بدا فوز الكاتبة النمساوية إلفريدة يلنيك بجائزة نوبل للآداب مفاجأة للكثيرين؛ خاصة وأنها المرة الأولى التي تمنح فيها هذه الجائزة إلى شخصية نمساوية، والعاشرة فقط التي تمنح فيها إلى امرأة.
الزميل عبده وازن يعرض لنا سيرة هذه الأديبة النمساوية المعاصرة، شبه المجهولة في الوطن العربي، إضافة إلى مقطع من روايتها الشهيرة عازفة البيانو ترجمه بنفسه؛ لأن أعمال هذه الكاتبة لم تنقل إلى العربية حتى اليوم.
وإن اعتبر فوز إلفريدة يلنيك بالجائزة فوزاً للنمسا، فإن بعض المقرّبين إلى السلطة، وأصدقاء الزعيم اليميني المتطرّف يورغن هايدر لم يتحمّسوا لهذا الفوز، بل امتعضوا منه. إذ إنّهم لم ينسوا موقف هذه الكاتبة المتمرّدة من السلطة واتهامها الزعيم هايدر بـ النازيّ الجديد ، ولم يتوانوا عن اعتبار أنّها عفّرت النمسا في الوحل ، وهم طالما حاربوها وأطلقوا عليها التهم جزافاً.
غير أنّ معظم الكتّاب النمساويين فرحوا بهذه الجائزة، حتى الروائي الكبير بيتر هاندكه، الذي يجايلها والمرشح بدوره لهذه الجائزة رحَّب بالفوز قائلاً: إنه لأمر لا يُصدّق! رائع . أما الكاتب روبرت شيندل فيقول: جائزة نوبل هذه هي مكافأة للنمسا الأخرى، التي ترفض العلاقة الغامضة جداً مع الماضي . وقال الكاتب جيرهارد رويس: إنه عيد الفرح. هذه الجائزة هي عقاب لسياسة تقول: إن الأدب ليس إلا أمراً هامشياً ومادة لإضاعة الوقت .
كان لا بدّ من هذا المدخل لقراءة ظاهرة هذه الكاتبة المناضلة التي كما قيل عنها، دقت مسماراً في تاريخ النازية ، فعلاقتها بالسلطة النمساوية شديدة الالتباس، وكذلك بالتاريخ النمساوي الحديث الذي وسمته النازية بعلامة سلبية جداً. وهذه القضية عبّرت عنها يلنيك في الكثير من أعمالها، الروائية والمسرحية، ساعية إلى فضح العلاقة التي جمعت ما بين النمسا والنازية خلال فترة من الزمن. ولكن بعيداً عن البعد السياسيّ الذي هيمن على السجال الذي ما زال دائراً حول الكاتبة والجائزة، فإنّ إلفريدة يلنيك استطاعت أن تسم الأدب والمسرح في النمسا وفي اللغة الألمانية عموماً، تاركة أثراً بيّناً على الجيل الذي أعقبها ولا سيما في ثمانينيات القرن الفائت وتسعينياته. وهذا ما لم يتمكّن منه أي كاتب آخر.
لقد تُرجمت أعمال يلنيك إلى لغات عالمية كثيرة على رغم صلابة لغتها وصعوبة نقلها من الألمانية إلى لغة أخرى. وأعمالها الروائية والمسرحية متوافرة بمعظم اللغات ما عدا العربية التي لم تترجم إليها حتى الآن. وقد تُظلم يلنيك إن وصُفت بـ الكاتبة السياسية و المناضلة النسوية فقط، فهي روائية وكاتبة مسرحية كبيرة، استطاعت أن تصنع لغة خاصّة بها وجعلت منها سلاحاً فنياً وجمالياً ضدّ آفات المجتمع الغربي الحديث وضدّ سياسة التمييز العنصري والطبقي.
استطاعت إلفريدة يلنيك أن تكون هاجس الحركة النازية الجديدة وصانعيها، وقد خاف هؤلاء من أدبها الذي يفضح الأكاذيب وينقل الحقائق ويذكر المواطنين النمساويين بالكثير من الأمور التاريخية التي يجب عدم نسيانها. ونظراً لدورها الأدبي المهم فقد حظيت بجوائز كثيرة ومنها: جائزة هنريش بول (1986م)، وجائزة بوخنر (1998م)، وجائزة هيني (2002م).
كاتبة وسيرة
طالما وصفت إلفريدة يلنيك بالمرأة الخلاسية دينياً وثقافياً، فوالدها المهندس العصامي، تشيكي الأصل يتحدر من طبقة فقيرة ولكن ذات اهتمام بالعلم والثقافة، وأمها نمساوية تنتمي إلى الطبقة البورجوازية. ولدت إلفريدة في العام 1946م في بلدة ستيري النمساوية، ومنذ الصغر سعت والدتها إلى تعليمها الموسيقى حالمة بمستقبل موسيقي باهر لها، وأدخلتها إلى معهد دينيّ في ڤيينا وكانت في الرابعة من عمرها حيث تعلّمت الرقص الكلاسيكي واللغة الفرنسية. لكنّ أمّها لم تلبث أن أجبرتها، وكانت قد بلغت السابعة من عمرها، على متابعة دروس في العزف على الكمان والبيانو إضافة إلى دروسها العادية. وفي السادسة عشرة من عمرها التحقت بالمعهد الموسيقي في ڤيينا. لكن الفتاة لم تحتمل الضغوط التي مارستها والدتها عليها؛ فمرضت وشهدت أزمة نفسية صعبة كادت أن تقضي عليها. ولعلّ هذه العلاقة المتوترة بينها وبين أمها ستكون مادّة روايتها البديعة عازفة البيانو حيث تستعيد جزءاً من سيرتها الذاتية ولكن من خلال شخصية أخرى تدعى اريكا . وقد حفزتها قسوة أمّها على التمرّد لاحقاً ضدّ السلطة أياً كانت، ما عدا السلطة الأبوية كون والدها كما تقول، كان غائباً دوماً .
اتجهت إلفريدة إلى اللغة التي لم تدفعها أمّها إليها مفضّلة الموسيقى، وتقول: والدي شجّعني على تأكيد حضوري من خلال اللغة . وتضيف: اليوم، بعد أن انحزت إلى مثال والدي واتبعت اللغة عوضاً عن الغوص في الموسيقى كما كانت ترغب والدتي، أسأل نفسي إن لم يكن هذا الأمر إنقاذاً لوالدي من والدتي وإنقاذاً لنفسي معه. لكنني لا أقصد أن أقول إنّ أمي كانت شخصية سلبية تماماً، فهي كانت ذكية جداً ومتسلطة ومؤثرة .
منذ نهاية الستينيات باشرت إلفريدة نشر نصوصها الأولى وبعض القصائد. وحازت أولى جوائزها الأدبية الصغيرة. لقد بدأت شاعرة وكتبت بعض البرامج الإذاعية وكانت روايتها الأولى بعنوان نحن طعوم يا طفلي (1970م). وفي العام 1972م اتبعتها برواية ثانية هي ميكايل ، وفي العام 1975م بثالثة هي العشيقات وفي 1980م برابعة هي المُبعدون . والرواية هذه (المبعدون) استوحيت فكرتها من حادث حقيقي كان قد روّع النمسا بأسرها: إنها قصة أربعة مراهقين في خمسينيات القرن الفائت وتحديداً في مدينة ڤيينا، يتّحدون ويؤلفون عصابة ويشرعون في سرقة حقائب المارّة وضربهم وشتمهم. ودفعت هذه الأعمال بزعيم العصابة ويدعى راينر إلى ارتكاب مجزرة كبيرة قاتلاً عائلة بكاملها. لم تكتف رواية المبعدون طبعاً بسرد هذا الحادث المفجع وإنّما عمدت إلى فضح مجتمع يحاول أن ينسى ماضيه متناسياً شياطينه ، وكأنه يحكم على أبنائه الجدد بأن يعيدوا اختلاق أحوال التوحش التي عرفها آباؤهم من قبل. وكان لا بدّ لهذه الرواية من أن تحظى برواج كبير على رغم معارضة السلطة لها. وفي العام 1983م أصدرت إلفريدة روايتها الجميلة عازفة البيانو وهي – كما أشرنا سابقاً – أشبه بالسيرة الذاتية التي تستعيد الكاتبة عبرها بعضاً من علاقات الماضي المتوتر والكئيب وخصوصاً علاقتها بأمّها التي كانت مسيطرة وقاسية. وبدت هذه الرواية أيضاً أقرب إلى التحليل القاسي في فضح شخصية امرأة من خلال الموسيقى أو باسمها. أما رواية لوست التي تلت عازفة البيانو فلم تكن أقل فضائحية منها. واللافت في هذا الكتاب أن صاحبته لم تعتمد لغة نسائية بل حاولت المراوغة كي تعيد إلى المرأة خطاب الرجل نفسه. أما روايتها التي صدرت بعد لوست عام 1995م فقد كانت بعنوان أطفال الموتى ، وفيها تعيد الكاتبة إحياء من تسمّيهم موتى الأمة ، وتوزّعهم بين البشر الأحياء في نزل جميل يدعى وردة جبال الألب بغية أن تعاد إليهم حقوقهم، وأولها الحياة. يبرز في هذه الرواية هاجس التاريخ النازي الذي عرفته النمسا والذي طالما شغل وجدان إلفريدة وذاكرتها معاً، وهي في هذه الرواية تدّق مسماراً في هذا التاريخ الكريه. ولم تخلُ الرواية من الطابع المجازي أو الاستعاري الذي يرمز إلى النمسا وهي تنوء تحت ثقل ماضيها المتواري وسط ركام السنوات.
عالمها المسرحي الشاسع
علاوة على كون إلفريدة يلنيك روائية، وروائية طليعية، فهي كاتبة مسرحية أيضاً وقد يكون المسرح هو الذي صنع شهرتها في البداية. ومسرحيتها الأولى والشهيرة جداً هي نورا وقد صدرت في العام 1997م وهي أقرب ما تكون إلى المعارضة (كما يقول العرب) الدرامية لمسرحية بيت الدمية للكاتب النرويجي الشهير إبسن. تبدأ المسرحية على لسان نورا التي تقول: لست امرأة تخلى عنها زوجها. أنا امرأة رحلت بإرادتها الصرف، وهذا أمر نادراً ما يحصل. أنا نورا، نورا التي كانت في مسرحية إبسن . ومن خلال هذه المعارضة تتخيل إلفريدة ما يشبه التكملة لمسرحية بيت الدمية . لكنّها تنقل المكان إلى النمسا وتجعل الزمان نهاية العشرينيات من القرن الماضي.
لا غرابة في أن تعتبر إلفريدة المسرح مكاناً مركباً أو مصطنعا . وفي رأيها أن على الممثلين ألا يعكسوا أيّ بعد سيكولوجي خلال أدائهم الأدوار. وتفترض أن اللغة المشغولة بإحكام، يجب أن تُلقى في شكل طبيعي، وأن تقدّم كما لو أنّها نوع من مسرح الفودفيل . وتقول الكاتبة عن مسرحها: لا أضع على خشبة المسرح شخصيات متباعدة السمات أو الملامح. فما أصنعه هو جعل الأفكار تلتقي. إن شخصياتي مساحات لغوية أو نمطية كما لو أنّها في ساحة الحرب. وهي لا توجد إلا عبر كلامها نفسه. عندما لا تتكلّم، تختفي . لعلّ هذا الكلام يدل على أهمية اللغة ليس في مسرح إلفريدة فحسب وإنما في رواياتها التي لا تخلو من التجريب اللغوي، والنزعة الأسلوبية اللذين يمنحان أعمالها صفات وخصائص غير معهودة في الأدب الألماني الحديث. فاللغة جزء من الشخصية الروائية والمسرحية، وهي الأداة التي تستخدمها الشخصيات لتحضر حضوراً حسّياً وفكرياً في آنٍ واحد.
كتبت إلفريدة يلنيك الكثير من المسرحيات وقد لقيت رواجاً في النمسا وألمانيا وبعض العواصم والمدن الأوروبية، وتولّى إخراجها عدد من المخرجين الكبار والجدد. وفي العام 1984م أصدرت الفريدة مسرحية كلارا. ش وهي تراجيديا موسيقية بطلتها امرأة أيضاً هي كلارا شومان التي تبوّأت في عصرها مرتبة اجتماعية راقية. إنها عازفة بيانو وقدّمت الكثير من المقطوعات الموسيقية التي وضعها كبار الموسيقيين، لكنّها ظلّت محصورة داخل سور دورها كأم وزوجة وكـ امرأة فنانة . واجهت كلارا، كما تتبدّى في النص المسرحي، سلطتين ذكوريّتين: الأولى تتمثل في شخص زوجها الفنان العبقري والمجنون روبرت شومان والثانية سلطة التدمير البسيط الذي يجسده الشاعر المتطرف غابريل دانو نزيو. وفي هذه المسرحية تتأمل إلفريدة في بنيات التصرّف المثالي لبعض الأشخاص أو الوجوه التاريخية المعروفة، عبر مواقف هي أشبه بالمفاتيح التي تنقلها إلى عصر آخر، ليس هو عصرها ولا عصر الجمهور.
ومن أعمالها المسرحية مرض أو نساء معاصرات (1987م) وهي تدور حول نسوة هنّ مصاصات دماء يعشن من دماء الآخرين الذين هم رجال يعملون تحديداً في حقل الطب وخصوصاً الطب النسائي. وفي مسرحية مطعم على الطريق (1992م) تتناول حياة عدد من الأزواج يلتقون في مطعم ويتصرّفون كما يحلو لهم، متمتعين بوقتهم. إنهم أشبه بالأشخاص اللامبالين والفاقدين لأي إحساس بالحياة أو المسؤولية. إنهم أشخاص لا منتمون، مفتونون بما تقدم لهم الشاشة الصغيرة من أوهام صغيرة.
يصعب حصر عالم إلفريدة يلنيك في مقاربة نقدية لغزارة أدبها والموزّع بين الشعر والرواية والمسرح. فهذه الكاتبة المتمرّدة على ماضيها الشخصي وماضي بلادها التي أصابتها عدوى النازية طوال حقبة، لم تتخلّ البتة عن جماليات الكتابة اللغوية والشكلية ولا عن العمق النفسيّ والفلسفي الذي يكمن في صميم الفعل الأدبيّ. وبقدر ما عرفت إلفريدة يلنيك الشهرة أوروبياً وعالمياً, عرفت – وما زالت تعرف – حالاً من العزلة الشخصية التي أضفت على شخصها المزيد من الغرابة. وقد صرّحت غداة فوزها بجائزة نوبل بأنّها لن تذهب إلى استوكهولم لتسلّم الجائزة خوفاً من اللقاء بالجمهور، فهي على ما يبدو تعاني مرضاً نفسياً يُسمّى أغورافوبيا أو رهاب الأماكن العامة .
عازفة البيانو ..
مقطع من رواية لإلفريدة يلنيك
تندفع عازفة البيانو إريكا كوهوت كالإعصار إلى الشقة التي تتقاسمها مع أمها. تحب الأم أن تطلق على إريكا إعصارها الصغير؛ لأن الابنة تتحرك أحياناً بسرعة متناهية. إنها تحاول أن تهرب من أمها. إريكا تقترب من نهاية الثلاثين. بسهولة يمكن اعتبار الأم، وبالنظر إلى عمرها، جدة إريكا. بعد سنوات قاسية من الزواج رأت إريكا نور العالم. على الفور سلّم الأب الدفة إلى ابنته وانصرف. الابنة ظهرت على مسرح الحياة، والأب غادره. الضرورة علّمت إريكا أن تتحرك بسرعة. كحفنة من ورق الشجر الخريفي تمر من باب الشقة، محاولةً الوصول إلى غرفتها من دون أن يراها أحد. ولكن الأم تقف هناك بقامتها الشامخة، وتضبط إريكا. تضبطها وتحقق معها، ثم تصدر الحكم بالإعدام. محكمة تفتيش وفرقة إعدام في شخص واحد.. تتقصى الأم أسباب عودة إريكا الآن إلى المنزل، متأخرة إلى هذا الحد. التلميذ الأخير انصرف إلى بيته منذ ثلاث ساعات بعد أن أشبعته إريكا تهكماً. أتعتقدين أنني لن أعرف أين كنتِ يا إريكا؟ الطفلة ملزمة بتقديم إجابة لأمها من دون أن تسألها. لكن الأم لا تصدق طفلتها، لأنها تكذب. ستنتظر وتعد: واحد، اثنين، ثلاثة.
عند اثنين تبادر الابنة بتقديم إجابة تحيد عن الحقيقة. عندئذ تُنتَزع الشنطة المكتظة بالنوطات الموسيقية، فتحملق الإجابةُ المُرة عن كل الأسئلة في وجه الأم. أربعة مجلدات من سوناتات بيتهوفن تتقاسم بامتعاض الحيز الضيق داخل الشنطة مع فستان جديد، من الواضح أنها اشترته لتوها. على الفور, تشرع الأم في الهجوم على الفستان. في المحل، قبل قليل، بدا الفستان الذي اخترقته الدبابيس جذاباً، ملوناً، طيعاً، أما الآن فإنه يرقد مثل خرقة رخوة تخترقها نظرات الأم. فلوس الفستان كانت مخصصة لصندوق التوفير! لقد استُهلكت قبل الأوان. كان في إمكان المرء أن يستعرض هذا الفستان أمام عينيه في كل حين في هيئة مبلغ مقيد في دفتر توفير صندوق البناء التابع لمجموعة صناديق التوفير النمساوية؛ إذا تجشم المرء مشقة الطريق إلى صندوق الغسيل حيث يطل دفتر التوفير من خلف كومة من المناشف الكتان. أما اليوم فقد قام الدفتر برحلة، وتمت عملية سحب، والنتيجة يراها المرء أمام عينيه: على إريكا أن ترتدي هذا الفستان في كل مرة، إذا أراد المرء أن يعرف مصير النقود الجميلة.
الأم تصرخ: بددت بسفاهة نقوداً كنا سنحتاج إليها في ما بعد! كان بإمكاننا في ما بعد أن نشتري شقة جديدة، ولكن لأنك لا تستطيعين الانتظار، فكل ما تمتلكينه الآن هو خرقة ستخرج قريباً من عالم الموضة. الأم تريد كل شيء في ما بعد. لا تريد شيئاً فورياً. غير أنها تريد الابنة دائماً، وتريد دائماً أن تعرف أين تتصل بها عند الضرورة، إذا حامت أخطار ذبحة قلبية حول ماما . تريد الأم أن تقتصد في الوقت، حتى تستطيع الاستمتاع بعد ذلك. ولكن إريكا تشتري فستاناً! فستاناً يبلى أسرع مما تختفي لحسة مايونيز على سندوتش سمك: هذا الفستان سيكون العام المقبل، بل الشهر المقبل، خارج الموضة. الموضة لا تصنع نقوداً أبداً.
(…)
المكان الذي تعيش فيه إريكا يتكون من غرفة صغيرة تستطيع أن تفعل داخل جدرانها ما يحلو لها. لن يعيقها أحد؛ لأن هذه الغرفة ملكها وحدها. أما مملكة الأم فهي تشمل كل ما عدا ذلك في الشقة، لأن ربة البيت، التي تهتم بأمر كل شيء، تعمل في كل مكان بالشقة، بينما تستمتع إريكا بثمار العمل المنزلي الذي تنجزه أمها. لم يكن على إريكا أن تجهد نفسها أبداً في الأعمال المنزلية، لأن تلك الأعمال ووسائل التنظيف تدمِّر يدي عازفة البيانو. ما يقلق الأم أحياناً، في إحدى الاستراحات القليلة التي تسمح بها كي تلتقط أنفاسها، هي الملكية التي تتجلى في أشكال عديدة، فالمرء لا يستطيع أن يعرف مكان كل شيء بالضبط. إلى أين ذهبت هذه الحيازة المتحركة مرة أخرى؟ في أي الغرف تندفع وحدها أو مع آخر؟ إريكا الزئبقية، ذلك الشيء اللزج، تتمايل في هذه اللحظة في مكان ما وتمارس هراءها. ومع ذلك، تجد الابنة في كل يوم طريقها إلى المكان الذي تنتمي إليه، وتصل في الموعد المحدد بالثانية: إلى البيت. يتملك القلق الأم في كثير من الأحيان؛ لأن كل مالك يتعلم أول ما يتعلم، وهو يتعلم ذلك بعد تجارب مؤلمة، أن الثقة شيء جميل، لكن الاحتياط واجب. مشكلة الأم الرئيسة تكمن في أن تحتفظ بملكيتها قدر الإمكان في مكان ثابت حتى لا تهرب منها. جهاز التلفزيون يؤدي هذا الغرض، ذلك الجهاز الذي يُصنّع صوراً جميلة وموسيقى جميلة، ثم يغلفها ويوصلها إلى المنازل. بسببه تبقى إريكا في البيت بقاءً شبه دائم.
(…)
مهنة إريكا هي عشقها: الموسيقى (…).
تملأ الموسيقى كل وقت إريكا. لا مكان لوقت آخر لديها. لا شيء يثير البهجة مثل حفل موسيقي راقٍ، يعزف فيه أمهر الموسيقيين.
(…)
تعلن الأم أن إريكا تعجبها هكذا كما هي. لن تصبح بالتأكيد شيئاً أفضل. كان في إمكانها – وهو ما توفره إمكاناتها بسهولة لو كانت وثقت بي وحدي، بأمها – أن تصبح عازفة بيانو ماهرة تتعدى شهرتها حدود بلدها. غير أن إريكا كانت في بعض الأحيان – رغماً عن إرادة الأم – عرضةً للتأثيرات الخارجية، لحب مُتَخيَّل يكنّه رجل، ومعه تشتت ذهنها عن الدراسة، مظاهر خارجية مثل أدوات التجميل والملابس تجعل الرءوس القبيحة تلتفت إليها، وهكذا انتهى مستقبلها المهني قبل أن يبدأ فعلاً.
ولكن المرء يمتلك بالتأكيد شيئاً أكيداً: وظيفة مدرِّس بيانو في كونسرفتوار مدينة ڤيينا. حتى في سنوات التعلم والتدرب لم تجد نفسها مجبرة على الذهاب إلى إحدى تلك المدارس الموسيقية الصغيرة النائية، حيث يلفظ كثيرون أنفاسهم الشابة، بظهور منحنية وقامة مغبرة – سرب عابر، سريع الزوال، تابع للسيد المدير.
فقط هذا الزهو بالذات. الزهو الملعون. زهو إريكا جعل حياة الأم جحيماً، وزرع الشوك في عينيها. هذا الزهو هو الشيء الوحيد الذي على إريكا أن تتعلم التخلي عنه شيئاً فشيئاً. اليوم أفضل من الغد؛ لأنه يمسي مع الشيخوخة الواقفة على عتبة الباب عبئاً ثقيلاً. والشيخوخة في حد ذاتها عبء كاف. إريكا! هل كان عباقرة تاريخ الموسيقى مصابين بآفة الزهو؟ كلا، لم يكونوا. الشيء الوحيد الذي على إريكا أن تتخلى عنه هو الزهو. وإذا اقتضت الضرورة فستقوم الأم بإزالة كل النتوءات البارزة في شخصية إريكا حتى تصبح ملساء لا يعلق بها شيء زائد.
وهكذا تحاول الأم اليوم أن تنتزع من أصابع ابنتها المتشنجة الفستان الجديد، لكن هذه الأصابع متدربة خير تدريب. اتركيه، تصرخ الأم، أعطني إياه! لا بد من معاقبتك على طمعك وشهوة المظاهر عندك. حتى الآن أوقعت الحياة عليك عقوبة التجاهل، والآن ها هي أمك تعاقبك بالتجاهل أيضاً، على رغم أنك تتبهرجين وتضعين الألوان على وجهك مثل مهرج. أعطني الفستان!
تندفع إريكا فجأة تجاه خزانة ملابسها. تلبستها شكوك مظلمة، تأكدت صحتها من قبل مرات عدة. هناك شيء اختفى اليوم مثلاً، وتحديداً التايير الخريفي الرمادي الغامق. ماذا حدث؟ في الثانية التي تلاحظ فيها إريكا أن شيئاً غير موجود، فإنها تعرف أيضاً من المسؤول عن ذلك. إنه الشخص الوحيد المحتمل. يا بنت الذين، يا بنت الذين، تزأر إريكا في وجه السلطة الأعلى منها وهي تستشيط غضباً، ثم تنشب أظفارها في شعر الأم المصبوغ باللون الأشقر الداكن الذي غزاه الشيب عند الجذور. الكوافير أيضاً أسعاره غالية، ومن الأفضل ألا يذهب المرء إليه. مرة في الشهر تقوم إريكا بصبغ شعر أمها. إريكا تنتف الآن الشعر الذي جمّلته يداها. أخذت تشده والغضب يتملكها. الأم تصرخ وتبكي. وعندما توقفت إريكا عن الشد، وجدت يديها مملوءتين بخصلات الشعر، فتتطلع فيها صامتة مندهشة. لقد كسرت الكيمياء مقاومة هذا الشعر، والطبيعة أيضاً لم تصنع منه يوماً تحفة فنية. لم تعرف إريكا على الفور ماذا تفعل بهذا الشعر. وأخيراً تذهب إلى المطبخ، وتلقي في صندوق القمامة خصلات الشعر الداكنة التي مرت بمحاولات صباغة كثيرة فاشلة.
بشعرٍ أقل تقف الأم منتحبةً في غرفة المعيشة التي كثيراً ما تقدم فيها إريكا حفلاتها الموسيقية الخاصة، حيث تكون أفضل الجميع، لأن أحداً لم يسبق له أن عزف على البيانو في هذه الغرفة على الإطلاق. ما زالت الأم تمسك بيديها المرتعشتين الفستان الجديد. إذا كانت تريد أن تبيعه، فلا بد من أن تسرع، لأن زهور الخشخاش هذه، التي تشبه في حجمها رءوس الكرنب، لن تلبسها المرأة سوى عام واحد، وبعد ذلك لن ترتديها أبداً. تشعر الأم بألم في رأسها حيثما فقدت خصلات الشعر.
ترجع الابنة وهي تبكي من الانفعال. تسبُّ الأم وتصمها بالحقارة والدناءة، وفي الوقت نفسه تأمل بأن تتصالح معها سريعاً، بقبلة حنونة. تتمنى الأم قطع يد إريكا التي ضربتها ونتفت شعرها. يتعالى نحيب إريكا تدريجاً، لأنها تشعر الآن بالندم والأسف من أجل الأم التي تضحي بعظمها وشعرها. تشعر إريكا إثر كل ما تفعله ضد الأم بالأسف. لأنها تحب أمها التي تعرفها منذ نعومة أظفارها.
في النهاية تلطِّف إريكا – كما هو متوقع – من حدة نبرتها، بينما راحت تنوح وتبكي بمرارة. بسرور، بكل سرور، تستجيب الأم وتلين، فلا يمكن أن تغضب على ابنتها غضباً حقيقياً. سأصنع قهوة لنشربها معاً. أثناء تناول القهوة يتزايد شعور إريكا بالتعاطف مع الأم، وتزدرد آخر بقايا غضبها مع قطعة الحلوى. تفحص الثقوب بين شعر الأم. لكنها لا تدري ماذا تقول، تماماً كما لم تدر ما تفعله بخصلات الشعر. مرة أخرى تشرع في سفح دمعات قليلة، كنوع من العناية المتأخرة؛ لأن الأم طاعنة في السن، ولأن حياتها ستنتهي وشيكاً. ولأن شبابها، وشباب إريكا أيضاً قد ولى إلى غير رجعة. وعموماً لأن هناك دوماً شيئاً يمضي، ونادراً ما يعقبه شيء.
تشرح الأم لابنتها الآن، لماذا ينبغي على البنت الجميلة ألا تتبهرج. توافق الابنة على ما تقول. هذه الثياب الكثيرة الكثيرة التي تعلقها إريكا في الخزانة، لأي غرض؟ إنها لا ترتديها أبداً. هذه الثياب معلقة بلا فائدة، فقط من أجل زينة الخزانة. لا تستطيع الأم أن تمنع دوماً عملية الشراء، ولكن ارتداء الثياب يدخل في حيز سلطتها. الأم تقرر المظهر الذي تخرج به إريكا من البيت. لن تخرجي هكذا من البيت، تقرر الأم؛ لأنها تخشى أن تخطو إريكا بهذه الثياب منازل غريبة تلتقي فيها رجالاً غرباء. إريكا نفسها توصلت إلى قرار بعدم ارتداء ملابسها. من واجب الأم مساعدة الأبناء على اتخاذ قرار، حتى لا يتخذوا قرارات خاطئة.
(…)
تتناول إريكا الفستان المسكين، وهي ما زالت تنتحب، ثم تضعه على ذراعيها، وتعلقه مغمومة صامتة في الخزانة بجانب الملابس الأخرى: (بِدَلْ، جيبات، معاطف، تييرات). إنها لا ترتدي أبداً أياً منها. على الملابس فقط أن تنتظرها هنا إلى أن تعود في المساء إلى البيت. عندئذ تخرجها، وتضعها أمام جسمها، وتتأملها: إنها ملكها! صحيح أن باستطاعة الأم أن تنتزعها منها، وتبيعها، لكنها لا تستطيع أن ترتديها بنفسها؛ فبدانة الأم تحول للأسف دون أن تدخل في هذه الملابس الرشيقة. الثياب ليست على مقاس الأم. إنها تملكها كلها. تملكها. ملك إريكا. لم يحدس الفستان بعد بأن وظيفته في الحياة قد انتهت. من دون أن يستخدم سيُبعد إلى الخزانة، ولن يخرج منها أبداً. لا تريد إريكا سوى ملكيته والفرجة عليه. إنها لا تريد حتى ارتداءه على سبيل البروفة، يكفي أن تمسك أمامها بهذه القصيدة من قماش وألوان، وأن تحركها في خفة. وكأن نسمة ربيعية تسري فيها. في البوتيك، قبل قليل، ارتدت إريكا الفستان الذي لن ترتديه بعد الآن. إنها لم تعد تستطيع حتى تذكر تلك الجاذبية العابرة التي انبعثت من الفستان في المحل. كل ما تملكه الآن هو جثة جديدة من الثياب، إلا أنها تمتلكها على كل حال.
(…)
البؤس في الموضوع هو أن عمليات شراء الثياب تطيل المهلة إلى غير نهاية، حتى ينتقلا إلى الشقة الجديدة، وإريكا ستكون دوماً في خطر أن يلتف حول عنقها رباط حب. وفجأة تجد قنبلة ذكورية موقوتة. غداً، على الإفطار، ستتلقى إريكا بالتأكيد تحذيراً صارماً بسبب رعونتها وطيشها. كان يمكن أن تموت الأم بالأمس من جراء الجروح في رأسها، من الصدمة. ستحصل إريكا على مهلة للدفع، عليها أن تعطي المزيد من الدروس الخصوصية.
لحسن الحظ، فإن المجموعة البائسة ينقصها فستان زفاف. لا تتمنى الأم أن تغدو (أم العروسة). تريد أن تبقى أماً عادية. إنها تتواضع وتكتفي بهذه الصفة.
لكن اليوم هو اليوم. والآن لا بد أخيراً من النوم! هكذا تطلب الأم وهي راقدة على فراش الزوجية. إلا أن إريكا ما زالت تحوم حول المرآة. الأوامر تصيبها كالرماح في ظهرها. بسرعة تتحسس مرة أخرى فستاناً أنيقاً لفترة ما بعد الظهر، بزهور على حافته. لم تتنفس هذه الزهور يوماً هواء طلقاً، كما أنها لا تعرف الماء. اشترت إريكا الفستان، كما تؤكد، من أرقى محلات الموضة في وسط المدينة. جودة ستعيش إلى الأبد، أما المقاس المناسب فيتوقف على جسم إريكا. لا تفرطي في الحلوى والمعجنات! من أول نظرة إلى الفستان تولدت لدى إريكا رؤية: سألبسه سنوات عدة، من دون أن يحيد قيد أنملة عن مكانه في مركز الموضة. سيحافظ الفستان سنوات طويلة على مكانته في الموضة! تُنقل هذه الحجة عبثاً إلى آذان الأم. لن يصبح الفستان أبداً موضة قديمة. على الأم أن تفحص قلبها بصرامة لتجيب عن السؤال الآتي: ألم ترتدِ يا أماه في شبابك فستاناً على هذا النحو؟ الأم تنفي ذلك مبدئياً. لكن إريكا تصل مع ذلك إلى أن شراء الفستان كان عملية مربحة، لأن الفستان لن يتقادم أبداً، وسترتدي إريكا الفستان بعد عشرين عاماً كما ترتديه اليوم.
الموضة تتغير سريعاً. والفستان يظل في مكانه من دون أن يرتديه أحد، ولكن في أفضل حال. بيد أن أحداً لا يجيء ويطلب رؤيته. أفضل أيامه مرت من دون فائدة، ولن تعود ثانية، وإذا عادت، فلن يحدث ذلك قبل عشرين عاماً.