ليس ثمة خيار آخر: لابد من الحوار بين الفرد والفرد والجماعة والجماعة والأمة والأمة. هذا إذا كان الهدف الخير والسلام الذي يعم الجميع. أما إذا كان الهدف، من أي طرف، هو مزيد من تعطيل المصالح ومزيد من الإلغاء والتهميش والفوقية والدماء، فإن الحوار يغيب ليحل محله: أنت وأنا. إما أنت معي وإما أنت ضدي. وتصبح الدعوة إلى الحوار مجرد شعار في مهب ريح هذا الإلغاء، الذي تعاظم استشراؤه في عالم اليوم الحديث، رغم مكاسبه من العلم والثقافة والتطور في بناء حقوق الإنسان وواجباته. وهي مكاسب لا يمكن أن تقاس بأي حال من الأحوال فيما مضى من حقب البشرية، سواء أكانت حقباً اكتنفها الدين أم اكتنفها التيه.
وإذا ما انشغلنا بمنطلقاتنا الآنية من الحوار فإن ما أراه لا يخفى على كثيرين. وهو أننا نسعى إلى الحوار مع الآخر لا من منطلق قوة، بل من منطلق ضعف على كل المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا لا يعني أنني أطالب بإيقاف عجلة هذا الحوار الدائرة بقوة في السنوات الأخيرة، بل أقصد أن نفهم تمام الفهم الأرض التي نضع عليها أقدامنا ونحن نتحرك باتجاه الآخر، المختلف عنا ديناً وتقاليد وعادات اجتماعية.
ليست أمتنا الإسلامية، على الأقل في مفهوم الأمة الشائع إعلامياً، هي التي ترسم خطوات الشعوب الآن على طريق الحياة الشائكة والمتقدمة تقنياً. وليست هي التي تحرك أنظار الشعوب إلى مستقبلها. نحن أمة مستهلكة من رأسها إلى أخمص قدميها: القمح والماء والسيارة والطائرة وأشباه الموصلات وطبائع الجامعات. ماذا لدينا إذن لنقدمه للعالم من نوافذ الحوار التي نفتحها الآن على مصاريعها؟ لدينا، من وجهة نظري، شيء وحيد ولا شيء غيره يمكن أن نغلِّفه ونهديه إلى باقي الشعوب. هذا الشيء هو مدى استعدادنا، دون مراء ولا تردد، للمشاركة في حضارة اليوم.
ليس، بطبيعة الحال، الاستعداد على الصعيد المادي، وهو ما لا نملك منه شيئاً كما أوضحت، وإنما الاستعداد الفكري والثقافي، الذي نملك منه الكثير ونعطله لأننا نصر على بناء العوازل الغليظة بيننا وبين الآخرين، الذين يسكنون معنا الأرض نفسها وتغطيهم معنا السماء نفسها. الآخر، المستغني عنا بمنجزاته المدنية والتكنولوجية الهائلة، يمكن أن يستوعبنا إذا بشرنا بحالة فكرية متغيرة وصادقة تتعلق بالإنسان نفسه وكيف نصوغه ونصوغ منظومة القيم الإنسانية المشتركة معه.
وإذا أردت، أو اجتهدت، في وضع مقاييس الحوار التي يمكن أن يقبلنا الآخر على أساسها فأولها أن نعترف دون مواربة بالمشترك بيننا، وهو ليس بالضرورة عقائدياً، كما حدث من قبل في أكثر من طاولة حوار، حين سُدت منافذ المشترك بين الحضارات والشعوب، بل أحياناً بين فئات الشعب نفسه، بالأقفال العقائدية المغلظة. المشترك الإنساني غير العقدي يسع الجميع. ومن هذا المشترك، على سبيل المثال لا الحصر، ما يتعلق بحقوق الإنسان بشكل مطلق وحقوق المرأة والطفل والفقير والمهاجر واحترام الرموز والثوابت لدى كل طرف.
السنوات الطويلة التي ضاعت هباءً خلف تقريب العقائد، كان يمكن أن تُستثمر وأن نلعب فيها نحن كأمة إسلامية دوراً كبيراً، لو أن بوصلتها اتجهت إلى الموضوعات التي تقبل الحوار، وهي المواقف والآراء ووجهات النظر.
أما ثاني أسس الحوار الذي نسعى إليه مع الآخر، فهو أن تكون مستعداً باعتبارك محاوراً لتفهم وجهة نظر الآخر، المُطالَب بدرجة التفهم نفسها لوجهة نظرك. أي ألاَّ نجلس للحوار بجدول أعمال غير قابل للنقاش، لأن مثل هذا الجدول، الذي ربما يشوه صورة الآخر، لن يقبل تصحيح هذه الصورة، حتى لو امتد الحوار سنوات، بل حتى لو امتد قروناً. في صورة كل إنسان حتماً جانب مشترك مع الآخر، مهما تباعدت الجغرافيا واختلفت المشارب والثقافة. على الأقل لدى كل إنسان على وجه الأرض موقف من قتل الإنسان للإنسان أو ممارسة العنف ضد الطفولة على سبيل المثال، يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم. ويصبح بالإمكان الحوار حول سبيل الوصول إلى تبريد جحيم القتل الذي يلف العالم كله وتقليل عدد البؤر الساخنة على أرضنا المشتركة.
الأساس الثالث والأخير هو أن تفعل أرض الحوار المتمثلة في الجامعات والمراكز وحتى المدارس المبكرة. وهذه الأخيرة تتحمل العبء الأكبر في تخليق ثقافة الحوار لدى الأفراد حول المشترك مع كل الأطراف، بعدوا أم قربوا. وإذا تجاوز الإنسان مراحله الدراسية الأولية دون أن يتعلم أصول الحوار وشروطه فإن من الصعب مطالبته بتأسيس أخلاقيات الحوار بعد أن يشب أو يشيب. ولذلك يفترض أن ننشط ونسعى دون كلل لنؤسس لثقافة الحوار في مدارسنا الابتدائية والثانوية تأسيساً حقيقياً لا مجرد شعارات وطنطنة في الصحف.
نريد أن نرى الجيل التالي وقد تبلورت لديه ثقافة حوار حقيقية، لا يتخلى فيها عن أصول الحوار التي تعلمها حتى لو تخلى الطرف الآخر عن هذه الأصول.