قول آخر

الالتفات إلى الداخل

في وقتٍ من الأوقات، حاز المقال الأدبي في عالم الصحافة مكانة سامقة، لا يدانيها أي نوعٍ آخر من المقالات وإن تكن سياسيّة. مَن يُشار إليهم بالبنان، وربما تُقتنى الصحيفة لأجلهم؛ هم كتّاب المقالات الأدبية، ولعلّ من اطّلع على سيرة الصحافة العربية يعرف المكانة التي تبوّأها كثيرٌ من الأدباء، بل إن كتباً مشهورة لأسماء شاهقة في الحياة الأدبية لم تخرج في صيغتها الأخيرة بين غلافين، إلا بعد أن نشرها صاحبها على صفحات الجرائد مثل طه حسين والعقاد.
الأمر الذي يعني مدى التأثير الذي بلغه المقال الأدبي، ليصمد في عين القارئ وينال حضوراً دائماً يتعدَّى ظرفية النشر وزمنه المحدود. هكذا بزغ «حديث الأربعاء» لطه حسين مقالاتٍ تُنشَر في صحيفة وتأخذ حظّها من الذيوع والانتشار بين القراء، ثم يعمد مؤلفها إلى إعادة إخراجها كتاباً بالعنوان نفسه، نظراً للقيمة التي انطوت عليها، فلم تكن تاريخاً وحسب. إنما جزءاً مكيناً من سيرة أدبية.
لقد كانت علاقة القارئ إبَّان تلك الفترة مرتبطةً بـ «الأدبي» الذي تطرحه الصحافة أكثر من أي شيءٍ آخر. وشخصياً أستعيد زمن السبعينيات من القرن الماضي، ومعها متابعاتي للجرائد المصرية. وما لن أنساه ولن يجد طريقه إلى الضياع؛ حرصي على متابعة كتابات إبراهيم المصري ومحمد زكي عبدالقادر في جريدة الأخبار. فقد كانا لي مثالاً لأسلوب الكتابة الجميلة الناصعة القشيبة. كتابة نضرة ريانة كأنها تواً مقطوفة من حقل اللغة، تلبِّي لدى القارئ احتياجاً ثقافياً وتربِّي عنده حسّاً سليماً لتذوق «لغتنا الجميلة» وهي تنساب ليّنةً مطواعة تستلُّ المفردات والتراكيب، فتصنع منها قطعةً فنية.
تلك المكانة والحضور للمقال الأدبي لم يستمرا في عالم الصحافة؛ المتغيّرة والمتحولة، الراكضة نحو التقاط نبض العصر وإيقاعه السياسي والاجتماعي. فقد بات المقال وظيفياً، عنايته تتوجَّه للتوصيل والإبلاغ. تراجعت اللغة لدى النّفر الأعظم من كتَّاب الصحافة، وأُنزلت من عرشها البلاغي، وسُمّرت على كرسي الإبلاغ لا تتعداه. وصار من المآخذ على كاتب المقال خلطه «لغة الصحافة» -بأوصافها المعيّنة التي تُعد كرّاساً إلزامياً ينبغي الخضوع له ومراعاته حرفياً- بـ «لغة الأدب». هذا الشرط أظهرُ ما يكون في المقال السياسي والفكري رغم أن الأخير مظلّته ثقافية أدبية وله فسحةٌ، لو أراد، غيرُ مضنونةٍ في أن يتفيّأ ظلال الصور؛ مجازاً واستعارة. ومن حُسن الحظ أن ثمّة نفراً من الكتَّاب لا يزال وفياً للروح القديم المستكنّة الهاجعة في بحر الصحافة القلاب المتحوّل، على النحو الذي نجده في مقالات محمد العلي؛ طلال سلمان؛ نصري الصايغ؛ فواز طرابلسي؛ غسان شربل؛ علي حرب؛ عبدالإله بلقزيز.
عند هؤلاء نعثر على اللغة الحية المشربة بالظلال التي تمتلك مع متانة الفكرة والقول بعداً إضافياً نابعاً من «الأدبية» التي تتقحّمها عين الصحافة العادية الجارية مجرى القانون.

ما الذي حرّكَ عندي هذا العِرق القديم، فطفق ينبض بالشجن؟
الجواب لُقيةٌ ثمينة، عثرتُ عليها مع العدد الخمسين من مجلة «الدوحة» القطرية (شهر ديسمبر 2011م) التي أرستْ مبدأ حميداً يتلخَّص في إهداء كتاب مجان مع العدد هدفُه وصلُ القارئ بأبرز كتَّاب النهضة العربية، وقد طوّرت المجلة هذا المشروع التنويري بجناح آخر يرفد القارئ العربي بثقافة العالم عبر الترجمة، حيث سيتلقَّى القارئ مع الكتاب العربي كتاباً مترجماً كل ثلاثة أعداد.
باكورة هذا التطوير «فتنة الحكاية» قامت بترجمته الشاعرة المصرية غادة حلواني. جمعت فيه أربع مقالات أدبية لـ «جون أبديك: الكاتب في الخريف»؛ «سينثيا أوزيك: الكتّاب الأشباح»؛ «جيل ماكوركل: وقت اللعن»؛ «باتريشيا هامبل: الوجه المعتم لفن الوصف». المقالات المترجمة مستلّة من سلسلة أمريكية، تصدر في مجلد سنوي مخصص لأفضل المقالات التي نُشرت على مدار العام.
بداية السلسلة كانت في العام 1985م، والمختارات من مجلد العام 2009م الذي ضمّ عشرين مقالاً أدبياً خضعت للعناية والفرز والتدقيق من بين مئات المقالات. وترمي هذه السلسلة إلى إعادة الوهج إلى المقال الأدبي باعتباره فناً حقيقياً قابلاً للاستعادة والنجاة من التهميش عندما ينظر إليه البعض، فيضعه في «الدرجة الثانية»؛ قاضماً دوره وأثره؛ حاكماً عليه بالأفول من عالم الصحافة.
تتطرّق «ماري أوليفر» محررة مجلد العام 2009م من السلسلة إلى النواة التي ينتظم حولها المقال؛ تماسكاَ وبنياناَ وقيمةً تتعدَّى الشكل والصياغة؛ بما يمثِّل «روحه» العابرة للأجناس والأزمنة. هذه النواة تكمن في النظرة والموقف لكاتب المقال المتميّز المتفرّد عن الآخرين.
الأساس هو الخروج من العام وصخبه وإكراهاته.
الانصراف من الجماعي المتماثل والذي إذا استجيب له فلن ينجب غير المتوقّع والشبيه على نحوٍ موازٍ ومتواقت معه.
الاستغناء تماماً عن المصباح الخارجي، والإيغال في الداخل حيث الضوء الأصل والنور الحقيقي؛ حيث الذات وتجربتها مع الحياة واستلال الصدى الشخصي بفرادته الذي يجعل «الكتابة» جديرة بهذا الاسم، ويوفِّر لها كنزاً يطيب له أن يشرك القارئ معه ويستوفي نصيبه منه.
وتستعين المحررة لتأكيد فكرتها بمقولة لأحد مبتكري المقالة في عالم الصحافة الغربية (ينظر العالم دوماً إلى الأمام، بالنسبة لي أنا أدير نظرتي إلى الداخل. أثبِّتها هناك وأنشغل بما أراه. ينظر الجميع إلى ما يقع أمامهم، بالنسبة لي أنظر إلى داخلي، لا شاغل لي إلا نفسي، أراقب نفسي باستمرار، آخذ من مخزون نفسي، أتذوّق نفسي…).
بهذه الخلفية القائمة على الالتفات إلى الداخل، ينضج المقال ويستوي، ويبلغ غايته من النجاح والتأثير، وذلك بمقاربة العالم ليس من حدّه الخارجي، ولكن من فيض الداخل، وتجربته التي تعرض عن النافل وتتصل بما هو جوهري وعميق؛ يجعل الكتابة «ضرورة» تضارع الحياة لأنها تخرج المعنى الغافي في طوايا العالم وتمنح الوجودَ استحقاقَه؛ فإذا اللامرئي يسطع متجلياً. كما ظهر في المقالات الأربعة بخاصة الأولى والثانية، آنَ يصبح الداخل بتفاصيله هو «فتنة الحكاية».

أضف تعليق

التعليقات