في إطار السباق المحموم ما بين الساعين إلى أعمال غير قانونية، والمجتمع ممثلاً بأجهزته الأمنية، تكاثرت الاكتشافات والاختراعات في مجالي المراقبة والتحري، فبدأت تدق أبواب الحياة الخاصة للفرد. الدكتور غازي حاتم٭ يحدثنا عن هذا الموضوع..
يحظى موضوع الكشف عن الأشياء المخفاة عند البشر باهتمام كبير، إذ تتنوع الأجهزة المخصصة لذلك، منها كواشف المعادن وكواشف الأشعة السينية، وتلك العاملة على الأشعة ما تحت الحمراء أو الموجات ما فوق الصوتية.. وقد تزايدت مؤخراً الاكتشافات والاختراعات في مجالي التحري والمراقبة، ومنها آلة جديدة أطلق عليها اسم «لوميديجم». هذه الآلة تحلل الطريقة التي يعكس بها جسمك الضوء بألوان مختلفة، حيث تؤثر – على ما يبدو – كمية الدهون ولون الجلد وآثار الجروح القديمة وعلامات أخرى في الطيف الضوئي الناتج والذي يختلف من شخص إلى آخر. وقد دخل الاختراع الجديد حيّز الخدمة الفعلية في بعض الجامعات الكبرى في أمريكا، وذلك في مجال السماح بالدخول إلى المختبرات السرية للأشخاص المعنيين فقط. ويفكر مخترعوه الآن في تطبيقات جديدة متعلقة به، مثل تصميم مسدس ذكي يطلق النار فقط عندما يتأكد من أن الإصبع المضغوط على الزناد هي إصبع صاحب المسدس، إضافة إلى تصميم هواتف وسيارات وحواسب وأدوات منزلية
لا تعمل إلا من قبل الأشخاص المرخّص لهم.
في شهر مايو من العام 2001م، توقع الروائي الذائع الصيت دايفيد برين أن تتمكن التكنولوجيا من تجاوز أي حاجز نقيمه لحماية خصوصياتنا، ورأى أنه «سيكون من الممكن في المستقبل أن نخفي كاميرا في ذبابة صناعية». وفي شهر ديسمبر من العام التالي، أخذ توقعه مجراه، إذ قدمت جهات مختصة في إحدى الدول المتقدمة عرضاً تنوي من خلاله إنشاء مراكز مراقبة كبيرة وواسعة للتحري عن بصمة أي شخص مقيم فيها.
وفي الواقع، يعرف الكثيرون أن العديد من الأماكن العامة مثل المؤسسات والمطارات مراقبة منذ سنواتٍ طويلة. ولكن تطور أجهزة التقصي والتحري في الآونة الأخيرة جعل من الممكن القيام بمراقبات متشددة وجديدة في شكلها دون أن ينتبه الأشخاص إلى ذلك، فبالكاد تنبه الذين حضروا بطولة كرة القدم الأمريكية الوطنية في تامبا في شهر فبراير 2000م، إلى الكاميرا التلفزيونية التي كانت تصوّر كل شخص يدخل إلى الملعب، حيث شغّلت شرطة فلوريدا طرازاً أولياً من المراقبة المعتمدة على القياس الحيوي، تتم من خلالها مقارنة ملامح آلاف الأشخاص الذين يدخلون إلى الملعب مع ملامح مرتكبي الجنح والمجرمين، الذين لهم ملفات أمنية قيد البحث أو الشك. كما أصبحت بعض قوى الأمن في بعض الدول مجهزة بمسجلات حرارة تسمح بتأمل التحركات ضمن بيت ما، الأمر الذي يعني تقدماً إلى الأمام في مسيرة المجتمع نحو اقتحام الحياة الخاصة للفرد.
إلى ذلك يجب ألاَّ ننسى موضوع مراقبة العمال من قبل رؤسائهم في المجالات المختلفة كالمجالات الإلكترونية والشخصية، لما لهذا الموضوع من حضور في معظم الشركات والمؤسسات المتوسطة والكبرى في الدول المتقدمة، إذ أدت المراقبة ولا تزال تؤدي يومياً إلى نشوب خلافات ومحاكمات وعمليات طرد واستقالات. والأسباب التي تؤدي إلى قيام الإدارات بمراقبات عمالها تكمن أساساً في استغلال البعض لمواقعهم في العمل للقيام بأعمال خاصة لا تتعلق بالعمل بأي شكل من الأشكال، ولا سيما عندما يكون عملهم مرتبطاً بالكومبيوتر. ولكن مراقبة أداء العمال لدواع مهنية يمكنها أن تصل بالمراقب عمداً أو سهواً إلى مسائل شخصية تخص المراقَب وحده.
ومما لا شك فيه أن خفض أسعار التكنولوجيا الجديدة المتعلقة بالمراقبة، وحالة الخوف التي يعيشها الناس في أماكن مختلفة من العالم، وظهور تقنيات متقدمة جداً، كل هذه المستجدات دفعت أقسام الشرطة، البنوك، المتاجر، الوكالات الدولية، الملاعب، الحدائق الترفيهية، ورؤساء أقسام العاملين،.. إلى استعمال كل أنواع الكاميرات، وقواعد البيانات، وطرق الكشف المتنوعة بهدف الحصول على معلومات شاملة وموثقة تسمح بالكشف عن احتمالات القيام بمخالفة أمنية أو مالية أو بالتحري عن المسؤولين عن هذه المخالفات في حال حدوثها، أو حتى لمعرفة ما يجري من خلف ظهورهم.
وفي خضم هذا الجو الرقابي الكبير، بدأ بعض المختصين بدق ناقوس الخطر حيال ما يهدد خصوصية الأفراد في العالم بشكل لا سابق له، فأصبحت الأصوات ترتفع لتعلن رأيها في هذا الأمر، ومن بينها صوت غريغ ويتكر، مدرّس العلوم السياسية في جامعة تورنتو الكندية، الذي قدّم دراسات كثيرة حول أجهزة المراقبة وحماية خصوصية الإنسان. وفي رأيه إن التكنولوجيا تسمح لمن يريد أن يقوم بمراقبة الآخرين بأن ينجز ذلك، وبالرغم من أننا لسنا مراقَبين في كل لحظة نعيشها، فقد أصبحت كل التعاملات أو كل أشكال التواصل مع الآخرين، التي تُنجز بتكنولوجيا جديدة، مراقبة من قبل شخص ما، وهذا الأمر يدعو إلى وجود مدافعين عن الخصوصيات، لا سيّما وأن الاختراعات والاكتشافات في عالم المراقبة تتطور بسرعة هائلة، الأمر الذي يعني أن مساحات الخصوصيات لكل فرد تتقلص أكثر فأكثر. ولكن الأمن والسلامة سيتحسنان أكثر فأكثر.. إنه سلاح ذو حدّين، وكل شيء يتوقف على طريقة استعماله.