منتج

التايملاين

2في صالات الانتظار المكتظة حتى على طاولات الطعام التي يفترض بها أن تلم شمل الأسرة، تجد الناس منهمكين في التحديق في شاشات هواتفهم الذكية. يمارسون هذا النشاط بمنتهى السكون، لا شيء يتحرك فيهم إلا كريات أعينهم، وأصبع واحدة تمارس «التقليب».. أو «الإبحار» عبر التطبيقات الذكية التي لا حصر لها… والتي تشترك في معظمها في أنها تختزل لك العالم السايبري، كما تراه أنت، ويراه متابعوك (أصدقاؤك كما تصرّ الشبكات الاجتماعية على تسميتهم). وهذا الاختزال للعالم يتم تقديمه لك في صيغة اسمها «خط الزمن – Timeline»… وسنعتمد فيما يلي لفظة «تايملاين» إمعاناً في تسليط الضوء على القيمة الثقافية والسلوكية التي يرسخها هذا المنتج الرقمي.

إن التسمية في حد ذاتها شاملة حدّ الصفاقة، لأنها –بمزيد من التدقيق- تعطي الانطباع بأن هذا «الشيء» حصرَ ما كان وما هو كائن من معارف وعلوم وأحداث. لكن، وكما نعرف جيداً، فإن هذا الـ «خط الزمني» ليس سوى مسرد لحظي منهمك جداً في الآن وفي التو… أو في «المستقبل الفوري الحدوث» إن جاز التعبير. التايملاين ذو ذاكرة قصيرة جداً ولا يكاد يكفي لاستيعاب البرهة الحالية المثقلة بطوفان الـ «داتا» الذي ينتجه كل منها… فضلاً عن أن يكون أرشيفاً معتبراً لرحلة أيّ منا… عبر الزمن!

مع الشكر للفيس بوك
يسود اعتقاد بأن موقع فيس بوك كان له الفضل الأول في ترسيخ فكرة التايملاين وجعلها ذات شعبية كاسحة بين ما يزيد على المليار مشترك. وهذا صحيح إلى حد ما. لكن فيس بوك ليس هو أبو الفكرة ولا موجدها الأول. فالتايملاين –كمبدأ- قديم قِدَم فكرة الحاسوب الشخصي المرتبط بالشبكة. وهي فكرة سبقت حتى هذه المصطلحات وسبقت الحاسوب الإلكتروني. لكن ظهرت كتصوّر مبدئي عام 1945م قدّمه العالِم الأمريكي العظيم ڤانيڤار بوش وسمَّاه الميمكس Memex.

في ذلك الجهاز الافتراضي، تصور بوش سطح مكتب آلي يعرض لصاحبه النصوص والصور، ويتواصل مع أسطح مكاتب شبيهة -بطريقة ما- كي يتبادل الوثائق النصيّة وسواها معها. واقترح بوش في جهازه ذاك آلية عرض سردية شبيهة إلى حد بعيد بالتايملاين الذي نعرفه اليوم. طبعاً فإن الميمكس الموعود قد بات في جيب كل منا اليوم أو بين راحتيه في هيئة هاتف أو جهاز لوحي أو حاسوب محمول. أما التايملاين فتطور كثيراً منذ ذلك الحين وشهد طفرة قوية أيام المدونات. قبل أن يطوّره أصحاب مواقع التواصل الاجتماعي بدءاً من فيس بوك مروراً بتويتر والإنستاغرام وسواها من المواقع والتطبيقات التي تحتل حيزاً من حياتنا الرقمية اليوم.

خط زمني لا يعترف بالماضي
هناك دراسات عدة حول التأثير السلوكي والاجتماعي للإنترنت بصيغتها الحالية، حيث يشكل المحتوى السريع والخاطف جلّ ما يُعرض. وحيث يصل مستوى «التواصل» لمستواه الأدنى تماماً، في تعارض مدهش مع اسم «التواصل» الذي تروِّج له كثير من مواقع الموجة الجديدة من الإنترنت. نحن ننقر على زر «لايك» دون أن نقرأ فعلاً ولا نعرف. نتشارك الصور دون أن نكترث لجمالها أو محتواها الحقيقي. نمر سريعاً على ملايين وملايين البايتات من النصوص والفديوهات والروابط لمواقع لا حصر لها، بما فيها أخبار «أصدقائنا الافتراضيين» وأحداث حياتهم التي لا يفتأون يدونونها والتي قد لا تعدو كونها احتفاء أحدهم بمطعم جديد عثر عليه أو وصوله سالماً إلى مقر عمله في الصباح. كل هذه التفاصيل يزخر بها التايملاين الخاص بأي تطبيق شهير. والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه هنا هو: ما مصير كل هذه الذكريات؟ هل التايملاين هو أرشيف لحياتنا ومن نعرف؟ أم إنه استعراض مبتذل للحظات عابرة لا تعني شيئاً لكننا مهتمون بها لأننا نحرص على أن نكون فاعلين في تلكم الحياة الرقمية.

إن التايملاين متهم دوماً بأنه حافل بالغثاء. وهذا الاتهام يسهل إعادة توجيهه للمشترك أو المستخدم لهذا المنتج، الذي يفترض به أن يختار رفاقه الرقميين على نحو يرتقي بمحتوى تايملاينه. بطبيعة الحال فالعبارة الحقيقية هي أقرب للنكتة، لأن التايملاين هو كذلك مرآة صادقة لمقدار التضارب والسذاجة والتعقيد التي تشكلها أذواق ونفسيات أية عينة عشوائية من البشر المتعايشين معاً في بيئة رقمية أو سواها… كما أن تحديد سلوك الناس، على الإنترنت بالذات، هو ضرب من المستحيل عطفاً على هامش الحرية الذي تفسحه فكرة العالم الرقمي في أساسها.

يبقى وصف التايملاين بأنه خط للحاضر وللمستقبل المباشر، وأنه مضاد جداً بطبعه لاستحضار الماضي بشكل بنّاء، وصفاً واقعياً تصدقه طبيعة تفاعل المستخدمين معه. وإذا كان معظم أولئك المستخدمين شباباً نشأوا في ظل ثقافة الإنترنت ويدينون لها بالانتماء المطلق، فسيكون من الممتع أن نراقب تطور تفاعل هؤلاء مع التايملاين، اللحظي جداً، إذ يتقدمون في السن ويكبرون. فالكبار، كما يقال، يمسون ميالين أكثر للتأمل فيما مضى، عوضاً عن مواصلة اجترار الحاضر، كما فعلوا كثيراً في ماضي أيامهم.

أضف تعليق

التعليقات