نحن الآن أمام حالة وطنية تتطلب مزيداً من النقاش والتأمل: جاهزيتنا كمجتمع للحوار في مقابل صدور إرادة هذا الحوار من قمة الهرم السياسي في بلدنا.
حين صدر قرار إنشاء مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، كنت في لبنان، ذلك البلد العربي الذي يقرأ أهله، من أبسط قواعدهم الاجتماعية إلى أرفع هاماتهم الفكرية، المستجدات السياسية بنهم شديد ووعي رفيع.
هناك التقيت بعدد من رموز لبنان الفكرية والإعلامية، من أجل (القافلة). وقد أتيحت لي الفرصة لأن أصغي إلى العديد من التجارب التي تحملها رؤوس وأكتاف هذه الرموز عبر العقود العربية السالفة. وكم كنت مسروراً وأنا أستمع إلى أولئك المخلصين لأمتهم وهم يعبرون عن تعاطفهم مع المملكة في الأحداث الأخيرة المؤلمة. ولم تخل أطراف الحديث من تعبير بعضهم عن شعوره بحضور سعودي متصاعد، بات، إذا ما قورن بغيره، أكثر وضوحاً ونضجاً في الآونة الأخيرة. فمن الآلام تولد الآمال، ويصح حينئذ، كما قال أحدهم، أن يعاد النظر في بعض الأمور لتستقيم وتأخذ طريقاً أكثر اطمئناناً إلى المستقبل.
في خضم هذا الحضور اللبناني المفعم بالوطنيين، المخلصين لعروبتهم، تابعت بحرص بالغ ما قيل أو كتب عن مركز الحوار الوطني، ومثل كل مواطن كانت الأسئلة التي شغلتني ولا تزال هي: إلى أين سنمضي بهذه الفرصة الوطنية العظيمة، فرصة الحوار الذي يتاح على مصراعيه لكل الآراء والأفكار والأطياف؟ هل نستثمرها ببالغ المسؤولية لنحقق غاية هذا الحوار في بناء اللحمة الوطنية، التي تدرأ عن حياضنا مهاوي التطرف والتعصب والغلو؟ هل نجعل هذا الحوار ذاته حالة يومية مستديمة تُقرّب الآخر وتحتضنه بدل أن تبعده أو تلفظه؟ وهل نحن، بالمجمل، جاهزون للحوار الذي ينسجم وهذه الإرادة الوطنية؟
هذه الأسئلة وغيرها لا بد وأنها خطرت ببال كل مواطن وهو يتابع خبر إنشاء مركز الحوار الجديد. ليس السؤال، أو مجموعة الأسئلة، لمجرد الرغبة في إثارة القلق حيال التعامل مع هذه الخطوة البالغة الأهمية، وإنما هي الرغبة الكامنة في الاطمئنان بأن بادرة من هذا القبيل ستؤخذ على محمل الجد والمسؤولية والفهم السليم، خاصة وأن أي عربيين لا يختلفان في أن بني قومهم لا يتمتعون بفضيلة الإصغاء التي هي من أهم شروط الحوار بين طرفين أو مجموعة أطراف. فالمنتديات العامة وشاشات التلفزيون وحتى الصالونات الخاصة لا تنضح بحوار هادئ يسعى إلى الفهم، بقدر ما تشير إلى مواهب فذة في الصراخ والشتائم ومحاولة كتم صوت الآخر لحساب من يقابله.
ومن تابع، كما فعلت، ما دار من نقاشات في صحف وتلفزيون المملكة، لا بد وأنه شعر بأهمية أن ننتبه لئلا يصاب هذا المنعطف الوطني التاريخي بالضعف، إذا ما خضع حوارنا لنفس المنطق العربي السائد في حوارات المختلفين. لقد طرح الناس، من ألوان فكرية متعددة، رؤيتهم لحوار ينتصر على المصالح الذاتية الضيقة. يريد الناس حواراً يرتقي إلى تحقيق المصلحة الوطنية العليا، ليعود على الجميع بفائدته وخيره. فمثل هذا الحوار فقط هو الذي يحقق إرادة الحوار الناشئة، التي تتخلق الآن في رحم وطن تهبُّ عليه الرياح من جهات متربصّة، تقتات على الحقد وتعيش في الظلام.
إن شروط الحوار المبدئية متوافرة لدينا، حيث لا ينقصنا المثقفون والمتعلمون من الجنسين، بل إن شريحة هؤلاء المتعلمين والمثقفين تتسع يوماً عن آخر، الأمر الذي يوفر لساحة الحوار زاداً متواصلاً من أهل الرأي وقادته. وإذا أضيف إلى ذلك تنظيم الحوار ذاته في صورة مركز يديره ويوفر أسباب مساندته، فإن ما يبقى هو مسؤولية المتحاورين في شكل الحوار وهدوئه ونضجه ونتائجه. بمعنى آخر فقد سقطت كل الأعذار لإجراء حوار وطني مسؤول.
يريد المواطن، تكراراً، أن يحقق الحوار مصالح الوطن العليا، ويريد أن يرى أثر نعمة الحوار على حياته. لذلك ربما يكون من لزوميات هذا الحوار أن يستند إلى العلم، علم الدراسات والإحصاءات والأرقام والحقائق، بحيث يمكن تجنب ورطة المخاطبة وبلاغة الكلام المنمق الذي يغيب بمجرد أن تنفضّ ساحة الحوار. المستند العلمي الدقيق حاجة ملحة للحوار، وهو ما سيؤدي في نتيجته إلى تحقيق آمال المواطن، الذي استبشر بهذه الخطوة واعتبرها استجابة مهمة لتطلعاته وحاجاته الحياتية الملحة.