اللغة العربية في وجه التحديات
يقول ابن فارس: «من العلوم الجليلة التي خُصّت بها العرب: الإعراب الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يُعرف الخبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه ما مُيّز فاعل من مفعول، ولا مضاف من منعوت، ولا تعجّب من استفهام، ولا صدر من مصدر، ولا نعت من تأكيد..».
ولكن الإعراب أضحى مشكلة مؤرقة، حيث يعاني معظم طلبتنا في بلادنا العربية كافة من دراسته. ولقد تابعت أعمال مؤتمر في دمشق عُقد قبل بضع سنوات لبحث ظاهرة (الإعراب والنحو)، وقُدِّم فيه أكثر من 60 بحثاً. وقد خرج المؤتمِرون بتوصية رئيسة مفادها: أن المشكلة ليست في (النحو)، فهو أمر سهل، ولكن المشكلة الرئيسة تكمن في كيفية تدريس النحو. إذ تبين أن هناك قصوراً في تفهيم الطلبة في المدارس منذ بداياتهم التعليمية النحو والإعراب بطرق سلسة بعيدة عن التعقيد؛ الأمر الذي أضعف اهتمامهم بهذه المادة، كما عزف كثير من الطلبة الجامعيين أيضاً عن مساق اللغة العربية، وخصوصاً في الكليات العلمية.
أدعو القائمين على اللغة العربية من علماء وأساتذة جامعات ومجامع لغة إلى إعادة النظر في التوجيه اللغوي للأجيال، بتبنّي تأليفات لغوية غير جامدة تحقق الإمتاع والتشويق، وتركِّز على جماليات اللغة العربية، ومن ثم تشجيع طلبة العلم على الكتابة والتأليف في علم اللغة العربية وفقهها.
لا ننكر أن اللغة العربية تواجه تحديات كثيرة، لكننا في الوقت نفسه على يقين بقدرتها على صدِّ سهام التغريب والإقصاء.. وإن لغة تتوفر على اشتقاق ونحت وتصريف، لهي لغة صامدة أمام التحديات.. وإن لغة تتوفر على ثروة غنية بالمفردات، سخيّة بالمعاني والعبارات، شفافة رفّافة تحلّق في أعالي الفضاءات، لهي لغة عصيّة على الذوبان، شامخة في كل زمان ومكان.
أحمد طاهر أبو عمر
هل غدت الرواية اليوم
ديوان العرب حقاً؟
راج في الآونة الأخيرة القول إن الرواية أصبحت ديوان العرب. والحق إن هذا القول ينطوي على توصيف أكثر منه تقييماً، فهو لا يريد أن يقول أكثر من أن حظ الرواية من الانتشار في الحياة الثقافية العربية بات أكبر من حظ الشعر اليوم أو في العقود الأخيرة. ساعد على ذلك تطوُّر نمط الحياة العربية وتبدُّل أحوالها، ومن شأن ذلك أن يرشح أنواعاً أدبية وألواناً فنية أكثر من سواها، للتعبير عن حساسية الإنسان العربي في مراحل تحوُّله وتحوُّل مجتمعه، في مقابل تزحزح فنون أخرى عن مكانتها السابقة. ومعروف أن الطابع السردي للعالم الروائي وقدرة هذا الفن على وصف الواقع وتقديم صورة بانورامية عنه، واشتماله على العنصر الدرامي أكثر مما هو عليه في الشعر، وربما أعان هذا فن الرواية على أن يحوز مواقع متقدمة، على مستوى الاهتمام والتعبير.
لكن الأمر لا يرتب أفضلية للرواية على الشعر، أو حتى على القصة القصيرة، فذلك ما لا يقول به مبدع حصيف أو مثقف صاحب خبرة بالأدب وفنونه، إذ لكل ضرب إبداعي حاجاته ومتطلباته، ودوره وبيئته، وشروط انتعاشه واضمحلاله. فالرواية تلبِّي حاجات لا يلبيها الشعر، وتشبع جوانب في النفس الإنسانية لا يستطيع الشعر تحقيقها، والعكس صحيح تماماً. وهذه الحاجات متغيرة تبعاً لتغير الزمان واختلاف العصر وتطور الأذواق والثقافات، فضلاً عن اختلاف كل ضرب أو فن عن الآخر، تكثيفاً وإسهاباً، لغة وتعبيراً، سرعة وبطئاً، شمولاً واختصاراً، استجابة في توثيق الحدث أو تلكؤاً فيه..إلخ.
نعم إن الشعر العربي يمر في أزمة، وقد يتراجع لحساب الرواية في الانتشار، والأيام سجال بين الأنواع الأدبية عبر التاريخ، ومهما تكن خطورة الأزمة التي يعانيها الشعر العربي في هذه المرحلة، فإنّ ذلك يجب ألا يزهّد الرعيل المتقدم من المفكرين الصابرين والنقّاد الثقات في إيلاء عباقرة الشعر والأدب حقهم، عبر أبحاث ودراسات كاشفة ومفيدة، تكون فيها العبرة والموعظة للأدباء الشباب، من أصحاب المواهب القادرة على حمل الرسالة، وحثّ الخُطا في الاتجاه الصحيح كي لا يتحولوا إلى جمهرة يائسة من شهود الزور في مهرجان المساخر.
صلاح عبد الستار محمد الشهاوي
مصر
ثقافة الاستهلاك وإعادة
إنتاج القيم
في مقدمة كتابه: «ثقافة الاستهلاك»، يروي روجر روزنبلات هذه القصة: «تزوج رجل من مدينة مينيابوليس من امرأة كان قد التقى بها قبل يوم واحد فقط، والتي تَسَوَّقها من بين مئات المتنافسات. قال الرجل: إنه قد حدَّد موعداً، في 13 يونيو 1998م، ووعد عائلته أنه سيتزوج فيه. ومع اقتراب الموعد، أعلن عن طلب عروس على شبكة الإنترنت، وغيرها، وجعل مجموعة من الأصدقاء بمنزلة مشترين، لإجراء المقابلات الشخصية مع المرشحات وفحصهن، كما يفحص الشخص السيارات واللحوم. وكانت «العروس الفائزة» مستعدة تماماً أن تستمر في هذه المهزلة (هي طالبة صيدلة في جامعة مينيسوتا)، وكذلك كانت جميع المرشحات الأخريات. باختصار، كان كل واحد من هؤلاء الشباب المتعلِّم سعيداً بأن يتعامل مع الزواج كصفقة بيع. وإذا كان العريس يبحث في السوق عن زوجة، فليس من المستغرب أن تُقام مراسم حفل الزفاف في مول «أمريكا».
هكذا يغدو الإنسان سلعة قابلة للبيع والفحص والشراء والعرض في الأسواق، وذلك حين يجد الراغب في الشراء منتجات متعددة قبلت أن تُعرض في الأسواق، وتُفحص من خلال تقليب عناصر هيكلها وجسدها وأفكارها وقيمها وميولاتها ورغباتها.. كل شيء غدا قابلاً للتسويق، ولِأَنْ يُحدّدَ له أجر، ويتم التداول بشأنه على الشبكة، كما خارجها.
لقد ساعدت التكنولوجيا الرقمية على توفير وسائل الدعاية التسويقية، وباتت المواقع تقتحم على المتصفح خلوته، لتعيد بناء علاقات جديدة معه… تبدأ بإطلالات استئذانية خفيفة، بين الحين والآخر… فإذا ألفها وتعايش معها تشرع في غزوه، وبكثافة، تجعل من المستحيل تجاوزها والتخلي عنها أو طردها… ومع اعتياد النظر إليها تنشأ علاقة بينهما، سرعان ما تتحوَّل إلى استلاب يصعب التخلص أو الفكاك منه.
وتنتقل ممارسة التوجيه الاستهلاكي الإعلاني من المجسمات واللوائح التي تملأ الشوارع والطرقات… لتعانق الفضاءات الافتراضية. وتعمق الخدمة الذاتية من سطحية المكان أيضاً، إنه مجال واحد متجانس وبلا توسط يجمع الناس والأشياء، إنه مجال التلاعب المباشر. ولكن مَنْ يتلاعب بمن؟
وتتشابك اللعبة وتتعدَّد أوجه اللاعبين كلما اقتربنا من ساحة العوالم الافتراضية، حيث تسهم حركية اللوحة وأبعادها في اضطراب الصورة، مما ينعكس على رؤية المتابع المُقْحَم في اللعبة من خلال عملية الاستهواء المدروسة، تماماً كما يتم في ساحة معركة يديرها خبراء يجيدون تغيير المواقع بسرعة تحول دون فهم المحاربين لقواعد اللعبة/ الحرب، أو استيعاب اللحظات التي تأبى الانصياع لوعيهم وللاوعيهم، فيضطرون للاستسلام والانخراط القسري في اللعبة..
تحديات ثقافة الاستهلاك
إننا حين نتابع نمط حياة كثير من الناس واهتماماتهم وجل تفكيرهم، نراه مرتبطاً بالرغبة في استهلاك السلعة بعد السلعة، والعمل – بجميع الطرق – على الحصول على منتج جديد، سرعان ما يحول هذا الإنسان إلى كائن سريع الملل مما حصل عليه اليوم، كما ملّ مما حصل عليه بالأمس.
وتعمل القروض، والعروض التي يتفنن فيها مسوقوها، في تضخيم الرغبة في الاستهلاك، من خلال تقنيات التأثير التسويقي، وبسبب الفراغ الذي يعيشه كثير من الناس، لا سيما في صفوف النساء، بالإضافة إلى العلاقات السطحية التي تخلق، لدى كثيرين، الشعور بالزهو على مستوى الحصول على آخر المقتنيات والموضات «السلعية»…
في عالمنا العربي، الذي لا ينتج ما يستهلك، يغدو التسابق المحموم على آخر «التقليعات» مرضاً خطيراً، ينتقل إلى الأجيال الجديدة، ويعمل على تشويه الفكر، ناهيك عن إنتاج المعرفة التي بدأت تتحوَّل إلى استهواء، والانتقال إلى إنتاج الرغبة في الاستهلاك… وهو ما يحتاج إلى تفكير عميق من أجل إعادة إنتاج قيم جديدة، عكس التي بدأت تسود، قوامها خلق نمط تفكير جديد يصبو إلى إنتاج مجتمع المعرفة الطامح إلى الحفاظ على قيمنا الأخلاقية والدينية التي نعدّها أساس إعادة البناء كله على جميع النواحي والصّعد…
د. سعيد أصيل
المغرب