الملف

الجار

page 89يقف الجار في منتصف الطريق ما بين البيت والمجتمع الواسع..
إنه ليس فرداً من العائلة، ولكنه ليس كأي عابر سبيل. إنه في مرتبة وسطى ما بين الاثنين. ولأنه هناك.. دائماً على مقربة منا.. يمكن لجيرته أن تكون نعمة كما يمكنها أن تكون نقمة.
قد يصل التفاعل معه إلى حدود الصداقة، وقد يبقى شكلياً يقتصر على التحية، كما يمكنه أن ينعدم تماماً، أو يتحول إلى مصدر للمتاعب.
«الجار قبل الدار» كانوا يقولون. فهل ما زال الأمر كذلك؟
في هذا الملف، وبمشاركة محدودة من فريق التحرير، يطل عمر شبانة على الجيرة والجار ومكانتهما التاريخية وما طرأ عليها من تغيرات في العصر الحديث.

حين نسمع عبارة «الجار قبل الدار»، فنحن غالباً لا نتوقف لنتأمّل عمقَها، ونمرّ عليها كما لو كانت شعاراً أو مادة إعلانيّة، فيما هي محمّلة بشحنة عالية من المعاني والدلالات المهمّة جداً، سواء على مستوى المفهوم أو المستوى المعيشي والحياتي والواقعي الاجتماعي. فعلى صعيد المفهوم، تنتمي العبارة إلى عالم من العلاقات هي من الدرجة الثانية بعد علاقة الدم والقرابة. لكنّها على المستوى الحياتيّ الواقعيّ، قد تتجاوز هذا المعنى ودلالاته، لتغدو علاقة من الدرجة الأولى بين الجيران، أي إنّها تتقدّم على قرابة الدمّ.

فكيف نرى هذه العبارة الآن؟ أما تزال سارية المفعول حتى وقتنا الراهن، أم أنها باتت بلا قيمة في ظل ما نشهده من «تحوّلات» في العلاقات بين البشر عموماً، وبين الجار وجاره على نحو خاصّ؟

page 90من لم يفكّر عميقاً بكون «الجار قبل الدار»، ولم يعرف كيف يسير على هدي هذا القول، فسوف يكون معرّضاً إلى ما يمكن اعتباره «جحيم الجيرة»، يحدث هذا حتى في زمن ضعف العلاقة بين الجار والجار، وربما يكون هذا الضعف سبباً لمفاقمة الجحيم وزيادة تأثيره وآثاره الجانبية. فصحيح أن العلاقات باتت أضعف مما كانت عليه سابقاً، إذ تغيرت حياة الناس تغيراً جذرياً في بعض جوانبها، لكنّ تأثيرات الجيرة لا تزال قائمة، ولربما ازدادت سوءاً مع التحولات التي طرأت على الحياة في العصر الحديث، خاصة في شقها المدني، الذي شهد ويشهد زحفاً من الأرياف إلى المدن، وحضوراً ضخماً لشرائح وافدة من بيئات مختلفة ثقافياً كل الاختلاف عن الطابع التقليدي للثقافة الاجتماعية التي كانت سائدة في المدن حتى قبل قرن أو نصف قرن مضى.

page 91 aوهنا لا بأس في سرد ما يرويه أحدهم معبِّراً باختصار عن ثمن عدم الاكتراث للجار قبل الدار، إذ يقول إنه اقتنى شقة في بناية من شقق عدة، دون أن يسأل أو يستقصي عن جيرانها، ولا عن شركائه في العمارة نفسها، ليكتشف لاحقاً أن هذه الجيرة مؤلفة من عناصر شديدة الإزعاج، واحد منها مشفى، لم يقدَّر مدى ما يمكن أن يسببه من قلق وتوتر، بدءاً بساعات الصباح الأولى، حيث ضجيج أسطوانات الغاز والأوكسجين، حتى نهاية الليل حيث صراخ المرضى، وما بين الصباح والليل أبواق سيارات الإسعاف وحالات الطوارئ.

ولكن ماذا عن الجار الأقرب، الذي يسكن في عمارتنا أو في هذا البيت الذي يكاد أن يكون ملاصقاً لبيتنا؟

من التعارف إلى الحسنات والسيئات
السينما الأمريكية نقلت إلينا مرات ومرات صورة الجيران الذين يحملون قالب حلوى إلى جيرانهم الجدد للترحيب بهم. ولا نعرف إن كانت هذه الصورة موجودة إلى الآن أم لا، ما نعرفه أن في مدننا العربية لا أحد يحمل قالب حلوى للتعرف إلى جاره، فالتعارف متروك للصدف، للقاءات غير المتوقعة وغير المنتظمة إما في مصعد العمارة أو عند مدخلها، وإما خلال ظرف طارئ يؤدي الى تعارف الجارين.

الجار والجيرة لغوياً
تنتسب المفردة «جار» إلى الفعل الثلاثيّ الماضي «جرى»، والرباعيّ الحاضر «يجري»، وعليه فهي اسم فاعل من هذا الفعل، والجاري (الجار) هو الذي يجري، ولكي نعرض له بقدر من البساطة، نسأل: ما شأن هذا الاسم (الجار) بالجري/ الركض؟ نجد في «معجم المعاني الجامع»: الجمع: جِيرةٌ، وجِيرانٌ، وأَجْوارٌ اسم فاعل من جرَى / جرَى إلى / جرَى لـ / نهرٌ جارٍ: أي إنه سائل لا يجفّ، والشَّهرُ الجاري: هو الشهر الحالي أو الحاضر. أَجارَ، يُجير، أجِرْ، إجارةً، فهو مُجيرٌ، والمفعول مُجارٌ، وأجاره اللهُ من العذاب: حمَاه منه وأنقذه، وجعله في جواره وحمايته. وأَجَارَ الغرِيقَ : أغاثَهُ. والجارُ هو المُجاور في المسكن، الجارُ المستجير، والجارُ: المُجارُ، والجارُ: هو الزَّوج، الجارُ: الزوجة. والجارُ: هو الحليف، والناصر.

ويمكن للقاءات الأولى ما بين جارين أن تكون حاسمة على صعيد تحديد طبيعة العلاقة التي ستقوم بينهما وستستمر طويلاً. فمن لا يعرف جاره الجديد، لا يملك غير انطباعاته الأولى عنه التي يشكلها من خلال مجموعة ملاحظات صغيرة خلال مراقبته العفوية أو المتعمدة لهذا الجار. ومن هذه الانطباعات، يمكن للجيرة بين الاثنين أن تقف عند حدود تبادل التحية عندما لا يكون هناك مفرّ منها، وإما تتطور وصولاً الى شكل من الصداقة المتينة. ولكن أياً كان شكل هذه العلاقة، فالجار، حسناً كان أم سيئاً، سيبقى في الجوار بحسناته ومتاعبه. وفيما يمكن للجيرة الحسنة أن تصل الى حد ائتمان الجار على البيت والأطفال، تنحصر متاعب الجيرة السيئة في معظم الأحيان، بالانزعاج من ضوضاء الجار الآخر، أو استهتاره بالفضاء المشترك ما بين الجيران الذي قد يتراوح ما بين المزاحمة على موقف السيارة أمام المبنى وإهمال النظافة.. ولا شيء يمنع وصول متاعب الجيرة إلى حد يتطلب استدعاء الشرطة لفضها.

page 91 bولكن الملاحظ أينما كان في العالم، هو أننا عندما نكون على علاقة حسنة بجيراننا، فإننا نتحمل الضوضاء الصادرة عن بيوتهم بشكل أفضل، كما نتحمل اعتداءات أولادهم على بيوتنا وحدائقنا، ونجد لهم الأعذار المخففة.. أما الجيرة السيئة فتبقي المزاج سريع الاشتعال..

في المفهوم والمراتب
اختلفت الآراء، وتباينت المذاهب في تحديد مفهوم الجار والجيرة، كما في تحديد مراتبه وطبيعة العلاقة به، هذا المفهوم وهذه المراتب التي تختلف من مكان لآخر، ومن ثقافة إلى أخرى، كيف يمكننا الاتفاق على محدّدات لها، وهي التي تبدو أوسع من التحديدات كلّها؟ نحاول هنا تقديم بعض المحددات في الثقافة العربية الإسلامية، كما وردت في القرآن الكريم والأحاديث النبويّة وبعض المأثورات من قصص وحكايات ذات مغزى ودلالات محددة.

في ثقافتنا وموروثنا، أن الجار هو مَن جاورك، سواءٌ أكان مسلماً أم غير مسلم، وأما حد الجوار فقد تعددت أقوال أهل العلم في بيانه، ولعل الأقرب أن ما تعارف عليه الناس أنه يدخل في حدود الجوار فهو الجار. والجيران يتفاوتون من حيث مراتبهم، فهناك الجار المسلم ذو الرحم، وهناك الجار المسلم، والجار غير المسلم ذو الرحم، والجار غير المسلم الذي ليس برحم، وهؤلاء جميعاً يشتركون في كثير من الحقوق ويختص بعضهم بمزيد منها بحسب حاله ورتبته.

2-editوفي حين يظن بعض الناس أن الجار هو فقط من جاوره في السكن، ولا شكّ في أن هذه الصورة هي واحدة من أبرز صور الجوار، وقد تكون أعظمها وقد لا تكون، لكن من المؤكد أن هناك صوراً أخرى تدخل في مفهوم الجوار، فهناك الجار في العمل، والسوق، والمزرعة، ومقعد الدراسة… وغير ذلك من صور الجوار التي تتطلب حُسنَ المعاملة. وممّا يطبع هذه العلاقة، أنه ليس حُسْنُ الجوار مجرّد كفّ الأذى عن الجار، بل إن حُسن الجوار هو الصبر على الأذى.

الجيرة في الفنون والأدب.. والغناء
في الفن والأدب
بسبب قدرة الجيرة على جمع شخصيات من طباع واهتمامات مختلفة، كان من الطبيعي أن تقدِّم نفسها بيئة صالحة لحبك القصص الاجتماعية، والفكاهية والبوليسية، وحتى قصص الرعب.
zoqaqويمكن لمتصفح الإنترنت أن يعثر على قائمة طويلة جداً بعناوين الروايات والأفلام السينمائية التي تدخل مفردة «الجيرة» أو «الجار» في عناوينها. ويتضاعف طول اللائحة عندما يبحث المتصفح عن الأفلام والروايات التي تدور بشكل أو بآخر حول الجيرة تحت عنوان مختلف. وبالتالي، وبدلاً من تقديم جرد طويل بهذه العناوين، ارتأينا التوقف بشيء من التفصيل أمام حفنة معدودة منها.
«زقاق المدق»، هو عنوان واحدة من أشهر روايات نجيب محفوظ، نقلها إلى السينما المخرج حسن الإمام، واستبدل عنوان الرواية باسم بطلتها «حميدة» ليكون اسم الفِلم. فقد رسم نجيب محفوظ في روايته هذه صورة لزقاق شعبي يتجمع فيه عدد من الشخصيات المتناقضة، ويشكِّل مجموعها صورة بانورامية اجتماعية وسياسية وعاطفية ونفسية لقاهرة الأربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من أن الفِلم المقتبس عنها zokakelmadaq1963dvdripيبقى من الأفلام الجديرة بالمشاهدة لما فيه من فكر وإنسانية ونقد اجتماعي، تناول البعض هذا الفِلم بالنقد، ومن هؤلاء الناقد بدر الدين حسن علي الذي رأى أن اختيار المخرج اسم البطلة «حميدة» عنواناً للفِلم كان أول أخطائه، لأنه يسلط الضوء على شخصية واحدة (وإن كانت رئيسة) من بين مجموعة شخصيات متضاربة الأهواء والسلوكيات تجمعها الجيرة في هذا الزقاق.
ويذكرنا تنوّع الشخصيات في زقاق المدق، بتنوع الشخصيات في حي بغدادي أثناء الاحتلال البريطاني للعراق في أربعينيات القرن العشرين أيضاً، كما يتجلَّى في رواية الأديب العراقي غائب طعمة فرمان، التي تحمل عنوان «النخلة والجيران»، التي اختيرت من بين أفضل مائة رواية عربية في القرن الفائت، وجرى تقديمها على المسرح العراقي، وعلى شاشات السينما، وأعيد طبعها مرات عدة، لقدرتها على تجسيد حياة فئات واسعة من الشعب العراقي في بقعة جغرافية صغيرة جداً، وفي فترة تاريخية يمكن اعتبارها أنموذجاً شديد القدرة على تمثيل تلك الحياة.
وفي عام 2006م، عرضت التلفزيونات العربية الجزء الأول من مسلسل «باب الحارة» الذي لقي نجاحاً مدوياً عند المشاهدين من الخليج العربي إلى المغرب. الأمر الذي Screen shot 2015-08-03 at 12.58.11 AMدفع بمنتجيه إلى إنتاج ستة أجزاء أخرى، عُرض آخرها خلال شهر رمضان من العام الجاري، وبدأت الاستعدادات في الوقت نفسه لإنتاج جزء ثامن.
المسلسل الذي تناوب على كتابته مروان قاووق وكمال مرة وعثمان جحا وسليمان عبدالعزيز، وانطلق في حلقته الأولى من عقدة شبه بوليسية تتمثل في سرقة ذهب أحد سكان الحارة على يد شخص سيئ الطباع والأخلاق، يدين بحيز كبير من شهرته، للمناخ الاجتماعي الذي يصوره، وبأمانة لما كانت عليه الحارة الشامية في النصف الأول من القرن العشرين، ولعامل الإثارة والتشويق الذي يغذيه هذا التنوع في شخصيات الجيران ضمن بيئة شبه مغلقة تسمَّى حارة الضبع.

وفي الغناء..
وكما هو حال الأفلام السينمائية والروايات، يمكننا أن نجد عدداً كبيراً جداً من الأغنيات التي تدور حول الجار والجيرة. ولكن، مقابل التنوع في المواضيع في السينما والرواية، تكاد الأغنيات عن الجيرة تقتصر على الطابع الرومنسي، سواء أكانت أغنية فيروز «كيف حالك يا جار؟»، أو أغنيتها الأخرى «نحن والقمر جيران»، أو أغنية صباح «جاري أنا جاري والباب جنب الباب»، أو أغنية أحمد عدوية «يا أهل الله يللي فوق مَ تبصوا ع اللي تحت»، وهذه الأخيرة يمكن قراءتها على المستوى الواقعي الرومنسي، كما على المستوى الرمزي حيث الفقير (تحت) يطلب من الغني (فوق) نظرة شفقة وإحسان.

وعندما زار أحمد شوقي مدينة زحلة في عشرينيات القرن الماضي، وشاء أن ينظم فيها قصيدة مدح، اختار تسمية المدينة من جيرتها الجغرافية قرب وادي العرائش، فناداها «يا جارة الوادي»، ولحَّن عبدالوهاب هذه القصيدة الشهيرة وغنَّاها، كما غنتها بعده نور الهدى وفيروز.
74870-1Abdel_wahabNoor AlHuda

 

 

الجيرة في أقوال مأثورة
• «المروءات أربع: العفاف وإصلاح الحال وحفظ الإخوان وإعانة الجيران» – معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه
• «ومن يقض حق الجار بعد ابن عمه
وصاحب الأدنى على القرب والبعد
يعش سيداً يستعذب الناس ذكره
وإن نابه حق أتوه على قصد»
51242736(1) L'Image_et_le_Pouvoir_-_Buste_cuirassé_de_Marc_Aurèle_agé_-_3 BenFranklinDuplessis

 

 

– الإمام الشافعي
• «الثقافة التي تخاف على نفسها من هجمة قط الجيران هي ثقافة فئران» – نزار قباني
• «يلومونني إن بعت بالرخص منزلي
ولم يعلموا جاراً هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملام فإنما
بجيرانها تحلو الديار وترخص»
800px-Jane_Austen,_from_A_Memoir_of_Jane_Austen_(1870) farahat 800px-Konfuzius-1770 

 

 

– إلياس فرحات
• «كن في حرب مع عيوبك، وفي سلام مع جيرانك..» – بنيامين فرانكلين
• «افعل لنفسك كما يفعل جيرانك لأنفسهم وأظهر سرورك» – جورج إيد
• «كل شخص محاط بجيرة من الجواسيس الطوعيين» – جين أوستن
• «أحب جارك لكن لا تحن له رأسك» – جورج هيربرت
• «الفضيلة لم تترك لتكون وحدها، فمن يمارسها سيكون له جيران» – كونفوشيوس
• «يبدأ الإحسان في البيت، وتبدأ العدالة عند الجار» – تشارلز ديكنز
• «الركود الاقتصادي هو عندما يفقد جارك وظيفته، أما الكساد فهو عندما تفقد وظيفتك» – الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان
• «كم من الوقت يحفظ من الضياع من لا يتطلع إلى معرفة ما يقوله جاره أو يفعله أو يفكر فيه؟!» – ماركوس أوريليوس
• «أحب جارك، ولكن لا تهدم الجدار الفاصل بينكما» – حكمة نرويجية
• «من يرمي الشوك عند جاره، يراه ينبت في حديقته» – حكمة روسية

العرب قبل الإسلام.. إلى الشعر
bateau-lavoir-1905-bitكانت تلك مقدمات فيما يتعلق بصور وأشكال «الجيرة»، على مستوى دوامها واستمراريّتها أو كونها عابرة بلا أي أثر، وهي صور من علاقات «الجيرة» الحديثة والمعاصرة، وترتبط بمعطيات العصر ومستجدّاته. أما فيما يتعلق بالعلاقة عبر التاريخ، وفي الوسائط الثقافية المختلفة، فسوف نجد أنفسنا أمام عوالم أخرى بعيدة عن عالمنا كل البعد، من حيث اللغة والمناخات والعناصر التي تتكون منها. لذا سنقسمها إلى أقسام عدة، بحسب المراحل الزمنية حيناً، وبحسب الوعاء الثقافي الذي يستحضرها أو يحتضنها.

وفي هذا المسعى، نفتح الباب على الشعر ابتداءً، ونبدأ من الشعر الجاهلي، حيث للجيرة حضورها في صور وأشكال عدة، وربما كان من أبرزها ما يتعلّق بالجارة المرأة، وهنا نجد أنفسنا حيال قيمة من القيم الحاملة لأخلاقيات الرجولة والنبل والفروسية، وليس أبلغ ولا أشهر، في هذا السياق مما قاله عنترةُ بن شدّاد:
وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي «جارَتي»
حتى يُواري «جارتي» مأْواها

Ahmad_shawqyوبصرف النظر عن المستوى البلاغي وفنّية الصورة المتواضعين، ها نحن إذاً حيال علاقة تحترم حقّ الجارة والجيرة، وتمنح الجارة حرية الحركة في مملكتها السعيدة، في حين يتلصص البعض على جارته مع سبق الإصرار والترصّد، فأيّ فارق بين العالمين، من يحترم «حرمة» الجيرة ومن ينتهكها، وأيّة أخلاق تسمح بهذا، وهل يمكن أن تتعايش هذه الأخلاق مع مفهوم الجيرة والعلاقة الطيبة التي يفترض أن تقوم بين الإنسان وجيرانه؟!

وفي صدد العلاقة مع نسوة الجيران، كان عروة بن الورد يتغافل حتّى تلج جارته بيتها:
وإن جارتي ألوتْ رياحٌ بيتها
تغافَلْتُ حتّى يسترَ البيتُ جانبه

ويشتمل الأدب العربي، شعراً وقصصاً وحكايات، علىى أمثلة في حسن الجوار والأخوة في الإنسانية، لا نستوعبها لكثرتها، وأحياناً لكون قائلها مجهولاً لدينا، وهي علاقة أساسها الإيمان وحُب الخير والتعاون على البر بين الناس.

page 100وكان العرب يضربون المثل بجار يبدو وكأنه في عالم الخيال، جار كان إذا مات لجاره بعير أو شاة «أخلَفَه» (أي عوّضه عنه)، وإذا مات له قريب «وَداه» (دفع ديَته). ويُروى عن بعض رجالات العرب المعروف بأبي دلف، أنّه كان له جار في بغداد، أدركته حاجة، وركبه دين مُبهظ، حتى احتاج إلى بيع داره، فساوموه فيها فسمَّى ألف دينار، فقالوا له: إن دارك تساوي خمسمائة دينار فقط، فقال: أبيع داري بخمسمائة، وجوار أبي دلف بخمسمائة، فبلغ أبا دلف الخبرُ، فأمر بقضاء دينه، ووصله، وقال: لا تنتقل أبداً من جوارنا. وبهذا السلوك غير المألوف، نستطيع أن ندرك ما يمكن أن يؤدّيه بِرُّ الجيران من رفاهية الأسرة وسعادتها، وما يمكن أن يعقبهُ التطاول عليهم والظلم لهم من فتن ومحن لا تطيب معها الحياة.

جماعات «حراسة الجيرة»
neighborhood-watch-symbol
وفي مقابل هذه الصورة والانطباعات السالبة التي تُشيعها، ثمة صور تشيع التفاؤل بعلاقات إنسانية متقدّمة، تقوم على تعاون الأهالي في منطقة ما لإنجاز مهمّات خارج قدرات المؤسسات الرسمية والأفراد، كما هو الحال، في أمريكا، مع مجاميع بشرية هائلة تقوم وتعمل على مبدأ «اخدم نفسك»، إذ يُفاجأ الباحث أن حوالي 15 مليون مواطن أمريكي ينتمون إلى 500 ألف جماعة من جماعات «الخدمة الذاتية». وهي جماعات تضم الذين تواجههم مشكلة بعينها، أو يعانون وضعاً معيّناً، فتراهم وقد تجمّعوا تلقائياً، وقرّروا أن يتعاونوا على حلّ هذه المشكلة، بالنسبة لكلّ منهم، مستفيدين من تبادل الخبرات في مجالها. وهناك جمعيّات خدمة ذاتيّة لكل غرض يمكن أن تتصوّره، لحل مشكلات: الإحالة إلى المعاش، الترمّل، المعاناة من السُّمنة، إدمان الكحول أو المخدّرات، الإعاقة الجسديّة والعقليّة، الطلاق، إساءة معاملة الصغار.. غير أن أشهرها «حراسة الجيرة».

shutterstock_253500730ظهرت «حراسة الجيرة» في أمريكا في أواخر الستينيات كردة فعل على جريمة قتل ذهبت ضحيتها امرأة تُدعى كيتي جينوفيز في منطقة كوينز بمدينة نيويورك. فقد ثار الرأي العام عندما أفادت التقارير أن عشرات الشهود كانوا في موقع الجريمة، ولم يتحرك أحدهم لإنقاذ المرأة ولا للإمساك بالقاتل. فبدأ بعض السكان في أحياء معينة من المدينة بتشكيل فرق لحراسة أحيائهم ليلاً. ومنذ العام 1972م، بدأت جهود منظمة لتعزيز الحراسات الذاتية على مستوى البلاد بأسرها.

وتهدف «حراسة الجيرة» إلى توعية سكان الحي حول تدابير السلامة، وتحقيق الأمن الاجتماعي فيه. وفي حالة الشك بوجود نشاط جرمي في الحي، فإن «حراسة الجيرة» ليست مطالبة بالتدخل، بل بإبلاغ الشرطة فقط.

في شهر فبراير عام 2012م، تعرضت «حراسة الجيرة» في أمريكا، للشك في سلامة مفهومها، عندما قام أحد حراس الجيرة، وهو رجل أبيض، يدعى جورج زيمرمان بقتل شاب أسود بناءً على الاشتباه به فقط. وأدى إطلاق سراح القاتل وتبرئته حتى من جريمة قتل من الدرجة الثانية إلى اندلاع موجة اضطرابات عنصرية في أرجاء عديدة من البلاد، وبدء التفكير في سنّ ضوابط قانونية تحدد عمل «حراسات الجيرة» ومواصفات المنتسبين إليها، ووجوب عملها وفق تراخيص.

وفي شهر يونيو من العام نفسه، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» أن حراسات الجيرة عادت تنشط بقوة في مدينة نيويورك، بعدما كان هذا الدور قد تراجع خلال العقدين الماضيين بسبب تدني معدلات الجرائم.

pic.226_1روابط اجتماعية بديلة
أمّا تعليل هذا الفهم للعلاقة، وهذه السلوكيّات، فيذهب فيه الباحثون إلى البيئة الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها «أهل الجاهلية» حياتهم وعلاقاتهم، بل إن بعضهم يرى أن «الجانب الإنسانيّ يبرز في نفس العربيّ بشكل خاصّ في علاقاته مع جيرانه والمستجيرين به، ولعلّنا لا نجانب الصّواب إذا قُلْنا: لم تعرف أُمّة من الأُمم – دونما استثناء – حُرمةً، كالحرمة التي عرفها العرب للجيرة. ويخيّل إليّ أنْ ليس في أدب أُمّة من الأمم ما يرفع الجيرةَ إلى مصافّ المآثر العظام مثلما رفعها الأدب العربيّ. وليس غريباً أن يكون هذا النظام – الجوار – أوّل ما نشأ في سبيل حماية الضّعيف من بطش القويّ، وإنصاف المظلوم من الظّالم، فاستطاع هذا النّظام أن يَحدّ من شهوة البطش، وغريزة الانتقام».

في ظلال الإسلام
بالانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، سوف نشهد ما يشبه «ثورة» في هذه العلاقة، إذ كان نظام الجوار من النّظم التي أقرّها الإسلام، وحثّ المسلمين على المحافظة على الجار في كثير من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} (سورة النساء – آية 36).

ويحثّ الرّسول – صلى الله عليه وسلم – المسلمين على الجار، فيقول «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتّى ظننتُ أَنّه سيورّثه». ويقول «واللهِ لا يؤمن، واللهِ لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه».

ومن المأثور ما دار من حديث بين الملك هرَقل وبين أبي سفيان، حين سأل الأول الثاني عن النبيّ الجديد «بمَ يأمركم؟»، فقال أبو سفيان: «يأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء…».

تحوّلات الجيرة في العصر الحديث
pic.224شغلت علاقة «الجيرة»، أي علاقة الجار بالجار، حيّزاً واسعاً في جدل التحوّلات التي طرأت على الحياة المعاصرة. حيث اكتسبنا كثيراً من العادات والقيم والسّلوكيات، على حساب عادات هُزمتْ أمام المشروع المعاصر للحياة الجديدة. ولمّا كانت «الجيرة» مجموعة من العلاقات المتشابكة في علاقة واحدة مركّبة، فربما كانت علاقات «الجيرة» هذه هي الأشد تأثّراً بما جرى من تحوّلات.

فإضافة إلى ما تشهده مدننا الحديثة من ازدياد تلون الشرائح الاجتماعية بثقافاتها المختلفة، ومجاورتها لبعضها بعضاً، جاءت تقنيات التواصل الاجتماعي لتصب الزيت على النار، ولتؤسس لأشكال جديدة من العلاقات على شبكة الإنترنت قد تكون أقوى من تلك التي يتمتع بها مع أقرب الناس إليه في البيت أو في البناية أو في الشارع في (الحارة)، وعلى الرغم من أن عبارة «صباح الخير يا جاري، أنت في حالك وأنا في حالي»، هي عبارة تُردّدها الأمثال الشعبية على مرِّ العصور، وهي ذات معانٍ ودلالات مختلفة، إلا أنّها باتت اليوم أشدّ رسوخاً وواقعية، فقد بات الإنسان أشدّ عزلة وابتعاداً عن أقرب الناس إليه، حتى ممّن يعيشون معه في المنزل نفسه، عزلة تفرضها ظروف الحياة الجديدة، وأدوات التواصل الحديثة… فما عاد البعض يكترث حتى بإمكانية التعرف إلى جاره.

DSC_7431cفما الذي جرى حتى تتغيَّر العلاقات، وتتخذ هذه الصور من القطيعة والعزلة والرغبة في الانفصال والابتعاد عن الآخرين؟ هل هي تغييرات في الوعي والحاجات، أم إنها تجديد للأولويات في حياة كلّ منّا بحسب ما تفرضه المتطلّبات؟

ولا ترتبط الجيرة بزمن المجاورة، فحتّى جار الحافلة أو التاكسي أو القطار، هو الجار الموقّت صحيح، لكنّ له أثراً في جاره قد يفوق تأثير جار مقيم ودائم، فكم من علاقة صداقة تبدأ من هذه المجاورات العابرة في الزمن، ولا تنتهي بالافتراق، بل تمتد ما طال العمر.

بعض ما في الغرب
بعض ما عندنا

6100219663_efbb8b62e5_bلا نقول ما يجيز التعميم على الغرب الأوروبيّ والأمريكيّ كلّه، فهذا سيكون مجافاة للواقع والحقيقة، لكنّنا ننقل «وقائع» محدّدة، وقد لا يجوز القياس عليها تماماً، بل هي نماذج شائعة ربما، أو هي باتت مألوفة لشيوعها، وربما أيضاً بات بعضها مألوفاً في مجتمعاتنا العربية، إذ هي تنتقل مع أنماط العيش الغربية التي تنتقل إلينا مع المُنتَج الغربيّ الذي بتنا نستهلكه بكثرة، ولكلّ إنتاج محمولاته و«آثاره الجانبية»، السلبية في الغالب، إلى جانب إيجابيّاتها.

فعلى سبيل المثال، يَعُد كثيرون من البريطانيين «الدار قبل الجار»، بسبب صعوبة التأقلم مع جيرانهم لأسباب كثيرة، على رأسها ضجيج أطفالهم وصخب الحفلات التي يقيمونها وتمتد إلى ساعات متأخرة من الليل، وقد أظهرت دراسة أن %60 من البريطانيين يكرهون جيرانهم بسبب الضجيج المنبعث من منازلهم، فيما اعترف %28 منهم بأنهم لن يقيموا معهم أي علاقات اجتماعية، و%10 بأنهم يتناحرون معهم بصورة مستمرة. ووجدت الدراسة أن 6 من كل 10 بريطانيين لا يتأقلمون مع عائلة على الأقل من جيرانهم، وأن 3 من كل 10 منهم يقيمون علاقة سيئة مع اثنين من جيرانهم لأسباب تُراوح بين صخب أطفالهم، وضجيج حفلاتهم، وإغراق حاويات القمامة المشتركة أمام منازلهم بمواد لا يمكن وضعها فيها. وقالت دراسة أخرى إن نصف البريطانيين أقرّوا بأنهم ينظرون في الاتجاه المعاكس إذا ما صادفوا جيرانهم في الشارع، فيما اعترف واحد من كل عشرة منهم بأنه يرمي جاره بنظرة فاترة، و%10 بأن لديهم عداءً مستمراً مع أحد الجيران منذ فترة طويلة.

الجيرة في الفن التشكيلي
page-101shutterstock_286794188Jacob,_Max_(1876-1944)_-_1934_-_Foto_Carl_van_Vechten,_Library_of_Congress 

 

 

على قلة ما نجد في الأعمال التشكيلية نحتاً ورسماً، من العناية بالمجاميع التي يمكن أن تحيلنا إلى علاقة جيرة بين شخوصها، نجد في تاريخ الفن المعاصر، جيرة حقيقية لعبت دوراً تاريخياً لم تلعب الجيرة مثيلاً له في كل تاريخ الثقافة.

ففي بدايات القرن العشرين أقام عدد من كبار الفنانين في مبنى واحد في حي مونمارتر عند طرف العاصمة باريس. ولأن هذا المبنى كان قديماً ومترهلاً تتسرب منه مياه الأمطار، أطلق عليه الرسام الفرنسي ماكس جاكوب اسم «لوباتو لا فوار» (أي المركب الغسالة، لأنه كان يذكِّره بالمراكب التي تتولى غسل الملابس في نهر السين). المهم في هذا المبنى هو أنه ضم من بين سكانه كلاً من بيكاسو (من 1900 إلى 1904م)، وفي الوقت نفسه ضم أيضاً كيس فان دونجن، وجورج براك، وخوان غري، وماكس جاكوب وأندريه دوران وراؤل دوفي وموريس أوتريو وأماديو موديغلياني ونحو عشرة غيرهم من كبار أساتذة الفن التشكيلي في القرن العشرين. ومن الصداقة التي جمعت بيكاسو بجورج براك في هذا المبنى انطلق الاثنان في تجربة فن التكعيب، الذي فتح الباب على مصراعيه أمام التجريد ومن ثم العديد من التيارات الفنية المعاصرة.

Le_Bateau_Lavoir_1,_Paris_20_May_2014ومن الذين كانوا يترددون على هذا المبنى من الكتَّاب، نذكر غيوم أبولينير وجان كوكتو وجيرترود شتاين، إضافة إلى عدد من كبار تجار الفن المعاصر. ومن أهم الأحداث التي شهدها هذا المبنى، الوليمة التي أقامها بيكاسو تكريماً للفنان هنري روسو. كما يُروى أن موديغلياني قام ذات ليلة، وسط فورة غضب تحت تأثير الكحول، بتمزيق عدد من لوحات جيرانه الفنانين.

في عام 1970م، التهم حريق مبنى «لوباتو لا فوار»، ولم يبقَ منه غير واجهته، ولكن في العام 1978م، أعيد بناؤه بالكامل، وتم تصنيفه مبنىً تاريخياً.

الجيرة وأثرها على تخطيط المدن وفن العمارة
عندما يقرر المرء السكن في عمارة ما، أو بناء منزله الخاص في منطقة ما، تحضر قضية الجيرة كسؤال أساسي عليه أن يحصل على الإجابة المُرضية عنه. وتتمثل قضية الجيرة على هذا الصعيد في جانبين أساسيين:

shutterstock_172769132أولاً: الجانب الطبقي. فحتى أواسط القرن التاسع عشر في أوروبا، وبدايات القرن العشرين في البلاد العربية، لم يكن للبُعد الطبقي دور في ربط العمارة بالجيرة. فقصور النبلاء في أوروبا كانت تتوسط أكواخ الفقراء وبيوتهم المتواضعة. تماماً كما نرى على سبيل المثال أن باشاوات دمشق والقاهرة ووجهائها بنوا قصورهم في حارات محاطة بصغار الحِرفيين والتجار. ولكن مع انتصار الثورة البرجوازية في أوروبا (انطلاقاً من الثورة الفرنسية)، بدأ الفرز الطبقي، وبدأ الاشتراط غير المعلن رسمياً في أن يكون «الجار على مقام جاره». وهذا ما أدى في باريس مثلاً إلى أكبر إعادة تخطيط للمدينة في عملية استمرت من عام 1853 وحتى 1870م، بُنيت فيها آلاف الأبنية الجديدة، على جوانب جادات جديدة، وبمقاييس مختلفة، على أن يتولى تحديد الإيجارات تحقيق أكبر قدر ممكن من التقارب الطبقي بين سكان الحي الواحد.

Antara-640x480وفي القرن العشرين، تفشت هذه الظاهرة أينما كان في العالم. فقامت أحياء وضواحٍ شبه مخصصة لإيواء شرائح متقاربة فيما بينها على صعيد الاهتمامات والمكانة الاجتماعية. ومن أشهرها عالمياً، ضاحية بفرلي هيلز قرب مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، حيث يتجاور كبار الأثرياء في المنطقة وغالبيتهم من العاملين في مجال السينما. ومن أقرب الأمثلة إلينا التي نلحظها في كل مدننا، هو وجود أحياء (مثل «الحزام الذهبي» في مدينة الخبر) حيث تدل العمارة بشكل واضح على تجانس طبقي ما بين الجيران، يصعب على المنتمي إلى شريحة اجتماعية مختلفة أن يخترقه. ويجد هذا الفرز الاجتماعي المبطَّن في أماكن عديدة، دعماً من الجهات المسؤولة عن التنظيم المدني، التي تسنّ القوانين للحفاظ على الطوابع المحددة لشخصيات هذه الأحياء السكنية، وبالتالي للشرائح الاجتماعية المرحب بها فيها.

shutterstock_207694810ثانياً: جانب العلاقات الاجتماعية، وهو الجانب الأكثر تعقيداً، ولا يقتصر على النفور من الجيرة السيئة والارتياح إلى الجيرة الحسنة، بل يمتد إلى إشكالية الحفاظ على الخصوصية من جهة والانفتاح على الجيرة من جهة أخرى، وفق اعتبارات تختلف باختلاف الثقافات والتقاليد الاجتماعية. ولهذا الجانب دور أساسي في تطوير فن العمارة في اتجاهات مختلفة.

ففي حين أننا نرى في بعض المدن الأمريكية الصغيرة أن البيوت تُرصف على جانب الشارع قرب بعضها بعضاً، لا يفصل بينها غير خط صغير من الشجيرات أو سور من خشب لا يعلو لأكثر من نصف متر، وأحياناً لا شيء يفصل بينها على الإطلاق، نجد أن حماية الخصوصية تبلغ أحياناً حدودها القصوى في بلادنا، بشكل ينعكس بوضوح على تصميم العمارة ليعزل البيت تماماً عن محيطه. وهذا ما نراه بوضوح في مجمعات الفلل التي تقام دفعة واحدة في منطقة ما، وكأنها تعرض مع البيت خصوصية مطلقة واستقلالاً تاماً عن الجيرة. والمؤكد أن كثيرين يرتاحون إلى مثل هذه العزلة. ولكن كثيرين أيضاً يتمنون لو أن تخطيط هذه الأحياء يسمح لهم بالتعرف إلى جيرانهم، ولأولادهم أن يتعرفوا إلى أولاد الجيران.

الجيرة على مستوى الدول
shutterstock_78132874يمتد مفهوم «الجيرة» ليصل إلى العلاقات القائمة ما بين دول العالم. ولربما كان لهذا البُعد للجيرة الوقع الأكبر على رسم حياة الشعوب ومصائرها، أكثر بكثير من مفاعيل الجيرة على مستوى الأفراد.
وفي الجيرة الدولية يمكننا أن نشهد كافة الأنواع والألوان. من أسوئها كما هو الحال بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، وباكستان والهند إلى أفضلها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ففي حال عدم وجود سبب للخلاف بين الدول كترسيم الحدود أو ما شابه ذلك، نجد أن هذه الدول تنتقل فوراً إلى تمييز علاقاتها بالدول المجاورة عن علاقاتها بباقي دول العالم، فتخفف من قيود الحركة العابرة لحدودها معها، وتنشئ سلسلة من الروابط والتفاهمات معها في إطار تمييز علاقاتها بها.
من أشهر الأمثلة على سياسة حُسن الجوار الدولية هذه، نعرف كلنا «مجلس التعاون الخليجي» الذي تأسس عام 1981م، ليجمع في إطار علاقات مميزة ست دول تطل على الخليج العربي، وهي إضافة إلى المملكة، دولة الإمارات العربية المتحدة، وقطر، والبحرين، وسلطنة عُمان، والكويت.
أما «الاتحاد الأوروبي» فهو بلا شك
أكبر صيغة لتعزيز حُسن الجوار ما بين
عدة دول.
GCC-LOGOإذ إن هذا الاتحاد الذي تأسس بناءً على معاهدة ماستريخت عام 1992، بات يضم 28 دولة من دول القارة الأوروبية. وأكثر من ذلك، فقد أنشأ هذا الاتحاد ما يُعرف باسم «سياسة الجوار الأوروبية» التي عمدت منذ إطلاقها في عام 2004م، وحسبما نصَّ عليها ميثاقها، إلى تعزيز علاقات الاتحاد الأوروبي بمجموعة مختارة ومحددة من الدول المجاورة في شمال إفريقيا والمشرق العربي وحتى أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى.

أضف تعليق

التعليقات