هذه الظاهرة الخطرة وتخفيف أثرها في المجتمعات والاقتصاد، قدمت مجموعات من الاقتصاديين والباحثين حول العالم مقترحات حلول تمحورت في شكل أساس حول اعتماد الليونة الضريبية طالما أن أساس السوق السوداء تهريب الأموال تهرباً من الضرائب، وتخفيف إجراءات المنع فتتوافر السلع ويتراجع سعرها وتتحسن نوعيتها وتالياً تنكسر حدة السوق السوداء، وأيضاً اعتماد أنظمة عمل مرنة تخفف عن أصحاب العمل كلفة العمالة الشرعية واعتماد قوانين مرنة تشجِّع الاستثمار في السوق الشرعية. لكن ثبت حتى الآن أن المعالجة مهما اختلفت لجهة التشدد في القوانين أو ليونتها أو تجاهل تطبيقها، عمداً أو عجزاً، تظل السوق السوداء تنمو وتزدهر بإغراءت المال وباستعمال أدوات لم يفلح إلى الآن أي نظام اقتصادي أو أمني أو قضائي في اختراقها، لكن العالم لم يفقد الأمل بعد في الوصول إلى بداية طريق للتصحيح المنشود.