ملف العدد

الرواية البوليسية

  • 46Malaf-18
  • 46Malaf-19
  • 46Malaf-20
  • 46Malaf-32
  • 46Malaf-33
  • 46Malaf-34
  • 46Malaf-35
  • 46Malaf-37
  • 46Malaf-38
  • 46Malaf-39
  • 46Malaf-40
  • 46Malaf-41
  • 46Malaf-42
  • 46Malaf-43
  • 46Malaf-44
  • 46Malaf-45
  • 46Malaf-46
  • 46Malaf-47
  • 46Malaf-48
  • 46Malaf-49
  • 46Malaf-50
  • 46Malaf-51
  • 46Malaf-52
  • 46Malaf-53
  • 46Malaf-54
  • 46Malaf-55
  • 46Malaf-56
  • 46Malaf-57
  • 46Malaf-58
  • 46Malaf-1
  • 46Malaf-2
  • 46Malaf-3
  • 46Malaf-4
  • 46Malaf-5
  • 46Malaf-6
  • 46Malaf-8
  • 46Malaf-9
  • 46Malaf-10
  • 46Malaf-11
  • 46Malaf-12
  • 46Malaf-13
  • 46Malaf-14
  • 46Malaf-15
  • 46Malaf-16
  • 46Malaf-17

الرواية البوليسية لون خاص جداً من ألوان الأدب. تنتقل بالقارئ إلى عالم الجريمة المناقض بأحداثه وحركته لرتابة الحياة اليومية، وتعده بحتمية تحقيق العدالة في النهاية.
بطلاها اثنان: مجرم يوقظ فينا القلق مما يمكن للحياة الاجتماعية أن تحمله من مخاطر، وشرطي أو محقق يأوي قلقنا ويبدده بفعل قدرته على الانتصار للحق.
ومن غرائب هذا اللون الأدبي أنه في مقابل شغف العامة به وإقبالهم عليه، فقد واجه ولا يزال يواجه شيئاً من تعالي البعض عليه، خاصة من قبل العاملين في الألوان الأدبية الأخرى.
في هذا الملف الذي أعده الدكتور فكتور سحاب بمساهمة محدودة من فريق القافلة، عرض لنا لتاريخ الرواية البوليسية منذ نشأتها وحتى المسلسلات التلفزيونية المشتقة منها. وما بين هذه الصفحات نكتشف أن هذا اللون الأدبي لا يقل شأناً في الواقع عن باقي مذاهب الرواية في العصر الحديث. لا من حيث قيمته الأدبية، ولا من ناحية ارتباطه بالتحولات الاجتماعية والتعبير عنها.

لو لم يكن في النفس البشرية ذلك الشغف بالغوامض والأسرار، وبحب المغامرة حتى لو كان في الأمر جريمة، ولو لم يصل هذا الشغف إلى حد الهوس عند الأدباء، حتى انصرفوا عن كل أدب ليكتبوا في أسرار الجرائم، وأساليب المجرمين، ولو لم يبلغ هذا النوع من المشاعر بكثير من الناس إلى حد التشوق للخوف والتلذذ بالرعب، لما كانت لنا الرواية البوليسية، التي دخلت مع الداخلين في عصر السينما والتلفزة، بعدما مكثت قروناً بين دفتي كتاب.

فأقدم ما تركه لنا التاريخ من فن الرواية «البوليسية»، قصة التفاحات الثلاث، وهي إحدى القصص التي روتها شهرزاد للملك شهريار، في الليلتين التاسعة عشرة والعشرين من ألف ليلة وليلة. في هذه القصة العربية، يعثر صياد على صندوق كنز مقفل وثقيل، في نهر دجلة. ويشتري الصندوق منه الخليفة العباسي هارون الرشيد. ويأمر الرشيد بكسر الصندوق لفتحه، فيجد فيه جثة امرأة مقتولة ومقطعة. فيأمر الخليفة العباسي وزيره جعفر بن يحيى البرمكي أن يكشف له سر الجريمة والعثور على القاتل في غضون ثلاثة أيام، وإلا أمر بقتله.

ويدهشك في القصة أن فن التشويق فيها متقدم جداً، فيما تقود القارئ في تعرّج يخطف الأنفاس، وهو يلاحق خيوط الجريمة.

يختلف حافز جعفر عن حوافز المحققين في الروايات البوليسية التي قرأناها في الأدب الأوروبي، في العصور الحديثة، ذلك أن جعفراً لم يكن همُّه العثور على الجاني، مثلما نرى في روايات شرلوك هولمز أو هركول بوارو، بل إنقاذ حياته هو من الحكم بقتله إذا أخفق في كشف سر الجريمة واسم القاتل، وهو المؤتمن على سلامة الرعايا.

بعد ألف ليلة وليلة وتفاحاتها الثلاث، نقرأ في الأدب الصيني، قصصاً بوليسية، منها «باو جونج أن» في عهد أسرة منج المالكة، ثم قصة «دي جونج أن»، في القرن الثامن عشر. وقد تَرجم القصة الأخيرة إلى الإنجليزية، خبير الشؤون الصينية الهولندي روبرت فان جوليك. وتحكي القصص هذه منجزات القاضي باو كنجتيان، أو القاضي دي رنجي، وهما قاضيان حقيقيان في تاريخ الصين، مع أن القصص خيالية.

وتختلف هذه القصص عن الرواية البوليسية الغربية التقليدية في عدد من العناصر، أهمها أن المحقق فيها قاض، وأن المجرم معروف من بداية الرواية ودوافعه للجريمة أيضاً، وبذلك تكون العقدة مقلوبة، إذ إن الرواية البوليسية الغربية عموماً، تُبقي القاتل مجهولاً حتى آخرها. كذلك تحتوي الرواية البوليسية الصينية عناصر خارقة للطبيعة، مثل تدخل الأشباح وإخبارها البشر بمصيرهم أو مقتلهم الآتي، وحتى بكشف اسم القاتل لهم. ولا تخلو هذه القصص من المعاني الفلسفية، واحتشادها بكثير من الأشخاص الذين تربطهم علاقة بالقصة.

القصة البوليسية الأوروبية
ثمة من ينسب نشوء القصة البوليسية في الغرب إلى الكاتب الفرنسي فولتير (1694 – 1778م، واسمه الحقيقي فرانسوا ماري أرويه)، في روايته «زاديج»، التي صدرت سنة 1747م. ويظن بعض النقاد أن قصة الكلب والحصان في الفصل الثالث من روايته هذه، تُعد من الأدب البوليسي الباكر. وفي الرواية محاولة حقيقية لتحليل جريمة ودوافعها. أما القصة الجنائية الدنماركية «عميد فايلباي» التي ألفها ستين ستينسن بلتشر (1782 – 1848م)، فصدرت سنة 1829م. ثم تلتها رواية جنائية نروجية، هي «اغتيال صانع المحركات رولفسن»، للأديب موريتس هانسن (1794 – 1842م)، سنة 1839م. لكن كل هذه القصص لا تُسمَّى «بوليسية» بالمعنى المعروف اليوم.

البداية: إدغار آلان بو
وقد تكون أول قصة بهذا المعنى، هي قصة ألمانية عنوانها «الآنسة فون سكوديري»، التي كتبها إي. تي. إيه. هوفمان (1776 – 1822م) سنة 1819م، وهي قصة تنتهي بثبوت براءة المشتبه به المفضّل لدى الشرطة الجنائية، في قضية قتل صائغ. وتُعد القصة هذه من أهم ما تأثر به إدجار ألان بو (1809 – 1849م)، في قصته البوليسية «جرائم شارع مورج». وهو الذي ينسب إليه المؤرخون إنشاء هذا النوع في الآداب الأوروبية بروايته تلك سنة 1841م، وهي رواية يظهر فيها أوغست دوبان، المحقق الجنائي اللامع والغريب الأطوار. فقد أسس ألان بو أصولاً للعقدة القصصية في الرواية البوليسية لا تزال معتمدة إلى الآن. وتوالت قصصه التي يتولى التحقيق في جرائمها أوغست دوبان، ومنها: «سر ماري روجيه» سنة 1843م، ثم «الرسالة المختلَسة» سنة 1844م.

أسس ألان بو روايته البوليسية على أن الغرض هو معرفة الحقيقة، وأن بلوغ هذا الغرض يقتضي مساراً شديد التعقيد، وعملاً سرياً، يجمع الحدس القوي إلى التحليل المنطقي والمراقبة الذكية والاستنتاج النفّاذ. وقد أجمعت الروايات البوليسية الأولى في ذلك العصر على أن تكون القصة من أولها إلى آخرها، متابعة مسيرة المحقق، بطل القصة الأوحد، في اقترابه من حل اللغز الجنائي. ويرى النقّاد أن ألان بو ابتعد عن الخيال في هذه الرواية لأنها مؤسسة على حادثة حقيقية حدثت لامرأة اسمها ماري سيسيليا روجرز.

كان لتشارلز ديكنز (1812 – 1870م) إسهام باكر حين كتب روايته «البيت المنعزل»، سنة 1853م، وهي قصة محام متواطئ قُتل في مكتبه في ساعة متأخرة من الليل. وقد ظهر عدد من الأشخاص متخفّين على الدرج المؤدي إلى مكتب المحامي المقتول في تلك الليلة، وكان على المحقق أن يفك ألغاز الجريمة لمعرفة مَن مِن هؤلاء هو القاتل.

وكان ديكنز يرعى ولكي كولينز (1824 – 1889م) الذي يُعد مؤسس أدب الرواية البوليسية الخيالية الإنجليزية، بروايته «المرأة ذات الرداء الأبيض»، وقد وصف تي. إس. إليوت رواية كولينز«حجر القمر» سنة 1868م، بأنها أول وأطول وأفضل قصص المباحث الجنائية الإنجليزية الحديثة.

كونان دويل
ثم جاء عصر آرثر كونان دويل (1859 – 1930م)، الذي يعد، مع أغاثا كريستي أشهر من كتب في الرواية البوليسية على الإطلاق. فهو الذي ابتكر شخصية «شارلوك هولمز» سنة 1887م، أشهر محقق جنائي في أدب الرواية البوليسية. قال كونان دويل إن بطله هولمز، مستوحى من شخصية دكتور جوزف بل، الذي عمل معه دويل في مستوصف إدنبره الملكي. فقد كان بل، مثل هولمز، يُحسن استنتاج الكثير من أدق تفصيل.

أما شارلوك هولمز بطل روايات كونان دويل، فهو محقق لندني فذ، يمتلك ثقافة فكرية جبّارة، ومقدرة فائقة على الاستفادة من أدق تفصيل لاستنتاج الحقائق، وخبرة ممتازة في شأن الأدلة الجنائية تمكّنه من حل أعقد الألغاز الجرمية. وكتب كونان دويل أربع روايات و56 قصة قصيرة بطلها شرلوك هولمز.

العصر الذهبي
يفضل كثير من قراء الرواية البوليسية، في أدب ما سُمّي عصر الرواية البوليسية الذهبي، بين الحربين العالميتين، ألا يكون المحقق بطل الرواية شرطياً محترفاً، من السلك، بل أن يكون محققاً خاصاً أجيراً أو حتى هاوياً يهتم لسبب ما، بكشف سر الجريمة. لكنه في كل الأحوال لا بد من أن يكون موهوباً شديد الذكاء، وإن كانت بعض الروايات البوليسية السينمائية الفكاهية، أظهرت شخص المحقق الجنائي غبياً يرتكب أفدح الأخطاء، وهو يتصنّع الدهاء، مثلما ظهر المحقق كلوزو في سلسلة أفلام «الفهد الوردي» (The Pink Panther).

في هذه المرحلة، ظهرت قصص جنائية شديدة التعقيد، وكان لا بد من تحقيق يقرب من العبقرية لكشف القاتل. وتفنن كُتّاب هذا النمط، في إخفاء اسم القاتل حتى اللحظة الأخيرة، إمعاناً في التشويق. وفي ختام الرواية تظهر كل الحقيقة، ويُكشَف أسلوب المحقق الذي اتبعه في بلوغ هذه الحقيقة.

وقد اتسم عصر الرواية البوليسية الذهبي، بنمط المحقق الهاوي، الرفيع الأدب والكياسة، الذي يدس أنفه بلباقة وبراءة مصطنعة في جرائم المجتمعات الراقية والقصور والحدائق المترفة، والأرياف الرائعة، والقرى البعيدة. لقد صارت هذه البيئة هي المفضلة في روايات كتّاب هذا النوع، حتى أضحت له دُرجة، أدمن عليها القراء، وفضّلوها.

الفارسات الأربع
يُسمَّى عصر الرواية البوليسية الذهبي ذهبياً، لبروز أربع كاتبات لمعن بين الحربين العالميتين على الأخص، في هذا النوع من الأدب، هن: أغاثا كريستي (1890 – 1976م) ودوروثي إل. سايرز (1893 – 1957م) ونجايو مارش (1895 – 1982م) ومارجري ألنغهام (1904 – 1966م)، وجميعهن إنجليزيات عدا نجايو النيوزلندية. ويضيف بعض النقاد خامسة هي جوزفين تاي.

لكن أشهرهن وأغزرهن نتاجاً، هي بلا شك أغاثا كريستي التي كتبت سلسة روايات، كان أبطالها المحققَين الجنائيَين هركيول بواريه، ومس ماربل، وغيرهما. وتتسم رواية كريستي بالأحاجيّ التي تحيّر القارئ، وتقوده مرات كثيرة في غير طريق بلوغ الحقيقة. ومن أشهر رواياتها: «جريمة على قطار الشرق السريع» (1934م)، و«موت على النيل» (1937م)، و«ثم لم يعد هناك أحد» (1939م).
واستخدمت تقنية الأحاجيّ المعقدة جداً في الرواية البوليسية، بطريقة فذّة في عقدة روائية تبدو مستحيلة من قِبَل الكاتب جون ديكسون كار (1906 – 1977م)، وهو نفسه كارتر ديكسون، الذي يعدُّ ملك روايات ألغاز الغرف المقفلة، وسيسيل ستريت (1884 – 1965م)، الذي وقّع رواياته أيضاً باسم جون رود. وقد تخصّص دكتور بريستلي، المحقق في رواياته، في استخدام الأدوات التقنية المتطوّرة.

وبرز من الأمريكيين في كتابة الرواية الجنائية ركس ستاوت (1886 – 1975م) وإيليري كوين (اسم مستعار في مسلسل تلفزيوني أمريكي 1975 – 1976م) وآخرون.

التحرّي الخاص
لعل التحري مارتن هيويت، الذي كان بطل الكاتب البريطاني آرثر موريسون (1863 – 1945م)، أول نماذج التحري العصري في الرواية الخيالية البوليسية.

في عشرينيّات القرن الميلادي العشرين، لم يكن آل كابوني (1895 – 1947م) مصدر خوف ورعب فقط في شوارع شيكاغو وسائر المدن الأمريكية، بل كان كذلك مصدر فضول وتشوّق لدى هذا المجتمع لمعرفة خفايا عالم الجريمة أيضاً. وقد استثمرت مجلات أدب الخيال الإجرامي الأمريكية وكتّابه ذلك الفضول استثماراً ذكياً، مثل مجلة «بلاك ماسك» (القناع الأسود) والمؤلف كارول جون ديلي (1889 – 1958م) الذي ألّف قصص عنف وتشويه وظلم، من عمل المجرمين. ولم يقصد ديلي أن تكون عقدة قصته لغزاً جنائياً غامضاً، بل اكتفى على الخصوص برواية حوادث عنف المجرمين، وحكم العدالة الذي يستحقّون.

وشاعت في ثلاثينيات القرن العشرين روايات التحري الخاص، مثل داشييل هاميت وجوناثان لاتيمر وإيرل ستانلي جاردنر، لفضح عالم الجريمة السفلي العنيف، في الشارع الأمريكي. وفي أواخر الثلاثينيات، طوّر ريموند تشاندلر (1888 – 1959م) هذا النوع الأدبي بفضل بطله التحري فيليب مارلو، الذي أضفى صفة حميمة على عمل المحقق الجنائي. ثم دخلت شخصية مارلو في عدد من القصص التلفزيونية. وتابع جيمس هادلي تشيس (1906 – 1985م) أسلوب تشاندلر في رواياته البوليسية «قداس الشقراء الجنائزي» (1945م) و«إلقِ بها بين الزنابق» (1950م)، و«احسبه لنفسك» (1950م). وزاد تطويراً في هذا الخط الذي يعتمِد التحري الخاص، الكاتب روس ماكدونالد (1915 – 1983م) الذي كان بطله التحري الخاص لو آرتشر. وتميّز أسلوب ماكدونالد باستخدام علم النفس وجمال أسلوب الكتابة. ويُذكَر أن هوليوود أنتجت فلم «هاربر» سنة 1966م، ولعب فيه بول نيومان دور التحري لو آرتشر، والفلم مؤسَّس على رواية ماكدونالد «الهدف المتحرك». وقد أعاد نيومان الكرّة في فلم «حوض الغرق» في سنة 1976م.

ويرى النقّاد أن مايكل كولنز، واسمه الحقيقي دنيس ليندز (1924 – 2005م) أدخل هذا النوع الأدبي، أي رواية التحري الخاص البوليسية، في العصر الحاضر. ففيما واظب على تلك القصص التي تجعل التحري الخاص يواجه قوى أكبر من إمكاناته بما لا يقاس، مثلما فعل سابقوه، إلا أنه أضاف عنصر التحليل الاجتماعي على الرواية الجنائية البوليسية، وأثر مكانة البشر في هذا العالم السفلي، عالم الجريمة.

الروائيات يشاركن
حتى ليندز، كانت رواية التحري الخاص ضمن أدب الرواية البوليسية، حكراً للمؤلفين الرجال، إلى أن ظهرت روايات الأمريكيتين مارسيا مولر، وسو جرافتون، في أواخر سبعينيات القرن الميلادي العشرين وأوائل ثمانينياته. وقد أدى نجاحهما إلى إقبال الناشرين على مؤلفات القصص البوليسية من النساء.

كبوة ثم نهضة
غير أن النصف الثاني من القرن العشرين، شهد طغيان اهتمامات هزت العالم بأسره، منها حرب فيتنام وثورة الشبيبة في الستينيات، والحرب الباردة بين الدولتين العظميين. ثم ظهور الهم البيئي الذي تبعه تطور تكنولوجي مدهش.. وكان من الطبيعي أن يفرض كل ذلك نفسه على عالم الأدب والفنون، فتراجعت مكانة الرواية البوليسية لتقبع مؤقتاً في ظل الرواية السياسية والاجتماعية. ومع ذلك، فإنها لم تنقرض تماماً. ففي ظل أدباء سياسيين أو مسيسين من أمثال ألكسندر سولجنتين (مؤلف «خليج الغولاك» الشهير)، كان هناك بعض الأسماء التي راحت تلمع بفضل رواياتها البوليسية، ومن أشهر هؤلاء على الإطلاق سيدني شيلدون، الذي كان عرَّاب أفضل الروايات البوليسية في العقد الأول من القرن الحالي.

ففي التسعينيات، كان مؤلف الأغاني دان براون يمضي إجازته في الكاريبي عندما طالع إحدى روايات شيلدون التي أثرت فيه بعمق إلى درجة اتخاذه قرار التحول إلى كتابة الروايات البوليسية. وبالفعل، في العام 1998م، نشر دان براون روايته الأولى «الحصن الرقمي» التي أتبعها بروايتين أخريين هما «حقيقة الخديعة» و«ملائكة وشياطين»..

لم ينل براون نجاحاً تجارياً يستحق الذكر في بداية الأمر. إذ بلغ معدل ما بيع من كل من هذه الروايات نحو 10 آلاف نسخة. إلى أن نشر في العام 2003م روايته الشهيرة «شيفرة دافينشي» التي جعلت المجلات الأمريكية تصنفه كواحد من الشخصيات المئة الأكثر تأثيراً في العالم، بسبب الرواج الهائل الذي لقيته هذه الرواية. إذ طبع منها نحو 100 مليون نسمة، وبفضلها عادت رواياته السابقة إلى الرواج، الأمر الذي أمَّن للمؤلف دخلاً سنوياً يقدَّر بنحو 75 مليون دولار.

تندرج روايات دان براون في إطار الرواية البوليسية بالمعنى الحرفي والتقليدي للكلمة. فمعظمها يبدأ بجريمة قتل غامضة، يتطلب حل لغزها عبقرية محقق مثقف (مثل روبرت لانغدون الذي كان بطل ثلاث من هذه الروايات)، وهو أستاذ في جامعة هارفرد وليس شرطياً عادياً. والسبب في اختيار هذا النوع من الأبطال، هو أن حل اللغز الغامض في روايات براون يجول بالقارئ على عالم المؤسسات الكبرى مثل الكنيسة الكالوثيكية ومؤسسات الأمن القومي الأمريكي والجمعيات السرية مثل الماسونية و«الإيلوميناتي»، وزمنياً، يمكن للمؤلف أن يجول بالقارئ ما بين زمن الحروب الصليبية وعصرنا الحاضر بكل ما فيه من تقنيات لا تزال مجهولة أو قيد الاختبار.. وهذا ما أضفى على رواياته نكهة خاصة لم يعهدها قرَّاء الروايات البوليسية من قبل، الأمر الذي أدى بدوره إلى تحول هذا النوع من الأدب البوليسي إلى مدرسة، بدأ الكثيرون ينسجون على منوالها.

ومن أبرز المنتمين إلى المدرسة «البراونية» هذه، الروائي السعودي الدكتور منذر القباني، الذي كتب حتى الآن روايتين بوليسيتين هما «حكومة الظل» و«عودة الغائب»، وكلتاهما تدوران حول الصراع ما بين المحافل الماسونية من جهة و«العروة الوثقى» من جهة أخرى. والعقدة، كما هي عند براون، تبدأ بجريمة قتل، والبطل شخص مثقف يجد نفسه متورطاً في التحقيق سعياً إلى حل اللغز الغامض.

أرسين لوبان

اللص الفرنسي

الظريف

وُلد أرسين لوبان (Arsene Lupin)، في تموز 1905م، في رواية نشرها موريس لوبلان، الروائي الفرنسي في مجلة «جو سيه تو» (أَعرِف كل شيء). ثم عاد لوبلان ونشر قصة أرسين لوبان هذه في رواية: «أرسين لوبان النصّاب الوسيم». ولعل لوبان، وهو الشخص الروائي الوهمي بالطبع، من أشهر أبطال الرواية البوليسبة، على الإطلاق. وقد كُتبت في شخصيته الدراسات، تحليلاً وتشريحاً.

قدّر الدارسون أن لوبان، بطل روايات لوبلان، لا بد أنه ولد سنة 1874م، بسبب تقدير سنّه حسب الرواية الأولى التي كان فيها البطل. وقد انفصل والداه وهو لما يزل طفلاً في السادسة، فأثر ذلك الانفصال في نفسه. وانتقاماً من ظلم الدنيا، بدأ أرسين لوبان مسلسل السرقات في روايات لوبلان، وأول ما سرقه عقد الملكة ماري أنطوانيت، زوجة الملك لويس السادس عشر، في رواية «عقد الملكة».

ولا يهمل أرسين دراسته، فيتخصص في القانون والطب وفي علم الجلد وأمراضه، إضافة إلى اللاتينية واليونانية القديمة. ثم يدرس فن الحواية والشعوذة. وقد علّمه أبوه الملاكمة والسيف والترس والرياضة البدنية، ودرَّبه على فنون القتال، وبذلك تأهل ليكون ذلك اللص الأنيق الشهم، المسلح بكل ضروب العلم والبراعة والقوة التي يحتاج إليها في مغامراته.

لقد تفنن أرسين لوبان في تخفّيه وتبديل شكله، حتى بات يستحيل تقريباً وصفه. لكن حقيقته التي تظهر من بين سطور الروايات، هي أنه رجل وسيم طويل القامة، رشيق الجسم، لكن قوته في الوقت نفسه خارقة بفضل الرياضة التي تعلمها.

أما نفسيته فيختلط فيها شيء من الطفولة والأرستقراطية المتعالية، والجاذبية القوية والغموض. ولعل هذا عامل فاعل في حب القرَّاء لهذه الشخصية. وقد تمكن لوبلان من خلال حوادث رواياته والمجتمع الذي كان أرسين لوبان يرتاده، من وصف المجتمع الفرنسي في الحقبة الجميلة، ثم في السنوات المجنونة، أي في أوائل القرن العشرين، قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها.

ومع أن لوبان لص، فهو شهم وظريف. فهو يأنف القتل، ويحترم المرأة. ولذا أعاد بعض المصوغات المسروقة إلى صاحباتها الجميلات، حالما يحظى بابتسامة. ومع هذا فسحره وجاذبيته ليسا من صنف لا يقاوَم، وبذلك جعله لوبلان من لحم ودم، ولم يحاول أن يصوره إنساناً خارقاً لا يعصى عليه أمر. وهو فوق هذا وطني، أثبت وطنيته في الحرب العالمية الأولى، ببعض المبادرات الدبلوماسية لمصلحة بلاده، فرنسا.

الرواية البوليسية ومشتقاتها

على الشاشتين

شكَّلت الرواية البوليسية جزءاً أساسياً من نسيج صناعة السينما ولاحقاً التلفزيون، بحيث يمكن القول إن الأفلام البوليسية تحتل المرتبة الثانية بعد الأفلام العاطفية في تاريخ السينما، وتتقدم من ناحية الكم على الأفلام التاريخية والكوميدية والسياسية، بحيث يستحيل تقديم كشف كامل بها. إذ لم تترك السينما لوناً من الألوان البوليسية إلا وصورته. فإضافة إلى الأفلام التي ورد ذكرها سابقاً، والتي أصبحت من كلاسيكيات السينما، اشتق الفن السابع ألواناً من هذا الفن خاصة به، راجت وتروج بفعل «سينمائيتها»، أي من كون قيمتها الفنية نابعة أساساً من تصويرها وليس من النص المكتوب.
فبموازاة الأفلام البوليسية الكلاسيكية، ظهر نوع من الأفلام يقوم أساساً على الحركة (Action)، حيث المجرم معروف منذ البداية، يطارده شرطي أو جندي سابق خدم في الوحدات الخاصة.. أما مسار الفلم فهو صراع ما بين الطرفين ومطاردة ومواجهة شرسة تنتهي غالباً بمقتل المجرم بشكل عنيف، وليس بوضعه وراء القضبان كما في الروايات الإنجليزية الكلاسيكية. وهناك ممثلون يدينون بشهرتهم العالمية لهذا النوع من الأفلام مثل أرنولد شوارزينغر، وجان كلود فان دام، وبروس ويليس وغيرهم.

أما النوع الثاني الذي اشتقته السينما من الأفلام البوليسية، فهو بعض ما يندرج تحت أفلام الرعب مثل سلسلة أفلام «هالوين» التي أخرجها السوري مصطفى العقاد، وسلسلة أفلام «صراخ» وغيرها.. وفي هذا النوع من الأفلام، فإن المحقق يكاد أن يكون غائباً تماماً، إذ تدور القصص حول الشكل الذي تقع فيه الجريمة، وهو عادة شكل قبيح، يثير في المشاهد مشاعر الشفقة على الضحية والنقمة على غبائها.. ويمكن في أحيان أن تتحقق العدالة في النهاية على يد ضحية محتملة في غياب شبه كلي للمحقق ولرجال الشرطة الذين لا يظهرون إلا في نهاية الفلم.
وبسبب ضخامة تكاليف إنتاج الأفلام البوليسية الكبرى وأفلام الحركة، فإنها تنتج للسينما أولاً، ثم تعرض بعد فترة على شاشات التلفزيون. ولكن بسبب انفتاح الأدب البوليسي على أنماط متعددة داخل اللون الأساسي الواحد، وجدنا التلفزيون ينتج أفلاماً ومسلسلات بوليسية خاصة به، لا تقل قدرة عن الأفلام السينمائية على جذب المشاهد، وذات تكلفة مادية أقل بكثير. فمقابل الأفلام القليلة التي صورتها السينما من روايات أغاثا كريستي، نجد التلفزيون الإنجليزي يعرض بشكل شبه متواصل مسلسلات مقتبسة عن روايات المؤلفة نفسها، لأن عقدتها ومادتها تعتمد أولاً على ذكاء المحقق وليس على مشاهد تحطيم السيارات وتدمير الأبنية وتفجيرها.
واليوم، تعرض الفضائيات العربية مجموعة ضخمة من المسلسلات البوليسية، منها على سبيل المثال «C.S.I Miami» الذي يدور حول أداء فريق خاص بالتحقيق في موقع الجريمة. والنجاح الذي لقيه هذا المسلسل دفع إلى إنتاج «C.S.I» خاص بأكثر من مدينة أمريكية مثل نيويورك ولوس أنجلس.. وهذه المسلسلات التي تتضمن معظم أساسيات القصص البوليسية، وتضيف إليها الاعتماد على التكنولوجيا المتطورة، لا تخلو من التغني ببعض القيم الاجتماعية مثل أهمية العمل ضمن فريق، والتفاؤل بحتمية ظهور الحقيقة وإحقاق العدل والخضوع للقانون، حتى ولو تمكن المجرم من لي ذراع القانون لصالحه.

وأخيراً وليس آخراً، هناك مسلسل «عقلية إجرامية» الذي يلاقي نجاحاً عالمياً منذ بضع سنوات، وأبطاله هم فريق خاص في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، يعمل على اكتشاف المجرمين بناءً على تحليل سلوكهم ونفسياتهم. ويقوم هذا المسلسل بالفعل على آخر ما توصل إليه علم النفس وعلم الجريمة، إضافة إلى بعض «الإكسسوارات» التقنية.
الرواية البوليسية

أنماط وأنواع
كثيراً ما يكون أبطال الروايات البوليسية من سلك الشرطة الرسمية أنفسهم، وإن كان المحقق الخاص أو التحري المدني قد شاع جداً في النصف الثاني من القرن العشرين على الأخص. وقد تتخذ الرواية أنواعاً وأشكالاً روائية عديدة. لكن نسبة كبيرة من الكتّاب يحاولون أن يصوّروا بأدق تفصيل، العمل الرتيب اليومي الذي يعمله قسم الشرطة الجنائية في وظيفته لمتابعة عدد من القضايا، قبل أن «تدهمه» المهمة الطارئة، عند حدوث جريمة غامضة يكلَّف التحقيق فيها. معظم القصص يرمي إلى كشف مجرم. لكن في بعضها يكون المجرم معلوماً، فتتجه مهمة الشرطي المحقق إلى جمع الأدلة والقرائن.

التاريخية
وثمة فرع في الرواية البوليسية، يسمَّى الرواية البوليسية التاريخية، وفيها عادةً سر غامض هو العقدة الأساسية، ويتضمن جريمة، غالباً ما تكون اغتيالاً سياسياً، في حادثة تاريخية. وثمة نقاش يتناول عدداً من العناصر في هذا الفرع، منها: كم سنة يجب أن تمضي على الحدث قبل أن تستحق القصة الصفة التاريخية، أو: هل ينبغي أن تحتوي حقائق تاريخية، وكم من نسج الخيال يحق للمؤلف أن يضمِّن روايته لتبقى «تاريخية». وهل ينبغي أن تكون الضحية شخصاً حقيقياً من التاريخ مثل سقراط أو موتسارت، أم أن القصة التاريخية قد تتسع لرواية اغتيال شخص وهمي، لكن في بيئة زمنية واجتماعية تاريخية. وهل يكفي أن يكون التحري شخصاً تاريخياً فتحاك من حوله قصة غير حقيقية.
أول من كتب الرواية البوليسية التاريخية ملفيل دافيسون بوست (1869 – 1930م)، وآنا كاترين جرين (1846 – 1935م)، وإن كان جرجي زيدان اقترب في رواياته التاريخية من هذا النوع، مع أنه لم يعالج روايته من ناحية جنائية، وكان همّه وضع الحقائق التاريخية في إطار قصصي مشوّق. ثم ظهرت الأمريكية ليليان دي لاتور (1902 – 1993م، واسمها الحقيقي ليليان ماكيو)، وقد تخصصت في روايات يحوط عقدتها أسرار غامضة ومثيرة.

لكن النوع كان ينتظر اسماً بدأ يلمع في 1944م: أغاثا كريستي نفسها، بروايتها: «وفي النهاية يأتي الموت». وهي قصة بوليسية تاريخية، حدثت وقائعها في مصر القديمة، فيما تناول جون دكسون كار سنة 1950م، عصر نابليون بونابرت في روايته: «عروس نيوجيت». وهي في الوقت نفسه من فرع رواية التحري عن القاتل. ثم كتبت جوزفين تاي (1996 – 1952م، واسمها الحقيقي إليزابت ماكنتوش) سلسلة روايات من هذا النمط، يدخل في إحداها التحري المستشفى لكشف جريمة قتل الملك الإنجليزي رتشارد الثالث. وتوالت الأسماء منذ 1970م، فكانت إليس بيترز (1913 – 1995م، واسمها الحقيقي إديث ماري بارجيتر) التي أصدرت 21 قصة من يوميات الأخ كادفائيل، وتدور حوادث رواياتها البوليسية قبل ألف سنة. وموضوعها جرائم قتل تاريخية. وتعاظم الإقبال على الرواية البوليسية التاريخية في تسعينيات القرن الميلادي العشرين، بظهور روايات ليندسي ديفيس التي تدور حوادث الجرائم فيها في عهد الإمبراطور فسبازيان الروماني، ثم روايات الأمريكية إليزابت بيترز (واسمها الحقيقي بربرة ميرتس)، التي كتبت روايات بوليسية عن جرائم في مصر في عشرينيات القرن العشرين.

أنواع أخرى
درج كذلك في الرواية البوليسية نوع يميل إلى جريمة القطارات، ففي القطار لا يعرف الناس أحدهم الآخر عادة، ويضفي هذا الأمر سمة غموض على أية جريمة تحدث على قطار. وكان أول محقق في جريمة قطار ثورب هازل، بطل رواية القس الإنجليزي فكتور وايتشيرش (1868 – 1933م). ثم كرّت السبحة.

وثمة روايات بوليسية أقبلت عليها كاتبات في أواخر القرن العشرين، واتسمت بمعالجة قصص الحوادث الغامضة، البعيدة عن العنف، مثل أسرار صناعة الغذاء والأسرار المهنية الأخرى والتجسُّس فيها، وغلب فيها أن يكون المحقق امرأة.

لكن روايات الكُتَّاب الرجال جنحت في دُرْجَة جديدة، إلى روايات مجرمي القتل الجماعي المتسلسل، وكأنها تثأر من النوع البوليسي النسائي «السلمي» الخالي من فظائع العنف، بهذه الجرعة من العنف في أخبثه وأفظعه. وقد بدا للكتّاب ربما، أن هذا النمط من الرواية البوليسية يفيض نوعاً ما عن طاقة الشرطة الرسمية، ولا بد له من التحري الخاص، بتخفّيه وحنكته وتحرُّره من قيود الوظيفة الرسمية ودوامها. وكانت روايات من هذا النوع ظهرت في عشرينيات القرن العشرين، وكان «بطلها» مجرم مهووس بالقتل، هي رواية فيليب ماكدونالد (1900 – 1980م) «هرّ بأذناب كثيرة». غير أن رواية الجرائم المتسلسلة البوليسية لم تبلغ أشد الإقبال عليها إلا بعدما ظهرت في المحافل الأدبية عبارة: Serial Killer (القاتل المتسلسل)، في سبعينيات القرن العشرين، ولا سيما عند نشر رواية: «صمت الحملان» سنة 1988م. وهي رواية للأمريكي توماس هاريس، وظهرت في فلم، أخرجه جوناثان ديم، ومثّل أدوار البطولة فيه جودي فوستر وأنطوني هوبكنز، ونال الفلم جوائز أوسكار. ولعل ما في عبارة «القاتل المتسلسل» من عنصر غموض ورعب، هو الذي اجتذب محبي النوع، الذين يعشقون ذلك الإحساس فيما يقرأون ويشاهدون.

روايات التشويق
إذا كانت أنواع الروايات البوليسية تحتاج إلى كتمان سر العقدة حتى النهاية، حتى لا تضيع لذة القراءة على القارئ، (باستثناء النمط الصيني الذي يقلب مسار التحقيق، بدءاً من معرفة القاتل، وصولاً إلى وقوعه في قبضة العدالة)، فإن أشد أنواع الرواية البوليسية حاجة إلى هذا الكتمان هي روايات التشويق (Suspence). فهذا النوع يحبس نفس القارئ، بما فيه من تسلسل مفاجآت وانقلاب مواقف. ولذا يحرص النقاد على عدم كشف العقدة في مقالاتهم، فيما يحرص القارئ على عدم قراءة النقد عادة قبل قراءة الرواية نفسها. وقد صار معهوداً أن يلتزم كتم سر العقدة في الرواية المعلنون والأكاديميون في مقالاتهم، حماية لحق القارئ في شحنة التشويق التي تستحق له في قراءته. حتى أن مشاهدي فلم «شاهد ادعاء» (Witness for the Prosecution)، الذي ظهر سنة 1957م، نوشدوا في الإعلان بالفلم، ألا يبوحوا بسر العقدة، وهو مؤسس على قصة قصيرة ثم رواية «نحن المحلفين» لأغاثا كريستي، تدور أحداثها في قاعة محاكمة رجل متهم بالقتل، ولعب دور البطولة فيه تايرون باور ومارلين ديترتش وتشارلز لوتون، وأخرجه بيلي وايلدر.

التشابه والتباين بين روايتي كونان دويل وكريستي
يجد هواة الرواية البوليسية في المكتبات ألوف الروايات البوليسية التي تبدأ بحادثة غامضة ومثيرة. لكن كيف يمكن لكل هذه الروايات أن تكون من نوع واحد، وفي الوقت نفسه أن تكون مختلفة، واحدها عن الآخر؟

أفضل ما يشرح هذا التناقض، أن نقارن روايتي آرثر كونان دويل: «كلب آل باسكرفيل»، وأغاثا كريستي: «جريمة على قطار الشرق السريع». في كلا الكتابين ينشئ الكاتب «جو غموض»، يضعهما في النوع الأدبي نفسه. لكن أسلوبي الكاتبين في خلقهما السر الغامض المثير لفضول القارئ يختلفان. ففيما يعتمد دويل على غموض البيئة التي تحدث فيها الجريمة، تختار كريستي أن يكون الغموض في سلوك الأشخاص وفي مفتاح اللغز.

في القصتين، يستفيد بطلا الرواية، شرلوك هولمز وهركول بوارو، من قدرتهما الجبارة على الاستنتاج العقلي لحل لغز الجريمة. وكلاهما يستخدم مساعداً متواضع المقدرة، فيهزأ به ويحقّره. وكلا التحريين مثقف متكبّر. ويتسم هولمز بسمة العالِم، أما بوارو فهو ليس سوى رجل متفوّق في القدرة على الاستنتاج.

تجري روايات دويل في إنجلترا، فيما يسافر أبطال رواية كريستي حيثما تحدث الجريمة. ذلك ما نقرؤه مثلاً في رواياتها الثلاث: «جريمة على قطار الشرق السريع»، و«جريمة في وادي الرافدين»، و«جريمة على النيل».

ويشترك الكاتبان في أنهما يبدآن عموماً عرض العقدة بالعثور على جثة، مثل العثور فجأة على جثة سير تشارلز باسكرفيل، المرشح المحتمل لحزب الأحرار في الانتخابات المقبلة. والعثور على جثة، عنصر قوي في إثارة فضول القارئ حول سرٍ ما، وربما في إشاعة شيء من الخوف وربما الرعب في بعض الحالات. يُعثر على الجثة في كتاب دويل في مستنقع معتم منعزل يلفه الضباب، لكن الجثة في كتاب كريستي تُكتشَف في القطار في ظروف غامضة حيث لا يعرف الركاب أحدهم الآخر. صحيح أن المكان مختلف في طبيعته، لكن عنصر الغموض ضروري في كلا الحالين.

وفي كثير من الروايات نرى دويل يجعل الجريمة عند طرف غابة، أو في حدائق واسعة، لا تحتشد بالناس. ويجتهد دويل كثيراً في استخدام الكلمات في الوصف، من أجل تكوين صورة المكان بأدق تفصيل، لإضفاء التشويق والغموض.

أما جثث كريستي فهي «على سفر» في مكان ما، لأن كريستي نفسها زارت المشرق العربي ومكثت مدة في حلب والعراق. صحيح أن كلا الكاتبين يستخدم عوامل أخرى غير المكان، لإضفاء الغموض وضخ عناصر التشويق في الرواية، لكن اختيار المكان هو العامل المشترك في كل رواياتهما. وتتميّز كريستي بأن التشويق عندها يعتمد كثيراً على شخصية الأبطال وعلى سر العقدة في الجريمة، ويعطيها هذا الأمر طابعاً أقل «شاعرية» من دويل وأشد ميلاً إلى الواقعية. فهي تمعن في تفصيل أسرار عقدة القصة وعناصر الجريمة، ودقائق شخصية أهم اللاعبين في الرواية. ففي بداية قصتها في كتاب «سر على قطار الشرق السريع»، وصف لبوارو وكيف يجد عودي ثقاب مختلفي الشكل، ثم ينحني ليلتقط من على الأرض قطعة مطرزاً عليها حرف H، ثم مخرزاً لتنظيف غليون. ويتبين فيما بعد أن لهذين التفصيلين علاقة بعقدة القصة وسر الجريمة.
ونجد عند كلا الكاتبين مجموعة من المشتبه بهم، في ارتكاب الجريمة. وقلما تكون رواية بمشتبه به وحيد. ويشتد التشويق في الرواية حين يتساوى المشتبه بهم في قوة الشبهة، فلا يتركز الانتباه على واحد منهم بل على اثنين أو أكثر، فتستبد الحيرة بالقارئ. إنه أثر مقصود يتفنن الكاتب في إحداثه، بحبكة حسنة وغموض متصاعد.

وقد أمات كلا الكاتبين بطله المحقق، ثم كتب روايات تولى فيه التحقيق محقق آخر، مثل الآنسة ماربل، في روايات كريستي، فيما استوحى دويل من المحقق سي أوغست دوبان، في رواية إدجار ألان بو: «جريمة في شارع مورج».

أما في المحافل الأدبية فيرى النقاد أن دويل مؤلف كبير، فيما يرون في كريستي كاتبة ناجحة ورائجة في تجارة الكتب رواجاً واسعاً. لكن منهم من يفضل كريستي لا سيما بسبب وفرة اللاعبين الثانويين في رواياتها، فهي تفرد لهم دوراً لا يقتصر على إكمال المشهد، بل انهم يشاركون في تطور الرواية وعقدتها.

وفي النهاية لا بد في كل رواية، من الإيقاع بالقاتل. ذلك هو غرض القصة البوليسية على كل حال. العناصر في هذا الفرع، منها: كم سنة يجب أن تمضي على الحدث قبل أن تستحق القصة الصفة التاريخية، أو: هل ينبغي أن تحتوي حقائق تاريخية، وكم من نسج الخيال يحق للمؤلف أن يضمِّن روايته لتبقى «تاريخية». وهل ينبغي أن تكون الضحية شخصاً حقيقياً من التاريخ مثل سقراط أو موتسارت، أم أن القصة التاريخية قد تتسع لرواية اغتيال شخص وهمي، لكن في بيئة زمنية واجتماعية تاريخية. وهل يكفي أن يكون التحري شخصاً تاريخياً فتحاك من حوله قصة غير حقيقية.

كلمة بوليس وكلمة شرطة واسم الرواية البوليسية
كلمة «بوليس»، من اليونانية القديمة «بوليتِيا»، وتعني في الأصل إدارة المدينة. وهي تشمل مجموع القوانين والقواعد التي يلتزمها المواطن من أجل أن يسود النظام والطمأنينة والأمان، في المجتمع. وصارت الكلمة فيما بعد تعني مجموعة رجال منظمة مسلّحة مكلّفة أن تفرض احترام هذه النظم والقوانين. وكان نظام الشرطة متبعاً في مدن الفراعنة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة. وبين اسم الشرطة واسم المدينة في اليونانية القديمة علاقة، إذ كانوا يسمّون المدن: تريبوليس (طرابلس) أو أكروبوليس (الموقع الشهير في أثينا)، أو هليوبوليس (مدينة الشمس، في ضاحية القاهرة) وهكذا.

وفي العصور الحديثة، فقدت الكلمة معناها المتعلِّق بالمدينة، سوى أن الشرطة في النظام الفرنسي والنظم العربية المستوحاة منه كذلك، لا تعمل عموماً إلا في المدن، فيما تُسمَّى قوى الأمن في خارج المدن: الدَّرَك.

وكان العرب اتَّبعوا إنشاء قوة شبه عسكرية لحفظ النظام في المدن سموها: الشرطة. وفي لسان العرب:
«أشرطَ فلانٌ نفسَه لكذا وكذا، أي … أعدّها، ومنه سُمِّي الشُرَط، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامةً يٌعرَفون بها، الواحد شُرَطة وشُرَطيّ… ورجلٌ شُرَطيٌ وشُرْطي: منسوب إلى الشرطة، والجمع: شُرَطٌ، سُمّوا بذلك لأنهم أَعدّوا لذلك وأعلموا أنفسهم بعلامات».

وحين نقول في الصحف والإذاعات: رجال الشرطة، فلأننا قد لا نعرف أن جمع كلمة: شرطي، هو شُرَط. فعبارة: رجال الشرطة ليست عربية خالصة، بل انها ترجمة حرفية لعبارة: Police Men، الإنجليزية.

لقد تطور معنى كلمة «بوليس» الأوروبية، مع الزمن، وصارت تعني، في عبارة: القصة البوليسية، ذلك النوع من القصة أو الرواية التي تعالج قضية جنائية، يحاول التحقيق والأدلة الجنائية والمباحث أو المحقق الخاص (Private Detective)، أن يفكّوا أحاجيّها وعقدها الغامضة لإماطة اللثام عن المجرم المتخفي، الذي حاول أن يخفي جريمته، بما يقرب من الجريمة الكاملة.

وإذا كانت الرواية البوليسية قد تحدث في أرياف، أو في عدد من البلاد، لا في مدينة بالضرورة، إلا أن الغالب في هذا النوع من الأدب، أنه مدني المواقع في الإجمال. وحين تكون الحادثة أو الجريمة في الريف، فذلك لإضافة تشويق عليها، فالمكان ليس مقر إقامة المحقّق المعتاد، وفي ذهابه إلى الريف شيء من التزويق الروائي الجذاب، الذي يحيط القصة بغموض مشوّق ومثير.

ويلاحَظ أن تسمية الرواية البوليسية بالفرنسية Roman Policier، تختلف في معناها قليلاً عن التسمية الإنجليزية Detective Novel، التي تعني: رواية التحقيق الجنائي. إلا أن التسميتين تعنيان النوع الأدبي نفسه في الإجمال. وقد وُلدت في أدبيات النوع كلمة إنجليزية، هي: whodunit، وهي دمج لعبارة: Who had done it، أي: من فعلها؟ وقد صارت الكلمة اسماً لنمط خاص من الرواية البوليسية، لا يتناول سوى عقدة التحقيق فيمن ارتكب جريمة ما، والمبارزة التي تنشأ بين التحري والمجرم، أحدهما يحاول كشف الجريمة وفاعلها، والآخر يحاول إخفاءها أو تحويل النظر عن فاعلها إلى غيره.

أضف تعليق

التعليقات