هناك ما يشبه الاقتناع العام بوجود قطيعة بيننا نحن القرَّاء من جهة والشعر بشكل عام وخاصة المعاصر منه. ومن دون الغوص في صحة الأمر وتفاصيله، ترتسم دوماً علامة استفهام حول ما إذا كانت هذه الحالة الثقافية خاصة بنا، أم ان لها ما يشبهها.
القافلة حملت إلى الشاعر الأمريكي دانا دجويا مؤلف كتاب أما زال للشعر مكانة؟ السؤال عن حال الشعر المعاصر في أمريكا، وما إذا كان الأمريكيون يقرأون الشعر ويتابعونه كما يقرأون القصة ويتابعون مختلف النتائج الثقافية. وجاء جواب الشاعر والكاتب الأمريكي في مقالة جامعة لمختلف جوانب هذه القضية كان قد كتبها سابقاً، وخصَّ القافلة بأن أضاف إليها التحولات التي طرأت على الشعر الأمريكي في الآونة الأخيرة، وبعدد من الملاحظات التي لم يسبق نشرها. وتكشف هذه المقالة، التي ترجمها هنا أحمد عثمان، وجود طلاق شبه تام ما بين الشعر المعاصر في أمريكا والجمهور العام، وتتضمن تحليلاً في عمق الأسباب التي أدت إلى هذه الحالة، ويمكن للقارئ العربي أن يستشف منها الكثير من نقاط توضيح أزمته هو مع الشعر والشعراء المعاصرين, التي سنتناولها في العدد المقبل.
المقالة التي أكَّدت جدارة الشعر بالنقاش
لم يتوقع أحد رد الفعل الهائل الذي أحدثه بحثي أما زال للشعر مكانة؟ . كنت ببساطة أحاول أن أتناول العزلة المتنامية التي تصيب الشعر الأمريكي في إطار الثقافة الأمريكية. لم يحظ أي مقال، عن أي موضوع، في تاريخ مجلة أتلانتيك مانثلي الطويل، بهذا العدد من الرسائل. وكانت غرابة المقدار والزخم، في رد فعل الجمهور على بحثي، أكان إيجابيا أم سلبيا، غرابة مدهشة، دفعتني إلى وضع الكتاب: أما زال للشعر مكانة؟
فتح البحث الباب لحوار عام في شأن الشعر الأمريكي، أمام عدد كبير من القراء والكتاب الذين كانوا يشعرون في الماضي أنهم مبعَدون. عندما يشترك عدد كبير من الناس الجدد، في حوار ما، ولا سيما إذا كانوا من شرائح اجتماعية لم تكن ممثلة من قبل، فإنهم يطرحون أسئلة جديدة. فإذا أصررنا على القول إن الشعر المعاصر كان له جمهور خارج الإطار الجامعي، فإن كتاب أما زال للشعر مكانة؟ ، استدعى عددا من المشاركين الجدد، من شعراء جَلَبَة المدن، إلى شعراء رعاة البقر، وكذلك الشعراء من جميع المنابت والمشارب الشعرية، إلى الانضمام للحوار.
فإذا كانت قيمة البحث أنه وسّع الحوار العام وأحياه، في موضوع الشعر الأمريكي، فإن للرفض القاطع الذي لقيه البحث في بعض المجموعات الأكاديمية، قيمة مساوية، لما لقيه من تأييد في مواقع أخرى. وفي النهاية، ظهر أن القضايا نفسها التي نوقشت أٌقل قيمة للثقافة الأمريكية، من الحقيقة غير المتوقعة، وهي أن الشعر أثبت فجأة أنه جدير بأن يكون موضع نقاش.
لقد شهد العقد التالي تطوران أساسيان في الشعر الأمريكي. أولا بدأ الشعر يزدهر خارج الجامعة، ثانيا أخذ ينتشر لدى جمهور أوسع – لا سيما في الإذاعات ومتاجر الكتب والمكتبات أو المقاهي. وقد غير هذان التبدلان عالم الأدب تغييرا جذريا.
بدأت مناهج الكتابة في الجامعات تفقد احتكارها الشعر المعاصر، وأدى هذا إلى بعث الحياة من جديد في تقديم الشعر الأمريكي ومناقشته.
فلو كان كتابي لعب دور قطب اجتذاب في هذا المسار، أو كان مجرد تعبير مبكر فقط عن الطور الثقافي الذي أعقبه، فإن أحدا اليوم لا يجرؤ على الادعاء أن الشعر الأمريكي لا يهم.
نوفمبر 2007
ينحصر الشعر الأمريكي الآن ضمن دائرةٍ ضيقة مكونة من فريقٍ صغيرٍ منعزل من الاختصاصيين، وقد خسر مكانه على مسرح الحياة الفنية والثقافية. ويستعر نشاط الشعراء الأمريكيين ضمن دائرتهم النخبوية الضيقة، ويكاد لا يصل إلى الجمهور خارج هذه الدائرة.
الغريب في هذا الوضع هو كونه يحصل في آونةٍ تشهد توسعاً ضخماً للشعر؛ إذ ان هناك غزارة غير معهودة اليوم في طباعة الدواوين والمجلات الشعرية، والنقد المطبوع الذي يعالج قضايا الشِّعر المعاصر يملأ صفحات الدوريات الأدبية والجرائد اليومية الجامعية، كذلك لم يعد كسب القوت مهمةً مستحيلة للشعراء كما كان قبلاً. في مجال تدريس الأدب وحده، هناك الآن بضعة آلاف مهن جامعية، وأكثر من ذلك بكثير على المستوى المدرسي في المراحل المتوسطة والثانوية. حتى الكونغرس الأمريكي أوجد منصب الشاعر القومي، وفعلت ذلك خمس وعشرون ولاية. وزد على ذلك أن الشعراء يحظون بوابلٍ من التمويل العام، إضافة إلى الدعم الخاص الآتي في هيئة المنح والجوائز وإجازات الاعتكاف المدفوعة.
هناك طفرة مذهلة في الشعر وبرامجه الدراسية: قرابة ألف ديوان شعري جديد يُطبع كل سنة، فضلاً عن طوفان من القصائد الجديدة تُنشر في مجلات صغيرة وكبيرة. لا أحد يعلم تماماً عدد أمسيات الشعر التي تجري كل سنة، لكن الأكيد أن عددها يتجاوز عشرات الألوف. هناك أيضاً ما يفوق المئتي برنامج ماجستير في مادة الأدب في جامعات الولايات المتحدة، وأكثر من ألف برنامج إجازة في المادة نفسها. هذه البرامج تخرِّج ما معدله عشرة تلاميذ في شعبة الماجستير الواحدة، وهي بمفردها كفيلة بإنتاج حوالي عشرين ألف شاعرٍ مختص على امتداد السنوات العشر المقبلة. ومن يطالع إحصاءاتٍ كهذه قد يستنتج بسهولة أننا نحيا العصر الذهبي للشعر الأمريكي.
لكن، للأسف لم يتعدَّ الانفجار الشعري هذا حدود دائرته الضيقة. لقد شكَّلت عقودٌ من التمويل العام والخاص طبقةً اختصاصيةً كبيرةً لإنتاج الشعر وتلقيه، مكونةً من فيالق من الأساتذة وتلاميذ الماجستير والمحررين والناشرين والمديرين. هذه المجموعات قائمة أساساً في الجامعات، وقد أصبحت تدرجاً هي الجمهور الرئيس للشعر المعاصر. تبعاً لذلك فإن طاقة الشعر الأمريكي -التي كانت فيما مضى موجَّهة نحو المجتمع- توجَّه الآن بشكل متزايد بعيداً عنه. كذلك يبقى توزيع الجوائز ضمن حلقة الشعر الضيقة. وهناك قولٌ معروفٌ أكاديمياً لراسل دجايكوبي مذكور في كتابه آخر المثقفين، أرغب في تحويره الآن بحيث أقول إن الشاعر المشهور الآن يعني شخصاً مشهوراً فقط بالنسبة لشعراء آخرين، علماً بأن شعراء اليوم كثر بشكل يجعل شهرة محلية كهذه شهرة ذات قيمة معقولة. في زمنٍ ليس ببعيد، كانت مقولة لا يقرأ الشِّعر سوى الشعراء تُقصد نقداً مخزياً، أما الآن فهي وسيلةٌ تسويقية مضمونة.
مثل الجواميس البرية..
للاستعراض لا للأكل
للقارئ العادي، لا نقول جديداً عندما نتكلم عن انحسار جمهور الشعر، وكون دائرة الشعر والشعراء ترفض طرحاً كهذا ما هو إلا دلالة على عزلتها الحالية. فبدل الاعتراف بوجود مأزق، يتلو مدَّاحوا الشعر إحصاءات النمو في المطبوعات والبرامج الدراسية والتخصصية، كما لو كانوا ممثلي غرفة التجارة والأعمال البرناسية أيام الإغريق. الإحصاءات الدالة على توسع الشعر المادي هائلة، فكيف يستطيع المرء أن يظهر أن تأثيره الفكري والروحي قد تآكلا؟ من غير الممكن إظهار هذا بالأرقام، لكن لم يعد هناك من مفر من البراهين التي يقدمها عالم الأفكار والنصوص بهذا الصدد.
لم تعد الجرائد اليومية تنقد الشعر. هناك، في الواقع، ندرة في تغطية الصحافة الإجمالية للشعر والشعراء. فمنذ عام 1984م تخلَّت لجنة جوائز الكتاب الوطني عن فئة الشعر. ولا أحد ينقد الشعر إلا الشعراء. والمجموعات الشعرية المعاصرة تكاد تختفي عدا تلك التي هي من النوع الديواني، أي التي تستهدف جمهوراً أكاديمياً. وباختصار، يبدو وكأن الجمهور الواسع الذي لم يزل يتابع الأدب القصصي إنما يكاد لا يلحظ وجود الشعر؛ فالقارئ المألوفة عنده روايات جويس كارول وايتس ودجون آيدايك ودجون بارت قد لا يلحظ حتى أسماء غويندولين بروكس وغاري سنايدر وسنودغراس.
وباستطاعة المرء أن يلمح نموذجاً تمثيلياً لحال الشعر اليوم في جريدة نيويورك تايمز؛ إذ يكاد نقد الشعر في أعدادها اليومية أن ينعدم، بينما يُناقش الشعر بشكل متقطع في ملحق بوك ريفيو الصادر كل أحد، إنما دوماً ضمن مراجعات جامعة حيث تُنقد ثلاثة كتب معاً وباختصار. فيما تُراجع الرواية أو السيرة الصادرة حديثاً يوم إصدارها أو عقبه، قد تضطر مجموعة شعرية جديدة لشاعر مهم من وزن دونالد هول أو دايفيد إغناتو أن تنتظر ما يقارب السنة ريثما تُلحظ، وقد لا تراجع بالمرة. كتاب التغيُّر المجنَّح لهنري تايلور لم يُنقد إلا بعد نيله جائزة بولتزر. وكتاب حركات غير مرئيَّة لرودني دجونز نُقد بعد أشهر من نيله جائزة حلقة نقَّاد الكتاب الوطنية. أما كتاب توماس وبيولا لريتا دوف، الذي حاز جائزة بولتزر بدوره، فلم تراجعه التايمز البتة.
ليست حال نقد الشعر في باقي المنشورات بأفضل من هذا، وعموماً هي أسوأ من ذلك بكثير. وما حالة نيويورك تايمز إلا صورة للرأي السائد بأنه على الرغم من وجود الشعر بكثرة في كل مكان، إلَّا أن أياً منه لا يعني شيئاً للقراء والناشرين والمعلنين أو أياً كان، ما عدا الشعراء أنفسهم. فعند معظم الجرائد والمجلات، بات الشعر سلعة أدبية معدة لغرض أن يُقبل بها، لا لأن تُقرأ، وهو في ذلك مثل الجواميس البرية التي يحتفظ بها مالكو المزارع الأثرياء في ولاية مونتانا الأمريكية – لا بغرض أكلها، وإنما لاستعراضها حسب تقاليد المنطقة.
كيف انحسر الشعر؟
الجدال المتعلق بتدني أهمية الشعر الثقافية ليس جديداً، إذ انه يعود في النصوص الأمريكية إلى القرن التاسع عشر. لكن بالإمكان القول إن بداية النقاش الحديث كانت في عام 1934م، عندما نشر إدموند ويلسن مقالته المثيرة للجدل هل الشعر تقنية محتضرة؟ . لاحظ ويلسن عبر دراسة التاريخ الأدبي أن دور الشعر قد ضاق تدرجاً منذ القرن الثامن عشر. وأن النثر اغتصب معظم ميادين النظم الثقافية. لم يعد هناك في نهاية الأمر من خيار أمام الكاتب الطموح فعلاً إلا أن يكتب نثراً. مستقبل الأدب العظيم -كما تحدس ويلسون- واقعٌ بشكلٍ شبه كامل بين يدي النثر.
كان ويلسن أول محلل قدير للاتجاهات الأدبية. وضع تحليله القواعد الرئيسة لكل مناصري الشعر الحديث اللاحقين، كذلك أقام نقطة الانطلاق لمحطِّمي رموز الشعر التالين من دلمور شفارتس إلى كريستوفر كلاوزن. أقرب هؤلاء الإصلاحيين زمنياً إلينا، وأكثر واحدٍ محتفى به بينهم، هو جوزف إبستاين، مؤلف مقالة النقد الحادة من قتل الشعر؟ التي ظهرت أول مرة في جريدة كومينتاري عام 1988م. يتعمد عنوان مقالة إبستاين أداء عهد الولاء لمقالة ويلسن عبر أمرين- الأول هو تقليد صيغة الاستفهام في العنوان الأصلي، والثاني هو استعمال استعارة الموت الخاصة به.
من حيث الجوهر، حدَّث إبستاين نظرية ويلسن، ورأى إبستاين أن المحدثين كانوا فنانين عاملين انطلاقاً من الرؤية الثقافية العريضة، في حين أن الكتَّاب المعاصرين هم اختصاصيو شعر يشتغلون ضمن عالم الجامعة المغلق. وبينما لام ويلسن العوامل التاريخية على مأزق الشعر، وجَّه إبستاين إصبع الاتهام إلى الشعراء أنفسهم والمؤسسات التي أسهموا بخلقها، وبشكلٍ خاص إلى برامج الأدب. إبستاين مجادلٌ بارع، وقد قصد أن تكون مقالته تحريضية، ومقالته فعلًا أشعلت انفجاراً نقدياً، إذ لم يولِّد أي مقال حديث حول الشعر الأمريكي ردوداً مباشرة في المجلات الدورية الأدبية كما فعل مقال إبستاين. ومن جهةٍ أخرى، لم يجذب أي مقالٍ نقداً سلبياً عنيفاً من مجتمع الشعراء كما فعل هذا المقال، إذ نشر ثلاثون كاتباً على الأقل حتى الآن ردودهم. كذلك نشر الكاتب هنري تايلور تفنيدين لهذا المقال.
وحساسية الشعراء تجاه الآراء القائلة بتدني أهمية الشعر مفهومة، لأن الصحافيين والنقاد قد استخدموا هذه الآراء لكي يقولوا إن الشعر إجمالًا لا يقدم ولا يؤخر. أضف إلى ذلك أن معرفة الناقد بالشعر، كلما قلَّت نبذه براحة ضميرٍ أكبر. ولا أعتقدها مصادفة أن أنجح مقالين كُتبا في موت الشعر المفترض كتبهما ناقدا قصة ذكيان، دون أن يكون أي منهما قد كتب بتوسع حول الشعر المعاصر.
قد يكون مبكراً الحكم الآن على دقة مقال إبستاين، لكن مؤرخاً أدبياً قد يجد توقيت مقال ويلسن غير ملائم. إذ بينما أنهى ويلسن مقاله الشهير، كان روبرت فروست ووالاس ستيفنز وتي إس إليوت وإزرا باوند وماريان مورو وإي إي كامنغز وروبنسون دجيفيرز وهيلدا دوليتل وروبرت غرايفز ودبليو ايتش أودن وآرتشيبالد كاكلايش وبايزل بانتنغ وغيرهم يكتبون بعض أجود قصائدهم المحيطة بدوائر التاريخ والسياسة والاقتصاد والدين والفلسفة، وهي من أكثر النتاجات شموليةً في تاريخ الإنجليزية. وفي الوقت ذاته، كان هناك جيلٌ جديد ضم روبرت لوويل وإليزابث بيشوب وفيليب لاركن وراندل دجارك وديلان توماس وآي دي هوب وغيرهم، يشقّ طريقه إلى الكلمة المطبوعة. ويلسن نفسه اعترف لاحقاً بأن بروز شاعرٍ جامعٍ وطموح مثل أودن ناقض عدة نقاط في نظريته، لكن وإن كانت توقعات ويلسن ناقصة الدِّقة أحياناً، فإن حسه بحال الشعر الإجمالية كان للأسف محقاً. حتى وإن كان الشعر لايزال يكتب، فإنه قد انسحب من دائرة الضوء، وبالرغم من وجود صحابة مخلصة تدعمه، إلَّا أنه خسر ثقته بصفته متحدثاً مع الثقافة العريضة وإليها.
داخل الحلقة الشعرية
يرى المرء براهين على ضمور قامة الشعر حتى ضمن حلقتها المزدهرة. طقوس عالم الشعر – مثل القراءات والمجلات الصغيرة والمشاغل والمؤتمرات -تحدُّ ذاتها بذاتها بشكلٍ مفاجئ. إذ يتكون البرنامج في معظم القراءات من الشعر فقط- وغالباً ما يقتصر هذا على نظم شاعر الليلة. فمنذ أربعين عاماً، عندما كان ديلان توماس يقوم بقراءة ما، كان يصرف نصف البرنامج قارئاً عمل شعراء آخرين. وتوماس لم يكن رجلاً متوارياً، على أنه كان متواضعاً فيما كان يختص بفنه، بينما نجد اليوم أنَّ احتفاء معظم القراءات بشخص الشاعر هو أكثر من احتفائها بالشعر ذاته. ولا عجب إذن في كون جمهور هذه المناسبات مؤلفاً عادةً بشكلٍ كامل من الشعراء، والشعراء الطامحين، وأصدقاء الشاعر.
توجد اليوم بضع عشرات من المجلات الدورية التي تعنى فقط بالشعر، وهي لا تنشر النقد الأدبي، وإنما فقط صفحات تلو صفحات من القصائد حديثة السك. يفجع القارئ برؤية هذا العدد الكبير من القصائد محشورة سوياً هذا الحشر، الأردأ من حال المهاجرين في دور البواخر السفلية الرخيصة. من السهل أن يفوِّت المرء على نفسه قصيدة نضرة وسط عدة قصائد باهتة اللون، وذلك لأن قراءة المجلات هذه بيقظة تتطلب جهداً، وقلة من الناس يكلِّفون أنفسهم العناء لهذا (ولا حتى المساهمين أنفسهم يقومون بهذا إجمالًا). باختصار، فإن اللامبالاة التي يواجه بها الإعلام العام الشعر قد خلقت وحشاً من نوعٍ معاكس- هو المجلات الدورية التي تفرط في حب الشعر دون تعقل.
حتى ثلاثين عاماً خلت، كان الشعر المنشور في المجلات غير المتخصصة يعالج مدىً متفاوتاً من الموضوعات. وكان الشعر يتنافس على اهتمام القارئ مع السياسة والفكاهة والقصة والنقد. والقصيدة التي لم تكن تتمكَّن من إثارة اهتمام القارئ لم تكن تعد قصيدة فعلاً.
واليوم، لاتزال بعض المجلات العامة الموضوعات مثل ذا نيو ريبابلك و ذا نيو يوركر تنشر الشعر في كل عدد لها، لكن -وهذا أمرٌ خطير- لم تعد أي مجلة تنقد الشعر دورياً عدا ذا نايشن . ويحضر الشعر في حفنة من المجلات الصغيرة والفصلية التي تناقش باستمرار عدة موضوعات ثقافية مع قرَّاء غير متخصصين. لكن معظم الشعر إنما ينشر في المجلات الدورية التي تتوجه إلى جمهور منعزل من المحترفين الأدبيين مكوَّن أساساً من أساتذة الأدب وتلاميذهم. والقليل من هذه المجلات، لديها توزيع مرتفع إلى حد ما، أما معظمها فمن المجلات القليلة التوزيع. على أن الحجم ليس هو المشكلة. المشكلة هي ارتضاء أو تسليم هذه المجلات بوجودها داخل حلقة محصورة ومن أجلها فقط.
ما هي صفات المنشورة الخاصة بثقافة الشعر الفرعية اليوم؟ أولاً، الموضوع الوحيد الذي تعالجه هو الأدب الأمريكي الحالي. ثانياً، لو حصل ونشرت شيئاً غير الشعر، يكون هذا الشيء عادةً من القصة القصيرة. ثالثاً، لو حصل ونشرت نقداً، تكون المقالات والمراجعات إيجابية بشكل عارم. رابعاً، لو حصل ونشرت مقابلة، تكون النبرة التي يتوجه المحاور بها إلى الشاعر مُجِلَّةً بشكل فاضح. ولا يبذل النقاد إجمالًا جهداً في تخبئة أواصر العلاقات الشخصية الواضحة بينهم وبين الشعراء الذين يناقشونهم. ولو نُشر نقدٌ سلبي بين الحين والآخر، يكون هذا النقد تعنتاً استعراضياً، رافضاً جمالية تكون المجلة قد سبق واستردأتها قبلاً. باختصار، يبدو وكأن قانون التحرير غير المحكي هو التالي: لا تفاجئ أو تزعج القرَّاء أبداً، إذ انهم، في نهاية الأمر، أصدقاؤنا وزملاؤنا.
فضلاً عن ذلك، وعلى حد تعبير روبرت بلاي في كتابه الشعر الأمريكي: الجموح والتدجين فإن معظم دواوين الشعر المعاصر الجديدة يتلبسها جو النادي الخاص. رغم أن المجموعات الشعرية هذه تقدِّم نفسها على أنها دليلٌ أهلٌ للثقة إلى أفضل ما في الشعر الجديد، إلا أنها ليست مجموعة من أجل القراء خارج الأكاديمية، وذاك لأن أكثر من محرر واحد اكتشفوا أن أفضل طريقة لإدراج مجموعاتهم الشعرية في البرامج الدراسية هي إدراج قصائد للشعراء الذين يدرِّسون الصفوف في هذه البرامج. العديد من هذه المجموعات مجمَّع إذًا بانتهازية، ويعطي انطباعاً بأن القيمة الأدبية ليست بمبدأ على المحرر والقارئ أخذه بكثير من الجد.
ومثالاً على ذلك، فإن ديوان موروو للشعراء الأمريكيين الشُّبَّان الصادر عام 1985م ليس مجموعة أدبية انتقائية بقدر ما هو دليلٌ شاملٌ بأساتذة الأدب (حتى أنه يضع صورة لكل شاعر). وعلى امتداد ثمانمئة صفحة، يقدِّم هذا الديوان ما لا يقل عن مائة وأربعة شعراء، يدرِّس جميعهم الإنشاء إجمالاً. والمبدأ التحريري المتعلِّق بالانتقاء يبدو وكأنه كان الخشية من نسيان أي زميل ذي نفوذ. يحوي هذا الكتاب بالفعل قصائد متينة ومبتكرة، على أنها محاطة بكثير من التمارين الشعرية ناقصة الطعم والرائحة، إلى حد يسأل المرء معه إذا كانت الأعمال الجيدة قد وصلت إلى الكتاب عن سابق تصور وتصميم أو بمحض الصدفة. ويشك المرء في أن الكتاب لم يكن مقصوداً به أن يُقرأ أصلاً، بل أن يُعيَّن فقط تعييناً.
والمسألة هنا هي أن الحلقة الشعرية لم تعد ترى أن كل القصائد ستُقرأ. فبكل بساطة، وأسوةً بزملائهم في باقي الفروع الأكاديمية، على محترفي الشعر أن ينشروا نتاجاً لغايات تأمين العمل وتحسين مساره: كلما زاد نتاجهم المنشور، سَرُع تقدمهم المهني، وإذا لم ينشروا، أو إذا انتظروا وقتاً أطول مما يلزم، أصبح مستقبلهم في خطر.
على امتداد الثلاثين سنة الماضية، لم تكن الطفرة في المنشورات والمجلات الدورية الأدبية استجابةً لطلب الجمهور بقدر ما كانت حاجةً يائسة لأساتذة الكتابة لكي يُصدَّق مهنياً على كفاءاتهم المهنية. ومثل الزراعة الممولة التي تُنبت طعاماً لا يرغب فيه أحدٌ، خُلقت صناعة شعرية تخدم مصالح المنتجين لا المستهلكين.
يكسب الشاعر الجديد رزقه لا بنشره أعماله الأدبية وإنما بتأمينه خدمات تدريس خاصة. الأرجح أنه يعمل أو يطمح للعمل في مؤسسة كبيرة – غالباً ما تكون مؤسسة تابعة للولاية؛ مدرسة مقاطعة مثلاً، أو كلية، أو جامعة (وأخيراً حتى في مستشفى أو سجن) – مدرساً للشعر، أو في أعلى المستويات، مدرساً لمدرسي الشعر.
في نظرة محض اقتصادية إلى المسألة، لقد تغرَّب معظم الشعراء المعاصرين عن وظيفتهم الثقافية الأصلية. فقد أدى التغير الاقتصادي-الاجتماعي إلى ثقافة أدبية منقسمة ما بين فيض عجيب للشعر داخل طبقة واحدة، وفقر مدقع خارجها.
وقد كان لطلاق الشعر من القارئ المتعلم نتيجة أخرى أشد فتكاً: عندما يرى القرَّاء -حتى المحنكون منهم أمثال جوزف إبستاين- القدر الهائل هذا من النظم الوسط، ليس فقط منشوراً بل أيضاً ممدوحاً، يفترضون أن ليس هناك من جديد ذي قيمة ينظم. قلة الثقة العامة هذه هي البعد النهائي لعزلة الشعر بصفته شكلاً من أشكال الفن في المجتمع المعاصر.
غير أن الشعراء الموهوبين هم بلا دور في الثقافة الأوسع، وتنقصهم بالتالي الثقة المطلوبة لخلق خطاب عام. يحدث أحياناً أن يرتبط شاعر ما بحركة اجتماعية أو سياسية بشكل مثمر. ريتش، مثلاً، استخدمت حركة المساواة النسائية لتوسيع نطاق شعرها، وروبرت بلاي كتب أجود ما كتب ليعترض على حرب فيتنام، حتى أن حاجته إلى مخاطبة جمهور كبير ومتفاوت أضافت حس النكتة والشمولية والإنسانية إلى نظمه الذي كان منضوياً ضمن المدرسة التقليلية قبل ذلك. غير أنه ليس من السهل أن تزوج الإلهام الشعري من السياسة زواجاً سعيداً. من هنا يقوم معظم الشعراء المعاصرين، وقد رؤوا أنهم لامرئيون تقريباً ضمن المحيط الأوسع، بالتركيز على أشكال حميمية أكثر من النظم الإحساسي والتأملي. (ويوجه بعض الوحدانيين أمثال اكس دجاي كينيدي ودجون آيدايك قريحتهم صوب الشعر الخفيف وشعر الأطفال، رغم سوء سمعة نوعي الشعر هذين). ينتج من ذلك أن الشعر الأمريكي الحديث، رغم كونه لم يتفوق في الشعر العمومي كالشعر السياسي أو الهجائي، قد أنتج قصائد شخصية ذات جمال وقوة غير مسبوقين، إنما عاجزة عن إيجاد جمهور خارج نطاق ثقافة الشعر الفرعية، وذلك لأن أداة الاتصال التقليدية -المؤلفة من النقد الصريح والدواوين الانتقائية- قد تفككت. والجمهور الذي جعل يوماً فروست وإليوت وكاسينغز وسيلاي جزءاً من رؤيته الثقافية يبقى اليوم بعيد المنال. وقد قال وولت وايتمان يوماً ليكون هناك شعراء عظماء، يجب أن يكون هناك جماهير عظيمة أيضاً ، إلا أن القول هذا يبدو اليوم وكأنه اتهام للجماهير غير العظيمة.
من البوهيمية إلى البيروقراطية
هوية اجتماعية جديدة
غالباً ما تنشئ الثقاقات الفرعية مؤسسات لها لكي تواصل نشاطها، خاصة إذا كان المجتمع العام لا يشاركها اهتمامها. وعندما كان الشعراء ينتمون إلى الطبقة الأوسع من الفنانين والمثقفين، كانت حياتهم متمركزة في مناطق تشردهم الحضري في أحياء غرينوتش فيلادج ونورث بيتش، كما كانوا مستقلين عن المؤسسات. لكنهم عندما بدأوا يتنقلون باتجاه الجامعات، تحولوا من طبقة عاملة مختلطة إلى طبقة احترافية أكاديمية متجانسة.
في بادئ الأمر ظهر الشعراء على هامش الأقسام الإنجليزية في الجامعات، الأمر الذي كان صحياً على الأرجح، وذلك لأنهم كانوا يُعدُّون مخلوقات خاصة، لكونهم بلا شهادات عالية أو مهن رسمية. أُتيح لهم -كما لو كانوا زعماء قبائل أصلية في زيارة لموقع تخييم عالم أجناس- أن يتصرفوا حسب قوانينهم الخاصة بهم. لكن طلب الأدب نما، وتوسع عمل الشعراء من المهام الأدبية البحتة ليشمل المهام الإدارية. كان هؤلاء الشعراء قد تدربوا على الشعر خارج المؤسسة الأكاديمية، غير أنهم، نزولاً على إلحاح المؤسسة الجامعية، قاموا بتصميم أول برامج مؤسسيَّة في التاريخ للشعراء الشباب، وقد صمموها على صورة الاختصاصات الجامعية الأخرى. كان الأدب صفوفاً هامشية تُدرَّس ضمن قسم الإنجليزية، فتطور ليغدو اختصاص إجازة أو برنامج ماجستير في ذاته. وتضاعفت أقسامه الجديدة، فصمم الاحترافيون الجدد محيطهم المهني -المكون من الألقاب المهنية والمجلات الدورية والاجتماعات السنوية والمؤسسات- لا بحسب معايير أحياء التشرد الحضري السابقة، بل بحسب معايير المؤسسات الدراسية. هكذا ولدت حلقة الشعر المعزولة.
لا شك في أن تضاعف برامج الأدب، على النحو الذي تضاعفت به، كان شيئاً مفرحاً في بادئ الأمر. إذ ان الشعراء الذين كانوا يكافحون للقمة عيشهم في أحياء التشرد، وجدوا أنفسهم فجأة وقد ضمنوا لأنفسهم وظائف ثابتة تدر دخلاً جيداً. هناك شعراء لم يكونوا في حياتهم قد حظوا باهتمام الجمهور فوجدوا أنفسهم محاطين بتلاميذ متلهفين لسماع ما سوف يقولونه. شعراء كانوا أفقر من أن يسافروا وجدوا أنفسهم مسافرين من حرم جامعة إلى آخر ومن مؤتمر إلى آخر، ومتكلمين أمام جماهير أقرانهم. كما قال اويلفرد شيد مرة، عبر شبكة الاتصال الجامعي، صار فجأة بإمكان المرء أن يعد نفسه شاعراً وطنياً، حتى وإن تبين أن الوطن هذا يتكون فقط من أقسام اللغة الإنجليزية في الجامعات . كان عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية مشرقاً، ووعد بنهضة للشعر الأمريكي.
اقتصادياً، تحقق الوعد هذا أكثر من أحلام أي كان من جيل بيريمان (وهو الجيل الذي عاش أزمة 1929م الاقتصادية)، إذ ان الشعراء يحتلون الآن مناصب في جميع مراحل عالم الدراسة. تراوح المناصب هذه بين المناصب ذات المعاش السداسي الأرقام، وبين المهمات السريعة ذات الدوام الجزئي والأكثر عدداً، والتي يوازي راتبها أجر الموظفين في مطعم برغر كينغ. لكن تدريس الشعر، حتى وإن كان بالحد الأدنى للأجور، يبقى أكثر إدراراً للمال مما كانت كتابته في أفضل أحوالها. قبل فورة الأدب، كان تكريس النفس للشعر يعني العيش في فقر. صحيح أن ذلك سبب الكثير من المعاناة الفردية للشعراء، إلا أن الشدائد هذه كانت مفيدة إذ أخافت الجميع من ممارسة الشعر، فلم يكن يمارسه إلا الفنانون الملتزمون فعلاً.
الشعر اليوم مهنة طبقة وسطى قابلة للارتقاء بعض الشيء. هي ليست مدرة للمال مثل معالجة النفايات أو طب التجميل مثلاً، لكنها في الوقت نفسه لم تعد مهنة بائسة. وحدهم غير المطلعين على الثقافة قد ينظرون بحنين إلى الماضي -البائس لحسن الحظ- عندما كان الشعراء فقراء. لكن في الوقت ذاته على أي مراقب أن يقر أن فتح مؤسسات سوق الشعر أمام كل المتقدمين وتوظيف الشعراء لكي يقوموا بشيء مختلف عن الكتابة، غير هوية الشاعر الاجتماعية والاقتصادية من فنان إلى مدرس. وتماثل الشاعر بهوية المدرس قد اكتمل على النطاق الاجتماعي؛ أول سؤال يطرحه أي شاعرٍ الآن على آخر عندما يتعارفا هو، أين تدرِّس؟ والمشكلة ليست في أن الشعراء يدرِّسون، إذ ان حرم الجامعة ليس مكاناً سيئاً ليدرِّس فيها شاعر، لكنه ليس بمكانٍ يدرِّس فيه كل الشعراء. يتكبد المجتمع الكثير بخسارة الخيال والحيوية اللذين كان الشعراء يضخونهما في الثقافة العمومية. ويتكبد الشعر الكثير عندما تُجبر المعايير الأدبية على التقيد بالمعايير المؤسسية.
عندما كان الناس مهتمِّين
لفهم عمق التغير الذي طرأ اليوم على شخص الشاعر الأمريكي، ما على المرء إلا مقارنة حال اليوم بما كان قبل ستين عاماً. ففي عام 1940م، مع الاستثناء الصريح لروبرت فروست، لم يكن هناك من شعراء عاملون في الكليات إلا القليل. وكان هؤلاء يدرِّسون موضوعات أكاديمية تقليدية (مارك فان دوغن وإيفور وينترز مثلاً)، وكان برنامج الأدب الوحيد آنذاك تجربةً بُدئ بها قبل سنواتٍ قليلة في جامعة آيووا. وقد مثَّل شعراء الحداثة الخيارات المتوافرة أمام الشعراء آنذاك لكسب رزقهم على الشكل التالي: كان بإمكانهم دخول معترك مهن الطبقة الوسطى كما فعل تي إس إليوت (مصرفي تحول ناشراً) ووالاس ستيفنز (محامي شركات تأمين) وويليم كارلوس ويليامز (طبيب أطفال). أو كان بإمكانهم العيش في حالة تشردٍ حضري، معيلين أنفسهم بطرقٍ عديدة كما فعل إزرا باوند وإي إي كامينغز وماريان مور. فإذا شعروا أن المدينة ليست جذابة، كان بإمكانهم، كما فعل روبنسون دجيفيرز، أن يعتاشوا بطريقةٍ ما أو بأخرى في مستعمرة فنونٍ ريفية مثل بلدة كاراميل في كاليفورنيا، أو كان بإمكانهم أن يصيروا فلاحين، مثل روبرت فروست أيام شبابه.
غالباً ما كان الشعراء يعيلون أنفسهم من طريق التحرير أو النَّقد، مشاركين بذا في الحياة الفنية والثقافية بشكلٍ فعَّال. آرتشيبولد ماكلايش كان محرراً وكاتباً في مجلة فورتشن . ولدون كيز كان ينقد الأفلام السينمائية لمجلات التايم وذا نايشن، وكتب آخر الأمر مخطوطات لأفلام هوليود السينمائية. راندل دجارل كان ينقد الكتب. دلمور شفارتس كان ينقد كل شيء. حتى الشعراء الذين انتهى المطاف بهم في مهنٍ تعليم أمضوا سنوات تلمذةٍ تطبيقية في الصحافة الأدبية. كان روبرت هايدن في شبابه يغطي قسم الموسيقى والمسرح للصحافة السوداء في ميشيغن، وآر بي بلاكمور، الذي لم يتم المدرسة التكميلية في حياته، كان ينقد الكتب لشركة هاوند آند هورن قبل أن ينتقل إلى التدريس في برنستون.
كان النقاد قساة قسوة غير طبيعية حسب معايير اليوم، أي انهم كانوا يقولون تماماً ما يفكرون حتى بشأن أكثر معاصريهم نفوذاً. مثل وصف راندال دجاريل لقصيدة كانت أمريكا وعوداً لآرتشيبولد ماكلايش بقوله: كان بالإمكان أن تكون قد تفتقت عن عبقرية أمين سر جمعية خيرية في مأوى للمتخلفين عقلياً . أو اقرأوا نقد ويلدن كيز لقصيدة جزيرة وايك لميورييل روكايستر، والمؤلف من جملة واحدة: هناك شيء واحدٌ بإمكانك أن تقوله عن ميورييل: إنها ليست كسولة . على أن هؤلاء النقاد هم أنفسهم كانوا يكتبون بسخاء عن الشعراء الذين يعجبونهم، كما كان يفعل دجارل بإليزابث بيشوب، وكيز بوالاس ستيفنز. كان لمديحهم وزنه، لأن القرَّاء كانوا يعرفون أنه لا يأتي بسهولة.
كان النقاد آنذاك يعرفون أن ولاءهم الأول لم يكن لأصدقائهم الشعراء، ولا للناشرين، إنما للقراء. لذلك كانوا ينقلون ردات أفعالهم بأمانة حتى لو كانت آراؤهم قد تخسِّرهم حلفاء أدبيين وتكليفاً للكتابة. في مناقشتهم الشعر الجديد خاطبوا مجتمعاً واسعاً من القراء المثقفين، ومن دون أن يتكلفوا البساطة في مخاطبتهم الجمهور، اجترحوا لساناً عاماً. في اعتزازهم بالوضوح والكلمة المفهومة، تجنبوا الرطانة المتخصصة واستعراض المعرفة المتحذلقة، كذلك جربوا أن يربطوا ما يحدث في الشعر بالاتجاهات الاجتماعية والسياسية والفنية، شاحنين الشعر الحديث بالقيمة الثقافية وجاعلينه نقطة تركيز خطابهم الفكري. هكذا على المثقفين الجادين أن يفعلوا، وهكذا غالباً لا يفعل المختصون.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية دولة أصغر وأقل غنىً عام 1940م، وفي أيام المرحلة الأخيرة من الانتكاس الاقتصادي آنذاك، ولم تكن حتى قد شهدت غلافات الكتب ذات الورق المقوى، فلا القراء ولا المكتبات كانوا قادرين على شراء عدد الكتب الذي يشترونه اليوم، ولا كان هناك الجمهور الكبير المغلوب على أمره، المكون من تلاميذ الأدب مشتري كتب الشعر المعاصر لاستعمالها في الصف. كان القرَّاء يشترون عادةً الشعر في هيئتين، هيئة قصائد مختارات لشاعر كبير، أو هيئة المجموعات الشعرية. وكانت مجموعات الأعمال الكاملة لشعراء مثل فروست وإليوت وأودن ودجيفرز ووايلي وميلاي تُباع بنجاح، ويعاد طبعها مراراً وتكراراً، وتبقى دوماً مطلوبة في السوق.
القراء العامون هؤلاء هم الجمهور الذي خسره الشعر اليوم. لم يكن هناك ما يميِّز هذا الفريق عدا الذكاء وحب الاستطلاع، وكان يخترق بذا خطوط العرق والطبقة الاجتماعية والسن والمهنة. هؤلاء الناس أهل فكرنا، وهم الناس الذين يدعمون الفنون؛ هم الذين يبتاعون تسجيلات موسيقى الجاز والموسيقى الكلاسيكية؛ هم الذين يحضرون الأفلام الأجنبية والمسرح الجاد والأوبرا والسمفونيات والرقص؛ هم الذين يقرأون القصة الجيدة والسير؛ الذين يستمعون إلى محطات الإذاعة العامة ويشتركون في أفضل المجلات الدورية. لا أحد يعرف حجم هذا المجتمع، لكن حتى إذا قبل المرء بالتقدير الخجول القائل بأن هذا المجتمع لا يتجاوز اثنين بالمئة من سكان الولايات المتحدة، فهذا لايزال جمهوراً من خمسة ملايين قارئ. ومهما بدا الشعر بصحة جيدة داخل دائرته الاحترافية، فهو قد خسر هذه الدائرة الأوسع من الجمهور، التي تمثل جسر عبور الشعر إلى الثقافة العامة.
الحاجة إلى الشعر
لماذا يهتم بمشكلات الشعر الأمريكي أي شخصٍ ليس بشاعر؟ أي لزوم ممكن أن يكون للمجتمع الحديث بفن قديم العهد كهذا؟ في عالمٍ أفضل من عالمنا الحاضر، ليس للشعر حاجةٌ إلى مسوِّغ لوجوده عدا روعته في ذاتها، فهدف الشعر حسب والاس ستيفنز هو الإسهام في سعادة الإنسان، والأطفال مدركون لهذه الحقيقة الجوهرية إذ يطلبون سماع أغاني الحضانة المفضلة لديهم مراراً وتكراراً. المتعة الجمالية ليست بحاجة إلى مسوِّغ، لأن الحياة من دون متعةٍ كهذه لا تستحق أن تُعاش.
لكن باقي المجتمع نسي كثيراً قيمة الشعر. للقارئ العام، يبدو النقاش الدائر حول الشعر كما لو كان مناظرة في السياسة الأجنبية أقطابها أجانبٌ منفيون في مقهىً مهلهل. أو، بالمرارة التي وصف سيريل كونولِّي الوضع بها، شعراء يتناقشون بخصوص الشعر الحديث: أبناء آوى يكشرون عن أنيابهم أمام بئرٍ ناضبة . أي شخص يأمل في توسيع جمهور الشعر – ناقداً كان، أو معلماً، أو عامل مكتبة، أو شاعراً، … يواجه تحدياً صعباً: كيف يقنع المرء حقاً قراءً مشككين، وفي عباراتٍ يقدرون على استيعابها، أن الشعر لايزال ضرورياً؟
على المجتمع الفكري بكليته أن يهتم بحال الشعر، لسببين على الأقل. السبب الأول دور اللغة في مجتمعٍ حر، حيث إن الشعر هو فن شحن الكلمات إلى أقصى معانيها، ولو فقد قادة الفكر في مجتمعٍ معين مهارة تشكيل وفهم قدرة اللغة على التأثير، يصبح أفراد المجتمع هذا في نهاية الأمر عبيداً لأولئك الذين يحتفظون بهذه المهارات- أكانوا سياسيين أو واعظين أو كاتبي نصوصٍ تلفزيونية أو سينمائية أو مخرجي نشراتٍ إخبارية. لقد نبه الشعراء الحديثون بشكلٍ متكرر إلى مسؤولية الشعر العامة، بل حتى كبير الرمزيين ستيفان مالاغم أثنى على مهمة الشاعر الأولى وهي تطهير كلمات القبيلة ، كذلك حذّر إزرا باوند قائلاً: الشعراء الجيدون هم أولئك الذين يحافظون على اللغة بصفتها شيئاً عملياً. هذا يعني التالي: حافظوا عليها دقيقةً، وحافظوا عليها نظيفة. لا تهم رغبة الشاعر الجيد في أن يكون مفيداً، أو رغبة الشاعر السيِّئ في أن يضر… إن انحدر أدب أمةٍ، تنحط الأمة هذه وتبلى .
أو، كما كتب دجوردج أورويل بُعَيْد الحرب العالمية الثانية، على المرء أن يقرّ بأن الفوضى السياسية الحاضرة مرتبطة ببلى اللغة… وبالطبع، ليس الشعر الحل النهائي للحفاظ على اللغة واضحة وصريحة العبارة، لكن صعب جداً أن نتخيل كيف قد يعالج مواطنو أمةٍ ما صحة لغتها طالما هم متخلون عن الشعر.
السبب الثاني وراء ضرورة اهتمام جميع المفكرين بحال الشعر هو أن الشعر ليس وحده مهمشاً. لقد تقلَّص جمهوره بالفعل ليغدو حلقة اختصاص منغلقة، لكن الأمر نفسه ينطبق على معظم أشكال الفن الحديثة -من المسرح الجاد إلى الجاز- وذلك لأن التجزؤ غير المسبوق لثقافة أمريكا الرفيعة خلال نصف القرن الماضي قد ترك معظم الفنون في عزلةٍ بعضها عن بعض، وفي عزلة عن الجمهور العام، إذ ان الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة لم تعد موسيقى حية خارج أقسام الجامعات ومعاهد الموسيقى، وموسيقى الجاز، التي كان لها يوماً جمهورٌ شعبيٌّ عريض، أصبحت مجالاً مقتصراً على الموسيقيين والعاطفين عليها. ومعظم المسرح الجاد محصورٌ الآن في هوامش المسرح الأمريكي حيث لا يتابعه سوى الممثلين والمؤلفين المسرحيين، وقلة من المعجبين الصامدين. وحدها الفنون البصرية، ربما بسبب رونقها المالي والدعم الذي تحظى به لدى الطبقة العليا، قد نجت من انحسار الجمهور عنها.
كيف بإمكان الشعراء أن يوصلوا صوتهم
إن أبرز الأسئلة المتعلِّقة بمستقبل الثقافة الأمريكية هو إن كانت الفنون ستظل تنعزل وتنحدر صوب أبواب التخصص الأكاديمية المدعومة مالياً، أم لا يزال هناك إمكان لإعادة المياه إلى مجاريها ما بين الفنون والعامة المثقفة. على أن الأكيد هو أن كلاً من الفنون عليه مواجهة التحدي منفرداً، وأن العوائق التي يواجهها الشعر هي عوائق عملاقة: نسبة القراءة لا تزال تتابع انحدارها، وهناك مجالاتٌ أخرى تتوالد بسرعة مخيفة، وتعليم الإنسانيات واقعٌ في أزمة، ومعايير النقد انهارت بأكملها، والإخفاق السابق لا يزال حاضراً بقوة، فبأي وجهٍ من الوجوه يمكن للشعراء أن يوصلوا صوتهم؟ ألا يستلزم الأمر معجزة؟
تستطيع الأماني أن تتحقق – حتى الصعب منها. لا أخال الأمر هذا مستحيلاً، كل ما يتطلبه هو أن يحمل الشعراء وأساتذة الشعر مزيداً من المسؤولية في إيصال فنهم إلى العامة. سوف أختم بستة مقترحات متواضعة في وسيلة تحقيق الحلم هذا:
1. عندما يقوم الشعراء بقراءاتٍ عامة، يجب أن يمضوا وقتاً من كل برنامج يقرأون فيه أعمال أناسٍ آخرين – والأفضل أن تكون الأعمال هذه قصائد هم معجبون بها ولشعراء لا يعرفونهم شخصياً. وعلى القراءات أن تكون احتفاءً بالشعر بشكلٍ عام، لا بمجرد أعمال الشاعر المستضاف.
2. عندما ينظم القيِّمون على الفنون قراءاتٍ عامة، عليهم تجنب صيغة الحلقة المغلقة المتعارف عليها، التي لا تتضمَّن إلَّا الشعر. امزجوا الشعر بالفنون الأخرى، خاصةً الموسيقى، أو نظِّموا أمسياتٍ تكرِّم شعراء موتى أو أجانب، أو ادمجوا محاضراتٍ نقدية قصيرة مع أداء الشعر، إذ ان تشكيلاتٌ كهذه تستطيع أن تجذب جمهورًا من خارج عالم الشعر دون أن تضحِّي بجودتها.
3. على الشعراء أن يكتبوا نثراً عن الشعر أكثر مما يفعلون الآن، وبصورةٍ أجدى وأصرح أكثر. عليهم أن يستعيدوا انتباه المجتمع الفكري الأوسع عبر الكتابة لمنشوراتٍ غير متخصصة، كذلك يجب أن يتجنبوا رطانة النقد الأكاديمي وأن يكتبوا ضمن الحقل اللغوي العام. أخيراً عليهم استعادة ثقة القارئ بهم، ولهذا يجب أن يكونوا صريحين بشأن ما لا يحبون، وأن يروجوا لما يحبون: ليس للمجاملة المهنية دورٌ في الصحافة الأدبية.
4. على الشعراء الذين يجمعون مختارات القصائد أن يكونوا صريحين جدًا، فلا يختاروا إلا القصائد التي تعجبهم فعلًا، والتي تهز النفس وتفيد القراء. المجموعات الشعرية هي بوابات عبور الشعر إلى الثقافة العامة، ومن هنا يجب أن يمنع توظيفها في تجارة الأدب. الفن يوسع جمهوره بتقديمه تحفاً فنيةً، لا بتقديمه أعمالاً متوسطة المستوى تتملق أساتذة الأدب.
5. على مدرسي الشعر، لا سيما في مرحلتي المدرسة التكميلية والإجازة الجامعية، أن يصرفوا وقتاً أقل على التحليل ووقتاً أكثر على الأداء، وذلك ليحرِّروا الشعر من التنظير الأدبي وليركِّزوا على متعة الفن الصرف. إن متعة الأداء هي أول ما يجذب الأطفال إلى الشعر. وبالتالي فعلى القصائد أن تُحفظ، وأن تُلقى، وأن تُؤدى. الأداء كان وسيلة التعليم التي أبقت الشعر حيوياً قروناً، وقد يكون مفتاح مستقبل الشعر أيضاً.
6. أخيراً على الشعراء والقيمين على الفنون توظيف الراديو في توسيع جمهور الشعر. إن الشعر مجالٌ سماعي، وبالتالي ملائمٌ جدًا للراديو. كل المطلوب لإيصال الشعر إلى ملايين المستمعين هو القليل من البرمجة الخلّاقة في مئات محطات الإذاعة العامة. إن تاريخ الفن يعيد نفسه مراراً وتكراراً، إذ ان أشكال الفنون عندما تتطوَّر تؤسس تقاليد معينة، وهذه التقاليد ترشد الأداء والتعليم وحتى التحليل. على أن التقاليد هذه ما تلبث أن تصبح بائتة، وتمسي عائقًا بين الفن وجمهوره. الكثير من الشعر الرائع لا يزال يُكتب، لكن مؤسسة الشعر الأمريكي عالقة داخل سلسلة من الأعراف المستنزفة – أي طرق تقديم الشعر ومناقشته وتحريره وتعليمه التي ولّى زمانها. ربما كان للأعراف هذه معنى يوماً، لكنها اليوم تأسر الشعر داخل غيتو فكري.
لقد آن الأوان لنختبر في الشعر، ولنرد حيويةً شعبية بمعنى ما إلى الشعر. ليس هناك من شيء نخسره، إذ سبق وأعلمنا المجتمع أن الشعر قد مات. فلنبنِ من التقاليد الميتة المكدَّسة حولنا محرقةً جنائزية، ولنشاهد العنقاء القديمة بارقة الريش، العصية على القتل، ناهضة من قلب الرماد.