حتى لو أسقطنا من حسابنا القسوة التي يعامل بها الإنسان هذا الحيوان الأليف على وجه التحديد، والتي يمكنها بمفردها أن تملأ ملفاً كاملاً، علماً بأنه ما من داعٍ لإسقاط الحديث عن هذه القسوة، إلا خشية الإقرار بما يمكنها أن تكشف عنه..
وحتى لو أسقطنا أيضاً الإنكار الذي يعامل به هذا الحيوان خاصة في المجتمعات التي لم تعد زراعية فلم تعد بحاجة إليه ولم تصبح صناعية في جوهرها لتعرف ترف التعامل مع الحيوان برفق واهتمام، كما هو حال المجتمع في مدننا العربية، حيث لم يبقَ من الحمار غير الاسم. والاسم كما هو معروف منذ قرون، مرادف للشتيمة!
يكفينا أن ننتبه إلى أن حضور الحمار في الحياة اليومية للإنسان استمر أكثر من خمسة آلاف سنة متواصلة.. أي مدة كافية لكي يسهم هذا الحضور في إضافات كثيرة إلى المخزون الثقافي للإنسانية، وهذه الإضافات انتقل إليها سوء طالع مصدرها، فبقيت في قسم كبير منها إلى جانبه في الظل. وهذا ما يحاول عبود عطية أن يسلِّط عليه الضوء في هذا الملف.
يُعدُّ الحمار نوعاً مستقلاً
تماماً عن الحصان لا فصيلة منحطة من الخيل كما كان يُعتقد
عندما اجتاز نابليون بونابرت جبال الألب في حملته على إيطاليا تلقَّى الرسَّام الفرنسي جاك لوي دافيد طلباً من شارل الرابع ملك إسبانيا كي يرسم هذا العبور في لوحة. ورسم دافيد بالفعل لوحة رائعة، نرى فيها نابليون، الذي كان يحمل لقب القنصل الأول، على صهوة جواد أبيض ينتصب على قائمتيه الخلفيتين فوق الصخور الجبلية.. عُدَّت تلك اللوحة عن جدارة آنذاك تحفة الدعاية السياسية، حتى أن محتَرَف دافيد رسم أربع نسخ منها لأربعة زبائن مختلفين. ولكن بعد سقوط إمبراطورية نابليون عام 1815م، لم تعد هناك حاجة إلى الدعاية السياسية، واتسع المجال للحقيقة التاريخية، فرسم الفنان بول دي لاروش سنة 1848م الصورة الواقعية التي نرى فيها بونابرت في معطف شتاء على صهوة.. بغل. والبغل كما هو معروف وليد تناسل حمار وفرس.
قبل عصر نابليون بنحو نصف قرن، أي في منتصف القرن الثامن عشر كتب العالم الطبيعي الكونت دي بوفون بحثاً حول الحمار في الدورية العلمية الشهيرة التاريخ الطبيعي العام والخاص . وكان هذا البحث الأول في التاريخ الذي يقول إن الحمار يعدُّ نوعاً مستقلاً تماماً عن الحصان وليس فصيلة منحطة من الخيل كما كان يعتقد من قبل. وهذا ما أكده العلم لاحقاً بسهولة. ومما كتبه دي بوفون في المقالة أنه لو تم إيلاء الحمار الاهتمام نفسه الذي يلقاه الحصان، ولو أتعبنا أنفسنا بتربيته كما نربي الخيول، فما من شك في أن الحمار سيكون قادراً على أداء أمور ليست مجهولة إلا لأنه بين أيادي أناس قساة من ذوي الطباع الخشنة .
ولكن هذا الإنصاف العلمي، الذي دعمت صحته تجارب حديثة عديدة، يبقى أصغر بكثير من أن يزعزع صورة الحمار في الوجدان الشعبي والعام الذي صيغ خلال ألوف السنين، والذي عندما يتجاوز إنكار الحمار في لحظات الحاجة إلى خدماته، فإنه يتطلع إليه بدونية واحتقار يلامس العداء لما فيه من قسوة.
الإنكار نفسه المتمثل في تزييف التاريخ أو الواقع على أيدي الرسَّام دافيد، هو نفسه الذي نلحظه في المكتبات المنتشرة في أسواقنا. ففي كل واحدة منها عشرات الكتب التي تتحدث عن الخيول، ولكن على المرء أن يفتش في عشر مكتبات ليجد كتيباً عن الحمار.. ولو فتحنا الموسوعة العربية العالمية ، على سبيل المثال المحدد الذي يمكن للكل أن يتلمسه، لوجدنا أن بند الحمار يشغل نحو نصف صفحة فقط، في حين أن بند الحوت ، على سبيل المثال أيضاً، يشغل 15 صفحة.. علماً بأن ليس للحوت أي دور يذكر في حياة الإنسان مقارنة بالدور الذي لعبه الحمار ولا يزال.
على كل حال، يبقى الإنكار -بمعنى تجاهل هذا الحيوان- أقل سوءاً مما واجهه الحمار في تعامل الإنسان معه. فخلال أكثر من خمسة آلاف سنة، كان الحمار خادم الخدم، وعاملاً عند المُزارع العامل بدوره عند سيد أعلى منه شأناً. ولذا، كان من الطبيعي أن يتركَّز عليه كل الاضطهاد الذي يلقاه سيده المباشر من قبل سيده الأعلى.
فمن المدهش -كما يظهر من بعض النصوص اللاحقة في هذا الملف- أن تكون المعاملة الفظة والغليظة حتى حدود الشراسة التي عومل بها الحمار أيام لوكيوس أبوليوس في الإمبراطورية الرومانية، هي نفسها التي شاهدها توفيق الحكيم في مصر خلال القرن العشرين، ويلحظها أي شخص اليوم في أية بيئة زراعية.
ولأن الإنسان منذ نشوء الحضارات يرى في القوة المضافة إلى جملة صفات خبيثة وسيلة لتغيير مسار الأوضاع غير المرضية، فقد رأى في قدرة الحمار على التحمل واستكانته غباء . حتى تحول اسمه على مرّ العصور في معظم لغات العالم إلى شتيمة، تطلق في وجه كل من يفتقر إلى الذكاء أو حُسن التصرف. والمفارقة أن هذا الانطباع عن قيمة الحمار تكوَّن أولاً عند الخدم والمزارعين عن خادمهم، وانتقل منهم إلى سادتهم وصولاً إلى أعلى مستويات الأدباء والمثقفين الذين اقتنعوا بهذا الرأي وتبنوه. وكان هذا الانطباع يلقى دوماً ما يعززه، ونادراً ما لقي ما يفنده خلال تاريخ الحمار الطويل.
بعض المحطات الكبرى في تاريخ الحمار
تعود كل الحمير المدجنة في العالم اليوم إلى فصيلتين اثنتين من الحمير البرية التي كانت تسرح في القرن الإفريقي وبلاد النوبة. ولذا كان من الطبيعي أن يكون فراعنة النوبة أول من روَّض هذا الحمار في وقت غير محدد بدقة خلال الألف الرابع قبل الميلاد، بدليل أن مقبرة أمحوتب التي تعود إلى حوالي 3000 سنة قبل الميلاد تتضمن رسوماً جدارية تظهر حميراً مستخدمة لنقل البضائع والركوب أيضاً…
وقرابة العام 1800 قبل الميلاد، خرج الحمار من وادي النيل عبر أسواق دمشق التي كانت مركزاً تجارياً مهماً، إلى كافة أصقاع العالم القديم، وبسرعة كبيرة قياساً إلى الفترة الطويلة التي بقي فيها في بلاد النوبة. إذ إن قانون حمورابي الذي وُضع في العراق بعد ذلك بثلاثمائة عام، تضمَّن بنداً يقضي بإعدام من يسرق حماراً. فبسبب قدرات هذا الحيوان على السير فوق الطرق الوعرة، انتشر في الجبال، وبسبب قدرته على تحمل العطش والحر، انتشر في كل الواحات الصحراوية من شمال إفريقيا إلى الصين.
احتل الحمار مكاناً (لا مكانة) لم يحتله أي حيوان آخر في الحضارات الزراعية. استخدم في النقل بأوسع معاني الكلمة: نقل البضائع والأشخاص، وجرَّ العربات، ونقل الحركة في الطواحين.. وصولاً إلى الإمدادات العسكرية لجيش الإسكندر المقدوني في حربه مع ملك الفرس داريوس، ليدخل بذلك معترك الحياة العسكرية أيضاً التي لن تنتهي إلا في القرن العشرين.
وحتى أيام الإمبراطورية الرومانية، كان هناك حمار من فصيلة مختلفة غير إفريقية الأصل، وهو الحمار الأحمر الذي كان يستوطن آسيا الوسطى (ونرجِّح استطراداً أن اسم الحمار بالعربية يعود إلى اللون الأحمر-البني الذي كان يميِّز هذا الحيوان بالذات). ولكن الحمار الأحمر كان صعب المراس جداً، وترويضه غير مضمون النتائج دوماً.. ولذا، بمجرد وصول الحمار الإفريقي إلى روما، تخلوا تماماً عن الحمار الأحمر لصالحه، إذا افترضنا أنه كانت للحمار الإفريقي مصلحة في هذا التبني.. أما الحمار الأحمر فهو اليوم مثله مثل معظم الحمير البرية.. مهدد بالانقراض.
وخلال نحو ألفي عام، لم يطرأ أي تغيير على عالم الحمار، سوى انتشاره في المزيد من أصقاع الدنيا، ولم تطرأ غير تعديلات طفيفة على دوره التقليدي في الحياة الزراعية.
فالحمير التي نقلها معه كريستوف كولومبوس إلى أمريكا (أربعة ذكور وأنثيان)، تزاوجت مع الخيول لتلد البغال التي استخدمها الغزاة الإسبان في استكشاف القارة الجديدة. وبعد استقلال أمريكا استورد الرئيس جورج واشنطن أول دفعة من الحمير إلى أمريكا. ولكن الحمار لم يحتل مكانته الفعلية في الحياة الأمريكية إلا خلال القرن التاسع عشر، عندما فضله المنقبون عن الذهب على الحصان والبغل، لقدرته على حمل المعدات في الأراضي الوعرة، وطواعيته التي تُغني عن اقتياده بحبل، إذ إنه يتبع سيده من تلقاء نفسه. ولكن إنشاء السكك الحديد في النصف الثاني من القرن نفسه، دفع بأصحاب الحمير إلى إطلاقها في البراري والصحاري، حيث لا يزال حفدتها يتناسلون حتى اليوم.
وعلى الرغم من أن الدور الأول المُناط بالحمار لا يزال هو نفسه كما كان قبل خمسة آلاف سنة، والمعاملة التي يلقاها كذلك.. شهد القرن العشرون ما يمكننا أن نعده الاضطراب الأكبر في تاريخ الحمار.
والواقع أن بوادر هذا الاضطراب ظهرت قبل نحو قرنين أو أكثر، كما أشرنا سابقاً، عندما أكد العلم أن الحمار ليس حصاناً منحطاً، وعندما أجرى علماء الحيوان دراسات مقارنة أظهرت أن لهذا الحيوان الأليف ميزات تفوق ما هو مرسوم في الأذهان حوله. ولكن قبل أن تثمر هذه النظرة العلمية الجديدة إلى الحمار أي شيء، جاءت النهضة الصناعية لتعزِّز إنكاره وإشاحة النظر عنه، ولتضرب حتى وجوده في الصميم. ففي فرنسا مثلاً انخفض عدد الحمير من نحو 800,000 رأس إلى 13,000 رأس خلال قرن ونصف قرن. وخاصة مع مكننة الزراعة بعد العام 1945م، التي أوصلت قطيع الحمير إلى شفير الانهيار التام. الأمر نفسه ينطبق على كل المجتمعات الصناعية في أوروبا الغربية وأمريكا، من دون أن يعني ذلك انهياراً عالمياً، طالما أن معظم دول العالم لا تزال في طور النمو، وتعتمد على الزراعة بوسائلها التقليدية للعيش والبقاء.
أما التحول الكبير في كل تاريخ الحمار، فقد أطل برأسه بدءاً من سبعينيات القرن الماضي، عندما أدى انتشار مشاعر الرفق بالحيوان إلى ظهور جمعيات خاصة بالحمار تُعنى به وتدعو إلى تلطيف نظرة الإنسان إليه. وفيما يشبه صحوة الضمير، تكاثرت هذه الجمعيات بسرعة مذهلة، ففي فرنسا تجاوز عددها العشرين، إضافة إلى إنشاء متحف خاص هو متحف الحمار في ساسي لوغران ، كذلك تأسست جمعيات ومنظمات للشأن نفسه في كل من ألمانيا وأستراليا والولايات المتحدة وكندا والدنمارك وبريطانيا ونيوزيلنده وهولندا وإيطاليا وإيرلندا واليونان وسويسرا.. وفي حالات كثيرة، خرج الحمار عن وظيفته التقليدية في هذه الدول الصناعية والغنية، وتحوَّل إلى حيوان ترفيه للأطفال، وحيوان منزلي تقتصر أحياناً مهامه على الحراسة، أو حتى تزيين الحديقة.
وحيثما لا يزال الحمار يؤدي وظيفته التقليدية في الدول المتقدمة، فإن شروط عمله تحسنت نسبياً. ففي جزيرة هيدرا اليونانية، على سبيل المثال، التي يسكنها الأثرياء، فإن الحمار هو وسيلة النقل الوحيدة الموجودة في الجزيرة، ولا يوجد من المركبات الآلية غير سيارة واحدة لجمع النفايات.
وهكذا، بعدما كان يمكننا أن نقرأ حتى في العام 1908م تسويفاً علمياً للقسوة تجاه الحمار، مثل ذلك الذي جاء على لسان عالِم الحيوان البروفسور إميل تياري والقائل: مع البغل والحمار يجب أن تضرب بقوة، لأنهما لا يمتلكان حساسية الحصان، ولا يشعران إلا عندما تسبب لهما ألماً.. وهو ما يتماشى مع المفاهيم الشائعة عند أكثر الفلاحين تخلفاً قبل عشرين قرناً.. تبدلت الأحوال ولو قليلاً، ولو في بعض الأماكن فقط.
الحمار اليوم..
التقرير المخجل
يقول تقرير أصدرته منظمة الزراعة والأغذية الدولية (الفاو) إن عدد الحمير في العالم يناهز اليوم 44 مليون رأس (يتضمن هذا الرقم البغال أيضاً)، وتحتل الصين رأس قائمة الدول في امتلاك الحمير بنحو 11 مليون رأس، تليها الحبشة، والمكسيك، ومن ثم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ويضيف التقرير أن ٪95 من حمير العالم لا تزال تُستخدم في المهام نفسها التي أنيطت بها منذ نحو 6000 سنة، أي النقل وجر العربات، وتوليد البغال، في حين أن ٪5 فقط خصصت لمهام جديدة، مرافقة الخيول، وحراسة الماشية، أو الترفيه عن الأطفال وما شابه.
ويتوقع التقرير أن يستمر عدد الحمير في الارتفاع لأسباب عديدة، منها انتشار مشاعر الرفق بالحيوان في البلدان التي فقدت الحاجة إليها، وازدياد السكان في الأرياف في العالم الثالث، وارتفاع أسعار البدائل الميكانيكية بالنسبة إلى هؤلاء.
وفي حين أن الحمار يعيش نظرياً (وعملياً) في البلدان الغربية ما بين 35 و40 سنة، يقول تقرير الفاو إن معدل عمر الحمار في منطقة الشرق الأوسط لا يتجاوز سبع سنوات. أما التفسير المخجل لهذا العمر القصير الذي يورده التقرير، فهو: سوء التغذية وسوء المعاملة.
لو أتعبنا أنفسنا بتربية الحمار كما نربي الخيول، فما من شك في أنه سيكون قادراً على آداء أمور ليست مجهولة، إلا لأنه بين أيادي أناس قساة من ذوي الطباع الخشنه
قبل عصر نابليون بنحو نصف قرن، أي في منتصف القرن الثامن عشر كتب العالم الطبيعي الكونت دي بوفون بحثاً حول الحمار في الدورية العلمية الشهيرة التاريخ الطبيعي العام والخاص . وكان هذا البحث الأول في التاريخ الذي يقول إن الحمار يعدُّ نوعاً مستقلاً تماماً عن الحصان وليس فصيلة منحطة من الخيل كما كان يعتقد من قبل. وهذا ما أكده العلم لاحقاً بسهولة. ومما كتبه دي بوفون في المقالة أنه لو تم إيلاء الحمار الاهتمام نفسه الذي يلقاه الحصان، ولو أتعبنا أنفسنا بتربيته كما نربي الخيول، فما من شك في أن الحمار سيكون قادراً على أداء أمور ليست مجهولة إلا لأنه بين أيادي أناس قساة من ذوي الطباع الخشنة .
ولكن هذا الإنصاف العلمي، الذي دعمت صحته تجارب حديثة عديدة، يبقى أصغر بكثير من أن يزعزع صورة الحمار في الوجدان الشعبي والعام الذي صيغ خلال ألوف السنين، والذي عندما يتجاوز إنكار الحمار في لحظات الحاجة إلى خدماته، فإنه يتطلع إليه بدونية واحتقار يلامس العداء لما فيه من قسوة.
الإنكار نفسه المتمثل في تزييف التاريخ أو الواقع على أيدي الرسَّام دافيد، هو نفسه الذي نلحظه في المكتبات المنتشرة في أسواقنا. ففي كل واحدة منها عشرات الكتب التي تتحدث عن الخيول، ولكن على المرء أن يفتش في عشر مكتبات ليجد كتيباً عن الحمار.. ولو فتحنا الموسوعة العربية العالمية ، على سبيل المثال المحدد الذي يمكن للكل أن يتلمسه، لوجدنا أن بند الحمار يشغل نحو نصف صفحة فقط، في حين أن بند الحوت ، على سبيل المثال أيضاً، يشغل 15 صفحة.. علماً بأن ليس للحوت أي دور يذكر في حياة الإنسان مقارنة بالدور الذي لعبه الحمار ولا يزال.
على كل حال، يبقى الإنكار -بمعنى تجاهل هذا الحيوان- أقل سوءاً مما واجهه الحمار في تعامل الإنسان معه. فخلال أكثر من خمسة آلاف سنة، كان الحمار خادم الخدم، وعاملاً عند المُزارع العامل بدوره عند سيد أعلى منه شأناً. ولذا، كان من الطبيعي أن يتركَّز عليه كل الاضطهاد الذي يلقاه سيده المباشر من قبل سيده الأعلى.
فمن المدهش -كما يظهر من بعض النصوص اللاحقة في هذا الملف- أن تكون المعاملة الفظة والغليظة حتى حدود الشراسة التي عومل بها الحمار أيام لوكيوس أبوليوس في الإمبراطورية الرومانية، هي نفسها التي شاهدها توفيق الحكيم في مصر خلال القرن العشرين، ويلحظها أي شخص اليوم في أية بيئة زراعية.
ولأن الإنسان منذ نشوء الحضارات يرى في القوة المضافة إلى جملة صفات خبيثة وسيلة لتغيير مسار الأوضاع غير المرضية، فقد رأى في قدرة الحمار على التحمل واستكانته غباء . حتى تحول اسمه على مرّ العصور في معظم لغات العالم إلى شتيمة، تطلق في وجه كل من يفتقر إلى الذكاء أو حُسن التصرف. والمفارقة أن هذا الانطباع عن قيمة الحمار تكوَّن أولاً عند الخدم والمزارعين عن خادمهم، وانتقل منهم إلى سادتهم وصولاً إلى أعلى مستويات الأدباء والمثقفين الذين اقتنعوا بهذا الرأي وتبنوه. وكان هذا الانطباع يلقى دوماً ما يعززه، ونادراً ما لقي ما يفنده خلال تاريخ الحمار الطويل.
بعض المحطات الكبرى في تاريخ الحمار
تعود كل الحمير المدجنة في العالم اليوم إلى فصيلتين اثنتين من الحمير البرية التي كانت تسرح في القرن الإفريقي وبلاد النوبة. ولذا كان من الطبيعي أن يكون فراعنة النوبة أول من روَّض هذا الحمار في وقت غير محدد بدقة خلال الألف الرابع قبل الميلاد، بدليل أن مقبرة أمحوتب التي تعود إلى حوالي 3000 سنة قبل الميلاد تتضمن رسوماً جدارية تظهر حميراً مستخدمة لنقل البضائع والركوب أيضاً…
وقرابة العام 1800 قبل الميلاد، خرج الحمار من وادي النيل عبر أسواق دمشق التي كانت مركزاً تجارياً مهماً، إلى كافة أصقاع العالم القديم، وبسرعة كبيرة قياساً إلى الفترة الطويلة التي بقي فيها في بلاد النوبة. إذ إن قانون حمورابي الذي وُضع في العراق بعد ذلك بثلاثمائة عام، تضمَّن بنداً يقضي بإعدام من يسرق حماراً. فبسبب قدرات هذا الحيوان على السير فوق الطرق الوعرة، انتشر في الجبال، وبسبب قدرته على تحمل العطش والحر، انتشر في كل الواحات الصحراوية من شمال إفريقيا إلى الصين.
احتل الحمار مكاناً (لا مكانة) لم يحتله أي حيوان آخر في الحضارات الزراعية. استخدم في النقل بأوسع معاني الكلمة: نقل البضائع والأشخاص، وجرَّ العربات، ونقل الحركة في الطواحين.. وصولاً إلى الإمدادات العسكرية لجيش الإسكندر المقدوني في حربه مع ملك الفرس داريوس، ليدخل بذلك معترك الحياة العسكرية أيضاً التي لن تنتهي إلا في القرن العشرين.
وحتى أيام الإمبراطورية الرومانية، كان هناك حمار من فصيلة مختلفة غير إفريقية الأصل، وهو الحمار الأحمر الذي كان يستوطن آسيا الوسطى (ونرجِّح استطراداً أن اسم الحمار بالعربية يعود إلى اللون الأحمر-البني الذي كان يميِّز هذا الحيوان بالذات). ولكن الحمار الأحمر كان صعب المراس جداً، وترويضه غير مضمون النتائج دوماً.. ولذا، بمجرد وصول الحمار الإفريقي إلى روما، تخلوا تماماً عن الحمار الأحمر لصالحه، إذا افترضنا أنه كانت للحمار الإفريقي مصلحة في هذا التبني.. أما الحمار الأحمر فهو اليوم مثله مثل معظم الحمير البرية.. مهدد بالانقراض.
وخلال نحو ألفي عام، لم يطرأ أي تغيير على عالم الحمار، سوى انتشاره في المزيد من أصقاع الدنيا، ولم تطرأ غير تعديلات طفيفة على دوره التقليدي في الحياة الزراعية.
فالحمير التي نقلها معه كريستوف كولومبوس إلى أمريكا (أربعة ذكور وأنثيان)، تزاوجت مع الخيول لتلد البغال التي استخدمها الغزاة الإسبان في استكشاف القارة الجديدة. وبعد استقلال أمريكا استورد الرئيس جورج واشنطن أول دفعة من الحمير إلى أمريكا. ولكن الحمار لم يحتل مكانته الفعلية في الحياة الأمريكية إلا خلال القرن التاسع عشر، عندما فضله المنقبون عن الذهب على الحصان والبغل، لقدرته على حمل المعدات في الأراضي الوعرة، وطواعيته التي تُغني عن اقتياده بحبل، إذ إنه يتبع سيده من تلقاء نفسه. ولكن إنشاء السكك الحديد في النصف الثاني من القرن نفسه، دفع بأصحاب الحمير إلى إطلاقها في البراري والصحاري، حيث لا يزال حفدتها يتناسلون حتى اليوم.
وعلى الرغم من أن الدور الأول المُناط بالحمار لا يزال هو نفسه كما كان قبل خمسة آلاف سنة، والمعاملة التي يلقاها كذلك.. شهد القرن العشرون ما يمكننا أن نعده الاضطراب الأكبر في تاريخ الحمار.
والواقع أن بوادر هذا الاضطراب ظهرت قبل نحو قرنين أو أكثر، كما أشرنا سابقاً، عندما أكد العلم أن الحمار ليس حصاناً منحطاً، وعندما أجرى علماء الحيوان دراسات مقارنة أظهرت أن لهذا الحيوان الأليف ميزات تفوق ما هو مرسوم في الأذهان حوله. ولكن قبل أن تثمر هذه النظرة العلمية الجديدة إلى الحمار أي شيء، جاءت النهضة الصناعية لتعزِّز إنكاره وإشاحة النظر عنه، ولتضرب حتى وجوده في الصميم. ففي فرنسا مثلاً انخفض عدد الحمير من نحو 800,000 رأس إلى 13,000 رأس خلال قرن ونصف قرن. وخاصة مع مكننة الزراعة بعد العام 1945م، التي أوصلت قطيع الحمير إلى شفير الانهيار التام. الأمر نفسه ينطبق على كل المجتمعات الصناعية في أوروبا الغربية وأمريكا، من دون أن يعني ذلك انهياراً عالمياً، طالما أن معظم دول العالم لا تزال في طور النمو، وتعتمد على الزراعة بوسائلها التقليدية للعيش والبقاء.
أما التحول الكبير في كل تاريخ الحمار، فقد أطل برأسه بدءاً من سبعينيات القرن الماضي، عندما أدى انتشار مشاعر الرفق بالحيوان إلى ظهور جمعيات خاصة بالحمار تُعنى به وتدعو إلى تلطيف نظرة الإنسان إليه. وفيما يشبه صحوة الضمير، تكاثرت هذه الجمعيات بسرعة مذهلة، ففي فرنسا تجاوز عددها العشرين، إضافة إلى إنشاء متحف خاص هو متحف الحمار في ساسي لوغران ، كذلك تأسست جمعيات ومنظمات للشأن نفسه في كل من ألمانيا وأستراليا والولايات المتحدة وكندا والدنمارك وبريطانيا ونيوزيلنده وهولندا وإيطاليا وإيرلندا واليونان وسويسرا.. وفي حالات كثيرة، خرج الحمار عن وظيفته التقليدية في هذه الدول الصناعية والغنية، وتحوَّل إلى حيوان ترفيه للأطفال، وحيوان منزلي تقتصر أحياناً مهامه على الحراسة، أو حتى تزيين الحديقة.
وحيثما لا يزال الحمار يؤدي وظيفته التقليدية في الدول المتقدمة، فإن شروط عمله تحسنت نسبياً. ففي جزيرة هيدرا اليونانية، على سبيل المثال، التي يسكنها الأثرياء، فإن الحمار هو وسيلة النقل الوحيدة الموجودة في الجزيرة، ولا يوجد من المركبات الآلية غير سيارة واحدة لجمع النفايات.
وهكذا، بعدما كان يمكننا أن نقرأ حتى في العام 1908م تسويفاً علمياً للقسوة تجاه الحمار، مثل ذلك الذي جاء على لسان عالِم الحيوان البروفسور إميل تياري والقائل: مع البغل والحمار يجب أن تضرب بقوة، لأنهما لا يمتلكان حساسية الحصان، ولا يشعران إلا عندما تسبب لهما ألماً.. وهو ما يتماشى مع المفاهيم الشائعة عند أكثر الفلاحين تخلفاً قبل عشرين قرناً.. تبدلت الأحوال ولو قليلاً، ولو في بعض الأماكن فقط.
الحمار اليوم..
التقرير المخجل
يقول تقرير أصدرته منظمة الزراعة والأغذية الدولية (الفاو) إن عدد الحمير في العالم يناهز اليوم 44 مليون رأس (يتضمن هذا الرقم البغال أيضاً)، وتحتل الصين رأس قائمة الدول في امتلاك الحمير بنحو 11 مليون رأس، تليها الحبشة، والمكسيك، ومن ثم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ويضيف التقرير أن ٪95 من حمير العالم لا تزال تُستخدم في المهام نفسها التي أنيطت بها منذ نحو 6000 سنة، أي النقل وجر العربات، وتوليد البغال، في حين أن ٪5 فقط خصصت لمهام جديدة، مرافقة الخيول، وحراسة الماشية، أو الترفيه عن الأطفال وما شابه.
ويتوقع التقرير أن يستمر عدد الحمير في الارتفاع لأسباب عديدة، منها انتشار مشاعر الرفق بالحيوان في البلدان التي فقدت الحاجة إليها، وازدياد السكان في الأرياف في العالم الثالث، وارتفاع أسعار البدائل الميكانيكية بالنسبة إلى هؤلاء.
وفي حين أن الحمار يعيش نظرياً (وعملياً) في البلدان الغربية ما بين 35 و40 سنة، يقول تقرير الفاو إن معدل عمر الحمار في منطقة الشرق الأوسط لا يتجاوز سبع سنوات. أما التفسير المخجل لهذا العمر القصير الذي يورده التقرير، فهو: سوء التغذية وسوء المعاملة.
صور الحمار في الأدب
الحماقة لتعليم الحكمة
لو أجزنا لأنفسنا اختصار الحديث عن حضور الحمار في الأدب العالمي بكلمات قليلة -علماً بأن هذا الاختصار يهدر الكثير من الزخارف بالغة الأهمية- لقلنا إن آداب شعوب العالم استخدمت الحمار مادة لإلقاء موعظة أخلاقية أو فلسفية على الإنسان، أو تلقينه حكمة معينة. وعلى مدى عشرين قرناً تعددت أشكال ظهور الحمار في الأدب، فحضر في عشرات الأعمال التي خرجت من بيئتها المحلية إلى العالمية، لتصبج جزءاً مهماً من التراث الثقافي للإنسانية.
وبشكل عام، يمكن القول إن حضور الحمار في الأدب جاء في ثلاثة أشكال مختلفة:
أولاً: موضوع التحول، حيث يتحول إنسان ما إلى حمار، فيصبح مراقباً صامتاً لسلوك البشر، ويتحدث عن معاناته على أيديهم.. وفي هذه الحالة يكون الأديب نفسه هو المتقمص لشخصية الحمار.
ثانياً: الحمار المؤنسن، أي القادر على النطق ومخاطبة الحيوانات، وحتى التفكير ومخاطبة الفلاسفة.
ثالثاً: الحمار الواقعي، رفيق الإنسان في حياته اليومية.
الحمار الذهبي
إن أقدم رواية في التاريخ وصلت إلينا كاملة هي رواية الحمار الذهبي التي كتبها لوكيوس أبوليوس في القرن الثاني الميلادي (سبق للقافلة أن تناولتها في قسمها الأدبي في العدد 3 من المجلد 55 – مايو/يونيو 2006م).
تحكي هذه الرواية المستمدة من أصل يوناني، قصة رجل يتحول بفعل السحر إلى حمار، صاغها المؤلف بصيغة المتحدث وكأنها مذكرات. وإذا كان المؤرخون قد أولوا هذه الرواية أهمية كبيرة لجانبها التاريخي والفلسفي، فإن حيزاً كبيراً من قيمتها الأدبية يتمثل في قدرة الكاتب على تقمص شخصية الحمار وتصوير حياته وما يعانيه على أيدي البشر الذين تعاقبوا على امتلاكه ما بين واحد اشتراه، ولصوص سرقوه.. فكتب في هذا الإطار صفحات مؤثرة عن الظلم والقسوة (راجع الإطار: مشاعر حمار).
لم يكن حضور الحمار في قلب أقدم رواية وصلت إلينا محض صدفة. فرواية لوكيوس أبوليوس هذه قريبة جداً من رواية أخرى كتبها لوقيانوس السميساطي (القرن الثاني بعد الميلاد) وعنوانها لوكيوس والحمار ، ومن المرجح جداً أن هاتين الروايتين تستوحيان قصة ظهرت قبل عصرهما ومؤلفها هو لوكيوس البتري، (من البتراء) حسبما يقول أحد علماء القرن التاسع الميلادي ويُدعى فوتيوس، بعدما اطلع على هذا الأصل الذي لم يصل إلينا.
وعند ماكيافيلي وشكسبير
وفي القرن الخامس عشر الميلادي بدأ ماكيافيلي بإعادة كتابة رواية أبوليوس نفسها (عام 1475م) ولكنه لم يكملها. وفي نسخة ماكيافيلي غير المكتملة هذه نرى أن البطل الذي تحول إلى حمار يلتقي بصديق له وقد تحول إلى خنزير يرفض العودة إلى هيئته الآدمية السابقة، لأنه يأخذ على الإنسان طموحاته وقسوته وميله إلى حياة الترف.. فيقول: إن الخنزير لا يعذِّب خنزيراً، وحده الإنسان يقتل إنساناً آخر ويعذبه وينهب خيراته. لماذا يكون الإنسان نمراً بالنسبة إلى إنسان آخر؟ إنه حر. لماذا يختار الإنسان عن طيبة خاطر أن يكون شريراً بدلآً من أن يكون طيباً؟ .
والواقع أن موضوع التحول هذا راج على نطاق واسع في عالم الأدب. ففي حلم ليلة صيف ، لوليم شكسبير، نرى أن شخصاً يُدعى بوتوم قد تحول رأسه إلى رأس حمار، وتبلغ العقدة ذروتها عندما يُحكم على الملكة تاتيانا أن تحب أول رجل تراه عندما تستيقظ من نومها.. وكان أن وقع نظرها على بوتوم.. فيسارع الملك أوبيرون إلى معالجة المشكلة، ويعود بوتوم إلى هيئته الآدمية. ولأن هذا الأخير كان يعمل أيضاً في التمثيل واعتاد تقمص شخصيات مختلفة، لم تترك كل هذه التحولات أي أثر في نفسه.. فالقضية كانت مجرد حلم.. وبخلاف حمار أبوليوس الذي يثير الكثير من التعاطف، فإن حمار شكسبير هذا يثير النفور بسبب قبح الشكل في رأس حمار على جسم إنسان.
حمار كليلة ودمنة..
أساس مدرسة أدبية
خلال القرن الثامن الميلادي، ترجم ابن المقفع إلى العربية كتاب كليلة ودمنة لمؤلفه الهندي بيدبا (من القرن الرابع قبل الميلاد) ويتضمن هذا الكتاب، كما هو معلوم، مجموعة حكايات أبطالها من الحيوانات البرية والداجنة الذين يتفاعلون فيما بينهم وكأنهم من البشر، وتهدف كل حكاية إلى إلقاء موعظة أو استخلاص حكمة معينة، ولذا سميت كل حكاية مثلاً .
وفي مَثَلِ الأسد وابن آوى والحمار ، يظهر هذا الأخير بصفتين: المظلوم والأحمق. فهو مظلوم لأنه يقول عندما يسأله ابن آوى عن سبب هزاله: لسوء تدبير صاحبي، فإنه لا يزال يجيع بطني ويثقل ظهري، وما تجتمع هاتان الحالتان على جسم إلا أنحلتاه وسقمتاه.. . وهو أحمق لأنه تعرض للخديعة نفسها مرتين على يد ابن آوى، فبعدما نجا في المرة الأولى، قتله الأسد في المرة الثانية.
ما يهمنا هنا هو أن بيدبا أسس لمدرسة أدبية، كان لابن المقفع الفضل في نقلها عبر العربية إلى أوروبا، حيث ازدهرت وعاشت قروناً طويلة، فنُسج عدد لا يحصى من الأعمال الأدبية على المنوال نفسه.
في العام 1180م، كتب نايجلوس ويركر في كانتربوري مذكرات مجنون حيث نرى أن حماراً يدعى برونيلوس يهرب من مزرعة سيده ليحصل لنفسه على ذيل بجمال أذنيه ، فيُطعم ذيله للكلاب، ومن ثم يلتحق بجامعة السوربون عشر سنوات حيث لم يتعلم أكثر من القول هي! هان .. وبعد سلسلة مغامرات يعود برونيلوس هذا إلى قبضة صاحبه الذي يقطع له أذنيه الجميلتين.. والعبرة التي يلقيها المؤلف في حكايته هذه هي، استناداً إلى قناعة الحمار في النهاية، إن من يُخلق حماراً، يجب أن يبقى كذلك.. .
وفي القرن السابع عشر، ظهرت الفلسفة نفسها عند الكاتب المسرحي الفرنسي موليير، الذي عندما تعرض لغضب الجماهير في مدينة ليموج التجأ مع فرقته المسرحية عند سيد مقاطعة تدعى أمبازاك، حيث لقي معاملة مذلة على يد هذا الإقطاعي الذي أبلغ الأديب عزمه على إنشاء أكاديمية جديدة. ولاحقاً انتقم موليير من هذا الإقطاعي بأن أرسل له اثني عشر أكاديمياً من الحمير.. وكتب فوراً (عام 1669م) مسرحيته مسيو دي بورسونياك وبطلها رجل برجوازي وتافه يطمح إلى لعب دور ثقافي.. أما مقاطعة أمبازاك فأسست أكاديمية الحمير التي نظمت مهرجاناً سنوياً يجمع محبي الطرائف والضحك من كافة الأرجاء القريبة منها.
الأحمق والحكيم والجبان
غير أن ذروة الأدب الذي أنسن الحمار لإلقاء المواعظ والحكم، كانت في أعمال الشاعر الفرنسي جان دي لا فونتين الذي كتب ثلاث مجموعات من الحكايات الشعرية (في الأعوام 1668 و1678 و1694م) عرف كيف يسخِّر فيها الحيوانات لتوجيه أقسى أنواع النقد لأحوال المجتمع الفرنسي وقيمه وعاداته آنذاك.
ويذكر لافونتين مصادره: حكايات إيزوب (القرن السابع قبل الميلاد) وفيدر (القرن الأول) وبيدبا الهندي. ويظهر الحمار في أعمال لافونتين في أشكال عديدة. فهو ضحية عاجزة في سارقو الحمار ، وحكيم في العجوز والحمار حيث يقول عدونا هو سيدنا! ، ومعتد بنفسه بغباء في الحمار حامل الذخائر ، وجبان في الأسد العجوز حيث لا يتردد في رفس أسد محتضر.. وأحياناً يجمع لافونتين في الحمار جملة صفات مثل الجبن والحماقة والحكمة كما هو الحال في حكاية الحمار حامل الإسفنج والحمار حامل الملح ، حيث ينجو الحمار من الغرق بسبب حماقته!
أما الحمار عند جورج أورويل الذي كتب في العام 1945م مزرعة الحيوانات ، فإنه لا يضحك أبداً لأن ما من سبب يدعو إلى ذلك . فهو لا يفهم لماذا نصَّب الإنسان نفسه سيداً على كل الحيوانات، في حين أنه الوحيد الذي يستهلك من دون أن ينتج لا بيضاً ولا حليباً.. وفي هذه المزرعة ينشئ الحيوانات جمعية مساواة ، ولكن الخنازير الذين أمسكوا بالسلطة على الجمعية أعلنوا أن بعض الحيوانات متساوية أكثر من غيرها .. وحده الحمار في هذا العمل المتخيل يُظهر شيئاً من الإحساس بالشفقة والعاطفة، عندما يقف ليطرد بذيله الذباب الذي راح يحوم على صديقه الحصان مالابار خلال احتضاره، وبعدما تخلى عنه الجميع.
حمار جحا واقعي.. أما الحكاية..؟
أما الشكل الثالث الذي ظهر الحمار به في الأدب، فهو شكل الحيوان الواقعي، رفيق الفلاح ومطية الفقير.. فإلى جانب دون كيشوت على حصانه هناك خادمه سانشو بانزا على حماره.. ولكن هذا الحمار الذي هو مجرد أداة نقل ومطية، وعاجز كما هو في الواقع عن الكلام والتعبير، لم يكن دوماً بطل قصة واقعية، بل أقرب إلى أن يكون ممثلاً مساعداً في عمل سينمائي. وأشهر الحمير في هذا المجال هو حمار جحا..
في نوادر الشيخ نصر الدين جحا الرومي، يشغل الحمار دور البطولة الثانية من دون منازع إلى جانب البطل الأول جحا. وحمار جحا واقعي، أي انه مجرد حيوان أليف يرافق صاحبه ويشاطره مغامراته كما في أي مجتمع زراعي أو قروي. ولكن هذا الحيوان الذي لا يتكلم ولا يكاد يشعر حتى أنه ينزل إلى مستوى الشيء ، يستخدم ببراعة لإظهار حماقة الإنسان وطباعه المختلفة. ولعل أشهر حكايات جحا مع الحمار هي التي تحمل العنوان: من يسلم من لسان الخلق لله درُّهُ . (راجع نصها كاملاً في الإطار في الصفحة 96).
يشار إلى أن هناك شكوكاً في أن تكون هذه الحكاية أصلاً من نوادر جحا. إذ انها تحظى بشهرة عالمية، وكتبت أكثر من مرة في أكثر من مكان. وكان من الذين كتبوها في القرن السابع عشر لافونتين نفسه.
حمير الحكيم
وفي ختام هذا الفصل، لا بد من التوقف أمام الظهور المميز للحمار في أعمال واحد من أعمدة الأدب العربي في القرن العشرين، ونقصد به توفيق الحكيم. كتب الحكيم كتابين، احتل الحمار مكانه على عنوانيهما. وثاني هذين الكتابين (نترك الأول موقتاً) هو حماري قال لي .
في هذا الكتاب هناك حمار مؤنسن يتحدث مع الحكيم ويحاوره حول كل شيء بدءاً بأحداث الساعة وشخصياتها مثل هتلر وموسولوني ومؤتمر الصلح وصولاً إلى جملة قضايا اجتماعية مثل حقوق المرأة وحزب النساء وما شابه (وقد طُبع هذا الكتاب عام 1945م، أي في عام انتهاء الحرب العالمية الثانية).. والواقع أن المؤلف لم يضف شيئاً جديداً إلى المنهج الأدبي في هذا الكتاب، فالحمار الناطق ذو السلوك الآدمي، هو مجرد ذريعة أو أداة تسمح للمؤلف أن يدلي بما في جعبته تجاه مسائل العصر.
ما يهمنا في هذا الكتاب جاء في مقدمته، حيث يروي الحكيم تاريخ علاقته بالحمير وتعاطفه معها، والدور الذي لعبته في حياته.. ونقتطف منها هذه الفقرات اللافتة والجميلة.
يقول الحكيم: الحمار له في حياتي شأن.. لقد عرفته منذ صغري في صورة جحش جميل اشتراه لي أهلي بثلاثين قرشاً، وجعلوه لنزهتي في الريف وكانت له برذعة صغيرة حمراء لا أنساها.. وكنَّا خير رفيقين لا نفترق إلا للنوم. فقد كان في مثل سني، أي في طور الطفولة من فصيلته، كما كنت أنا في طور الطفولة في جنسي… .
وبعد أن يتحدث عن تركه هذا الحمار لمصيره، بسبب انهماكه في الدراسة، يروي قصة الحمار الثاني، فيقول: ثم بلغتُ مرحلة الشباب، وفرغت من الدرس، واشتغلت بتأليف الروايات التمثيلية. فلم يفتني أن أجعل من الحمار شخصية في رواية لي؛ فظهر على المسرح، ولم أره للأسف. فقد كنت قد غادرت مصر، وذهبت إلى أوروبا. فجاءتني الأخبار بأن الحمار أدَّى واجبه على أكمل وجه، وقام بدوره في الرواية على نحو يستحق الإعجاب.. ولكنه نظر بعد ذلك إلى جمهور المشاهدين نظرة عميقة، ثم فعل فعلة غير لائقة لوثت خشبة المسرح.. وخرج بين سخط الممثلين وهرج النظارة والمتفرجين. وقد بلغني أن ضُرب عندئذ وطُرد وأهين، ولو كنت أنا حاضراً لدافعت عن ذلك المسكين. وأغلب ظني أنه أدرك بغريزته أن الجمهور لم يفهم الرواية، فناب عني في إظهار احتقاره له بالطريقة التي رآها مواتية .
وبعد ذلك يتحدث الحكيم عن الحمار الثالث فيقول: بعد عشرين عاماً، رأيت الجحش مرة أخرى في شوارع القاهرة، واشتريته بثلاثين أو خمسين قرشاً مرة أخرى.. ولكن هيهات.. لقد كان هو في طفولته وأنا في كهولتي.. فلم يكن بيننا غير صمت طويل انتهى بموته . وحول هذا الحمار كتب توفيق الحكيم كتابه الأول حمار الحكيم ، الذي يروي فيه بأسلوب واقعي قصة الرابطة العاطفية التي جمعته إلى هذا الحمار، والحياة التي عاشها هذا الأخير بين القاهرة والريف.
أما في حديثه عن الحمار الرابع، الذي التقاه الحكيم ذات مرة أثناء زيارة قصيرة للريف في أحد الأعياد، فيصوِّر أديبنا القسوة التي يُعامَل بها الحمار في أريافنا، والتي أبقت ذكرى هذا الحمار ماثلة في ذهنه رغم أنه لم يلتق به إلا يوماً واحداً.
فعندما كان في طريقه بصحبة بعض الفلاحين إلى جدول ليصطاد السمك، وأحس بالتعب، شاء الفلاحون أن يساعدوه.. ولم يجدوا لي حيلة غير وضعي على صهوة حمار من حمير التراب كان يعمل في حقل قريب. لم أرَ والله في حياتي أتعس ولا أشقى من ذلك الحمار. كان الدم يقطر من ظهره، لثقل الغبيط وهزال جسمه، وبروز عظمه، ولا أحد يرحم. وكان يتضور من الجوع ويمد بوزه إلى كل عود أخضر يجده في الطريق، فلا يلقى غير اللكم ممن يقودونه، ولا يظفر بغير اللطم.. لقد كان ذلك الحمار ملكاً لبعض المستأجرين الفقراء من الفلاحين الذين لا يملكون للحمير قوتاً، ولا يدَّخرون ما عندهم من العليق إلا للجاموسة والبقرة التي تدر اللبن. أما الحمار فهو في نظرهم لا يساوي أكله. وهو يُذكر عند المهمة العنيفة والعمل الشاق، ولكنه يُنسى عند الأكلة النظيفة؛ فعلى المسكين إذن أن يلتقط ما يصادف في طريقه من عشب مهمل أو ورق زرع متروك، وليتهم مع ذلك يدعونه يفعل.. فهم يدفعونه في ظهره بالعصا كلما تباطأ قليلاً لالتقاط رزقه من الأرض بحجة أنه يتلكأ ويتلاكع ويتكاسل عن عمله المفروض. أما إذا حدثته نفسه اللعينة، فمال برقبته على حقل للذرة، وفقد رشده وخرج عن وعيه، وجر بأسنانه عوداً منها أو كوزاً دانياً، فهي الطامة التي ما بعدها طامة.. فإن الصياح يعلو من كل جانب ويهرع أصحاب الزراعة بالهراوات ينهالون بها على المسكين وهم يتصايحون: حوشوا الحمار نزل غيط الذرة.. .
وبعد أن يروي الحكيم أنه أحسن إلى الحمار وعامله باللين، يقول: ولم تمضِ أيام حتى سمعت أن ذلك الحمار قد نفق جوعاً، وسقط إعياءً وسط الحقل، رازحاً تحت أثقال ما يحمل من تراب.. فألقى الفلاحون بجثته في المصرف، ولم يكلفوا أنفسهم حتى مؤونة دفنه، وضنوا عليه حتى بذلك التراب الذي قضى حياته التعسة كلها في حمله على ظهره .
ويختتم مقدمة كتابه بالقول إن الحمار الذي يحدثه في هذا الكتاب ليس واحداً بالذات من بينها (هذه الحمير الأربعة). إنه جميعها، إنه كلها مجتمعة في واحد.. إنه أي حمار رأيته أو لم أره .
مَن يسلم مِن لسان
الخلق لله درُّهُ
ذهب جحا وابنه، يوماً إلى إحدى القرى وأركب ابنه على الحمار، فصادفه أحدهم فقال: أفٍ من هذا الزمان، انظروا كيف يركب هذا الغلام براحةٍ ويترك والده الشيخ الفاني يمشي على قدميه.
فقال الولد: يا أبي ألم أقل لك اركب أنت فلا تعاندني. فركب الشيخ، ونزل الغلام، فصادفهما جماعة فقالوا: أيليق بهذا الشيخ الذي قويَ جسمه وعرك السنين أن يدع هذا الغلام الغضَّ يمشي وهو يركب؟
فأخذ الشيخ ابنه من يده وأركبه وراءه، وما سار قليلاً حتى صادفهما آخرون، فقالوا: تأملوا يا ناس في إنصاف هذا الرجل كيف يركب ويُردِفُ ابنه على هذا الحمار الضعيف.
فغضب الشيخ ونزل هو وابنه وساقا الحمار يرمحُ أمامهما وهما يمشيان بذلك الحر المحرق، فصادفهما جماعة فقالوا: الله الله من هذين يتركان الحمار يرمحُ، وهما يمشيان في هذا الحر الغبار.
فقال الشيخ: يا هؤلاء مَن يسلم مِن ألسنة الخَلقِ فلله درُّهُ.
مشاعر حمار
على الرغم من أن رواية الحمار الذهبي تعود إلى القرن الثاني الميلادي، فإن أشكال المعاملة الظالمة التي يتعرض لها الحمار على أيدي البشر، وكما هي مصورة في هذه الرواية، تبدو مألوفة جداً عند أبناء جيلنا الحاضر ممن خبروا الحياة في المناطق الريفية والزراعية، حتى يمكن القول إن هذه المعاملة لم تتغير بتغير الأزمان ولا الأماكن، وشكل هذه المعاناة هو واحد وأبدي. يقول المؤلف لوكيوس أبوليوس على لسان الحمار في بعض الصفحات التي نقتطفها على سبيل المثال:
..انتدبت لنقل الحطب من الجبل، وعيِّن رئيساً لي شابٌ شرير من جميع نواحيه، فلم يكفه أن يتعبني الجبل بعلوه ووعورته، ولم يكفه أن تجرح الحجارة المسننة حوافري، وإنما راح يضربني بهراوة دون انقطاع، حتى أن ألم ضرباته كان يخترق جسمي حتى النخاع. وبما أنه كان يلهب بضرباته جانبي الأيمن على الدوام، وينزلها في الموضع نفسه، فقد فتق جلدي وأحدث فيه ثقباً أو قرحة واسعة، ولم يكن يتوقف عن ضرب الجرح الذي كان يقطر دماً. وكان يُحمِّلني عندها حملاً من الحطب، يخيل للمرء أنه رزمة قد أُعدت ليحملها فيل لا ليحملها حمار. وما أن يفقد الحمل توازنه ويميل إلى جانب، حتى يلتقط الحجارة ليضربني بها، بدل أن ينزع من الحمل المنزلق بعض الأعواد ويريحني من ضغطه لأسترد أنفاسي أو يضعها فوق الجهة الأخرى لإحداث التوازن على الأقل..
ولم يرضه هذا الخطب الذي ألمّ بي، وجعلني أحمل ما تجاوز الحد من الحطب، وإنما حين وصلنا إلى مجرى مائي يسيل بمحاذاة الطريق في اتجاه الوادي، كان علينا أن نقطعه، جلس فوق ظهري ليحفظ نعليه من البلل. كان وزناً خفيفاً بالنسبة إلى ما كنت أحمله بطبيعة الحال! وإذا حدث مرة حقاً وعجزت، لأن الطين الموحل يجعل صفحة الماء لزجة، عن مسك الحمل وزلقت، كان في وسع الحمار في هذه الحالة أن يسرع إلى مساعدتي، فيجرني من اللجام أو من ذيلي لأقف، أو يخفف من حملي على الأقل إلى أن أنهض ثانية من كبوتي، فإنه لم يساعدني على ما أنا فيه من عناء، بل كان ينهال عليَّ بهراوة كبيرة ويضربني فوق رأسي، بل فوق أذني بصورة خاصة، إلى أن تنهضني هذه الضربات بدل أن ينهضني التخفيف عني!
لقد فكر الوغد في المكر بي على الوجه التالي أيضاً: كان يأخذ حزمة من الأشواك الحادة، التي تنطوي على السموم، ويربطها بخيط معقود، ويثبتها في ذيلي بوصفها آلة تعذيب معلقة. فإن أنا مشيت، تحركت وترنحت وجرحتني بإبرها القاتلة بشكل مرعب! وهكذا كان عليَّ أن أختار بين شرين: عندما أخب لأتجنب ضرباته الرهيبة، تتأرجح الأشواك وتخزني بشكل أشد. وعندما أتوقف قليلاً لأخفف من ألمي، ترغمني ضرباته على الجري. وكان يبدو أن هذا الوغد الحقير لا يفكر في شيء غير كيف يتم له القضاء عليَّ على هذا النحو أو ذاك. وقد أقسم على ذلك وهددني أكثر من مرة.
قبعة الحمار
يقول الباحثان يونغ دين وألكسندرا دايفيد-نيل في كتابهما حول بلاد ما بين النهرين إن أذني الحمار كانتا رمزاً للمعرفة والحكمة عند شعوب هذه المنطقة قديماً، وذلك أمرٌ بديهي في عصر كان تناقل المعرفة فيه يتم شفهياً. والأذنان الكبيرتان كانتا رمزاً للإصغاء الجيد.
وينطبق الأمر نفسه على شعوب التيبت ومونغوليا وفق ما يرويه غوبرناتيس في كتابه أساطير في علم الحيوان . ولكن يبدو أن للشعوب الغربية وجهة نظر مختلفة في أذني الحمار.
تقول إحدى الأساطير الإغريقية أن ميداس أثار غضب أبولون ذات مرة، بسبب تفضيله للموسيقى التي يعزفها بان على موسيقى أبولون، فقام هذا الأخير بمعاقبته وتحويل أذنيه إلى أذني حمار. ويبدو أن هذه النظرة السلبية هي التي انتصرت في النهاية على النظرة الشرقية. وأصبحت أذنا الحمار رمزاً للغباء وعقاباً للأغبياء.
فحتى بدايات القرن العشرين، ظلَّت الكثير من المدارس الأوروبية، وفي إطار تربية لم يعد هناك من يجرؤ على الدفاع عنها، تحكم على التلميذ الذي يرتكب حماقة معينة، أو يرسب في دراسته، بارتداء قبعة من ورق كتب عليها حمار .. لإثارة سخرية رفاقه منه.
الحمار في الفلسفة
حمار بوريدان
في العام 1977م، ترجم صنع الله إبراهيم رواية كان قد ألَّفها ونشرها الأديب الألماني المعروف غونتر دي برون قبل ذلك بنحو تسع سنوات، وعنوانها حمار بوريدان . ولأن المترجم أو الناشر (دار ابن رشد) ارتأى أن القارئ العربي لن يفقه معنى حمار بوريدان ، جاءت الترجمة العربية بعنوان الحمار فقط. وهذا ما يدفعنا إلى الحديث عن حمار بوريدان لمن لا يعلم.
شهد القرن الرابع عشر الميلادي خلافاً فلسفياً حول سلامة الاختيار الحر عند الحيوان ، أي حول ما إذا كان الحيوان قادراً على المفاضلة ما بين أمرين بشكل سليم. ولحسم الجدال، قام جان بوريدان الذي كان يشغل منصب عميد جامعة السوربون بين العامين 1328 و 1340م بتجربة حضرها ممثلون من الاتجاهين الفلسفيين المختلفين.
قضت تجربة بوريدان منع الطعام والماء عن حمار مدة طويلة، ومن ثم الإتيان به إلى مسرح التجربة ووضعه بين دلوين، أحدهما مليء بالماء والآخر بالشعير. فلم يتردد الحمار لحظة، إذ توجه أولاً إلى الماء ليشرب، ومن ثم إلى الشعير ليأكل، كما يفترض المقتنعون بسلامة الاختيار الحر عند الحيوان. ولكن المعترضين على هذه النظرية رفضوا نتيجة التجربة، واعتبروها محض صدفة، وبقوا على موقفهم الذي انتصر له لاحقاً الملك لويس الحادي عشر، مهدداً الفريق الآخر بالمنع في بيان خاص بهذه القضية صدر في مدينة سانليس في الأول من مارس 1473م.
ما يهمنا من هذا أن الثقافة الشعبية لم تكترث للنقاش الفلسفي ولا لتجربة العميد بوريدان كما حصلت بالفعل، بل زعمت أن الحمار ظل حائراً بين شرب الماء وأكل الشعير حتى قضى جوعاً! وخرج حمار بوريدان بذلك من الفلسفة إلى الثقافة الشعبية رمزاً للتمزق الناجم من عدم القدرة على الاختيار.
تصنيف ديكارت غير الموفق
ولكن ما نراه اليوم على أنه ترف فكري، لم يكن كذلك في العصور الوسطى. إذ لم يكن العلماء والفلاسفة على استعداد لتقبل الفكرة القائلة بأن حيواناً وضيعاً وحقيراً مثل الحمار قادر على اتخاذ القرار السليم بشكل حر. فحتى الفيلسوف الفرنسي ديكارت لم يعترض على هذا المنحى، إذ أنكر في كتابه الشهير خطاب المنهج (1637م) على الحيوانات كل أشكال التفكير، وأنزلها إلى مستوى الساعات الميكانيكية على حد تعبيره. ولكن الحمار الذي يتعرض للتعذيب قد يرفس ويعض من يقترب منه، خشية تكرار التعذيب.. فهل رأى أحدنا ساعة ميكانيكية تعض يد الساعاتي إذا عاملها بخشونة؟
حمار فيكتور هوغو يواجه كنط
في القرن التاسع عشر، حضر الحمار على أقرب مسافة من الفلسفة، إذ أجلسه فيكتور هوغو، صاحب البؤساء و أحدب نوتردام ، في مواجهة الفيلسوف عمانوئيل كنط.
أمضى هوغو مدة طويلة من الزمن في كتابة قصيدته المسماة: الحمار . وفي هذه القصيدة نستمع إلى حمار يدعى باسيانس (أي صبر بالفرنسية) يحاور على مدى خمس وستين صفحة الفيلسوف كنط، الذي كانت مكانته الفكرية في ذروتها آنذاك.
يرسم الحمار في هذه القصيدة، من خلال مرافعته العنيفة والانفعالية، صورة للإنسان الميؤوس منه. ولا يجد عذراً وجيهاً يسوِّغ تصرفات هذا الإنسان. فيقول إن العلم ينحني أمام السياسة. ويتحدث عن إحراق العالمين جيوردانو برونو وكامبانيلا بدلاً من الاستماع إلى استجوابهما، ويشير إلى غاليليو الذي تنكر ليقينه العلمي خوفاً من المصير نفسه. ويرى صبر أن الإنسان الصغير يتحول إلى وحش بعد بضع سنوات من التربية التي تغتال فيه براءته ولا تعلِّمه غير المكر والشر، ويعلن استعداده للتبرع بكل كتبه مقابل شيء من طيبة القلب، إذ انه يفضِّل الإنسان الجاهل والغبي والأعمى على شرط أن يكون طيب القلب . ولا يجد الفيلسوف كنط أية حجة عقلانية يقارع بها مرافعة الحمار الانفعالية، فيعلن في نهاية القصيدة اقتناعه بصواب آراء الحمار، ويعبِّر عن قلقه من صورة الإنسان: عالِمٌ ولكنه خبيث، جبانٌ أمام الكبار، ولكنه من دون رحمة أمام المساكين.. .
وبعد عام على قصيدة الحمار ، كتب هوغو الضفدع ، حيث يروي أن حماراً كان يجر عربة عائداً بها إلى المزرعة بعد نهار شاق تعرَّض فيه للكثير من الضرب، فصادف في طريقه ضفدعاً كان بعض الأولاد القساة قد سمَّروه على الأرض، ويستعدون لقتله بدحرجة عجلة فوقه. ولكن الحمار يستجمع ما بقي لديه من قوة لتغيير مسار العجلة القاتلة، وإنقاذ شقيقه في البؤس من الموت. ويستخلص هوغو أن هذا الحمار هو أنبل من سقراط وأعظم من أفلاطون .
الحمار في الفن
الحضور الكبير في الأعمال المجهولة
انساق إنكار الحمار عند العامة على المثقفين في تطلعهم إلى الفن، ولكن لحسن الحظ، ليس على الفنانين، لا سيما الكبار منهم.
فحتى لو وضعنا جانباً اللوحات والرسوم التي يظهر فيها الحمار عَرَضاً، أو عنصراً ثانوياً في اللوحة، وأخذنا فقط الأعمال التي يشكِّل الحمار موضوعها، لوجدنا أن عددها أكبر من أن يُحصى، والمدهش في الأمر هو مستوى الفنانين الذين أولوا الحمار هذه المكانة.
فمن الصين إلى البلاد العربية ظهر الحمار في عشرات الرسوم التي تزيِّن كتب الحيوان، ولعل أشهرها رسوم التزيين في كتاب كليلة ودمنة . وإن كان حمار كليلة ودمنة يظهر دوماً رمادياً، فإن الرسوم الإسلامية التي أُنجزت في آسيا الوسطى، لطالما أظهرت الحمار الأحمر الذي كان يستوطن تلك المنطقة.
أما في أوروبا، فإن معظم رسَّامي الصف الأول رسموا الحمار إما هدفاً في ذاته، أو في لوحة هو أحد أبطالها. فقد رسم الألماني البريخت دورر في العام 1495م سلسلة من الأعمال الحفرية عنوانها صومعة المجانين وملأها برسوم لحمير شاردة الذهن ومثيرة للسخرية كما هو حال الناس الذين هم من حولها.
وفي العام 1556م، رسم بيتر بروغيل الحمار في المدرسة في لوحة هي بدورها موعظة ، حيث نرى الأولاد يلهون عن معلمهم، ووحده الحمار يتطلع إليه بانتباه.
وفي ذروة العصر الباروكي الإيطالي رسم بنديتو كاستيليوني (1670م) رسمة الحمار الذهبي المستوحاة من رواية أبوليوس. وفي الفترة نفسها تماماً انهمك شارل لوبرون، رسام سقف قاعة المرايا في قصر فرساي، بإنجاز رسوم دراسية مقارنة لكل من وجه الإنسان ووجه الحمار..
أما حكايات لافونتين التي أشرنا إليها، فقد ألهمت الرسام أودري في القرن الثامن عشر، وغرانفيل ورابيه في القرن التالي.
وكان الرسام الإسباني فرنشيسكو دي غويا رائداً في استخدام الحمار في الكاريكاتير السياسي، وطبعاً صورة للغباء والحماقة. فخصَّه باثني عشر رسماً من رسومه المعروفة باسم نزوات . وهذا ما تبناه لاحقاً كل رسَّامي الكاريكاتير الأوروبيين خاصة في مرحلة الثورة الفرنسية وما بعدها.
وفي القرن التاسع عشر، بلغت مكانة الحمار ذروتها في فن اللوحة. أوجين دولاكروا يرسمه في لوحة مائية أشبه بالدراسة. ولكن هونوريه دوميه رسمه في واحدة من أشهر لوحاته على الإطلاق ألا وهي دون كيشوت والبغلة الميتة حيث نرى دون كيشوت على صهوة حصانه، وخادمه على حماره، وأمامهما جيفة بغلة نافقة.
وإلى ما تقدم نضيف غوستاف دوريه، غوستاف مورو، وبيكاسو.. كلهم رسموا الحمار في لوحات زيتية خاصة به. كذلك حال مارك شاغال الذي رسم قصة الحمار حامل الأسفنج والحمار حامل الملح . من دون أن ننسى لوحة سلفادور دالي الشهيرة الدم والعسل التي نرى في إحدى زواياها حماراً متعفناً، يقول الرسام عنه إنه يشبه الوردة.. وهذه اللوحة هي للمناسبة، أول ما أنتجه دالي للمدرسة السوريالية.
بورونالي فضيحة الحداثة
كان الكاتب والناقد الفرنسي رولاند دورجوليس يشعر بسخط كبير على حماس أصدقائه الرسامين وبعض الشعراء من أمثال أبولينير، للفن التكعيبي عند بدايات ظهوره. وكان يقول: من السهل لفت الأنظار. يكفي أن يسير المرء على كفيه ورأسه إلى الأسفل. ولو شئت لأصبحت غداً رساماً .
ولإثبات رأيه، وكان ذلك في العام 1910م، استعار رولاند حماراً من صديقه فريدي، وبحضور كاتب عدل، غمس عدداً من فراشي الرسم في ألوان زيتية مختلفة، وربطها إلى ذيل الحمار، بعدما وضع تحت الذيل لوحة بيضاء. وأثار الكاتب الحمار من خلال إطعامه الجزر ولفافات تبغ، ليدفعه إلى تحريك ذيله الذي كان يلطِّخ اللوحة بالألوان المختلفة.
سمى دورجوليس هذه اللوحة وتغيب الشمس تحت بحر الأدرياتيك ! وفي اليوم التالي، نشر ناقد صحافي متواطئ معه مقالاً في جريدة لوماتان يمتدح فيه هذه اللوحة ورسامها الإيطالي الشاب المغمور بورونالي الذي أسس مؤخراً مدرسة حديثة تدعى الطفحية !!
قبِلَ معرض المستقلين الشهير اشتراك هذه اللوحة. وتدافع أمامها النقَّاد، وزحفت باريس الثقافية بأسرها لرؤيتها. وانهالت التعليقات الجدية: مزاج لوني لا يزال مضطرباً.. أستاذية مبكرة.. شخصية طاغية.. . وقبل إقفال المعرض، نشر دورجوليس، بتصديق من كاتب العدل، القصة الحقيقية للوحة، ليصفع بها كل مدَّعي الفهم من النقَّاد و الذواقة المتبجحين.
ولم ينتبه أحد من كل هؤلاء الذين حاولوا استقصاء حقيقة الفنان الإيطالي الشاب بورونالي إلى أن هذا الاسم مؤلف من نصفي اسم أليبورون بعد عكسهما. وأليبورون هو اسم معروف منذ القرن الخامس عشر لحمار في غاية الغباء. فالشاعر رابليه سمى أحد المحامين أستاذ أليبورون ، ثم أعاد لافوتين أعاد استخدام هذا الاسم في القرن السابع عشر في حكاية اللصوص والحمار .
العلم الذي أنصف الحمار
إذا لم يكن الجاحظ صاحب أول دراسة علمية عن الحمار، فما من شك في أن كتابه الحيوان ، يمثل أول وأوسع دراسة وصلت إلينا كاملة، وتناولت الحمار بهذا الشكل الشامل والمفصل -في حدود المعرفة كما كانت في القرن الثالث الهجري- إذ جمع الجاحظ في أكثر من 65 موضعاً في هذا الكتاب كل ما كان معروفاً عن الحمار حتى آنذاك.
وبعد الجاحظ، دخل الحمار طي النسيان العلمي نحو عشرة قرون، حتى ظهور عالم الطبيعيات دي بوفون في القرن الثامن عشر الميلادي، الذي أكد استقلال نوع الحمار عن الخيل، وانتماء الاثنين إلى أصل واحد مشترك. وهذا ما أكدته الأبحاث الجينية التي تطورت بشكل كبير في العقود الأخيرة من القرن العشرين. فمن المعروف منذ القدم عن الحمار أنه حيوان ثديي، يبلغ ارتفاعه عند الكتف نحو 1.2 متر. وتختلف ألوان شعره ما بين الأبيض والرمادي والأسود مع وجود بعض خطوط السمرة على الظهر. إذ أنتجت عمليات التهجين سلالات مختلفة من الحمير في اللون والطول والحجم وطول الشعر.
ويستطيع الحمار الإنجاب عندما يبلغ الأربع سنوات، أما الأتان فثلاث سنوات. ويراوح حمل الإناث ما بين 11 و 14 شهراً (حسب السلالة)، لتلد بعدها جحشاً يزن 14 كيلوغراماً، أي أربع مرات وزن الطفل البشري. ويقف الجحش على قوائمه الأربع بعد ساعة واحدة من ولادته. ويحفظ الجحش رائحة أمه عند الولادة، لا ينساها مدى عمره. وعلى الرغم من أنه يستمر في الاعتماد على حليب أمه للتغذية، فإنه في يومه الثالث يبدأ بقضم بعض الأعشاب الطرية.
ويمكن للحمار أن يتزاوج مع أنثى الحصان (الفرس) لتنجب بغلاً. أما إذا تزاوجت الأتان مع الحصان، فإنها تنجب نغلاً. ولما كانت البغال تتمتع بمواصفات جسمانية أفضل من النغال، فإن إنتاجهم يتم بأعداد أكبر بكثير. وغالباً ما تجمع البغال إلى الحمير عندما يدور الحديث عن الحمار بشكل عام. ولا تستطيع البغال الإنجاب بسبب خلل في عدد كروموزوماتها. ولكن تزاوج بغلة من حصان أو حمار يمكن في بعض الحالات النادرة أن يولد حصاناً أو حماراً حسب نوع الأب. ولكن إلى هذه المعلومات المعروفة منذ القِدَم، أضاف علم سلالات الحيوان (Ethnozoology)، الذي تلقَّى دفعاً كبيراً خلال العقود الأخيرة، الكثير من المعلومات الجديدة المتعلقة بجسم الحمار ونفسيته أيضاً.
فقد أكدت الدراسات أن الحمار يستطيع أن يحمل على ظهره بسهولة ما يتراوح بين 20 و ٪30 من وزن جسمه. أما قدرته على الجر فهي أكثر من ذلك. كما يستطيع أن يتحمل خسارة الماء من جسمه حتى ما يعادل ٪30 من وزنه، وهذا ما يجعله ملائماً للعيش والعمل في المناطق الجافة والصحراوية. ويستطيع أن يشرب ماءً يعادل ٪20 من وزنه خلال خمس دقائق من دون أن يصاب بالغرق الداخلي. وفي حال فقدانه حتى ٪10 من ماء جسمه، فإن الحمار الجائع يأكل أولاً ومن ثم يشرب. أما إذا تجاوزت خسارته للماء ٪17 من وزنه، فإنه يشرب أولاً ثم يأكل.
أما جهازه الهضمي فيسمح له باستخلاص المواد الغذائية من أفقر أنواع النباتات، ولذا فهو يستطيع أن يتدبر أمره في الطبيعة إذا حُرِم من الكيلوغرامين من الشعير اللذين يحتاج إليهما كل يوم.
وبالمقارنة مع الخيل، يمكن لنهيق الحمار أن يصل إلى مسافة كيلومترات عديدة، أي أبعد من صهيل الخيول. كما أن حاسة السمع عنده أقوى، يساعده في ذلك طول أذنيه وقابليتهما للحركة والاستدارة. كما أن جبهته الأعرض من جبهة الحصان، تسمح له برؤية أوسع. فزاوية الرؤية عنده بعينين تصل إلى 70 درجة، أما الرؤية بعين واحدة فتصل إلى 145 درجة. ولذا يستطيع أن يرفس بدقة شخصاً يزعجه على بعد متر واحد إلى جانب مؤخرته.
أما من الناحية النفسية، فيمكن اختصار ما توصل إليه العلم بالقول إن مالكي الحمير باتوا يتحدثون منذ ثلاثة عقود أو أربعة عن تربية الحمار، بدلاً من ترويضه أو تدريبه .. إذ ثبت أن للحمار ذاكرة مدهشة في قوتها. فهو يذكر طوال عمره المعاملة الجيدة أو السيئة. وقادر على أن يتجاوب مع كل ما يُطلب منه باللين.
وفي حين يرى البعض أن افتقار ظهره لليونة يجعله مطية أقل طواعية من الحصان، والأمر يعود إلى نقص فقرة واحدة في عموده الفقري عمَّا هو في الحصان، فإن الحمار حذر أكثر من الحصان في حال وقوعه في مأزق، كانزلاقه في الوحول أو محاصرته بأشياء خطرة كالأشواك. إذ يجمد الحمار في مكانه بانتظار المساعدة، أما الحصان فقد يتخبط للتخلص من المشكلة، بطريقة تشكِّل خطراً عليه وعلى راكبه.
وعلى الرغم من أن الحمار المستأنس يبدو بطيئاً نسبياً في حركته، فإن الحمير التي أعيد إطلاقها في البراري، اكتسبت بسرعة كل مستلزمات الحياة البرية، ومهارات الركض بسرعة الحمير الوحشية والخيول.