حياتنا اليوم

أزمة منتصف العمر

حقيقتها ومحاولات تفسيرها

كثيراً ما نسمع تعبير “أزمة منتصف العمر” عند البحث عن تفسير لاضطراب أو تبدل طرأ على سلوك شخص في الأربعينيات من عمره تقريباً، غالباً ما يتسم بشيء من كآبة المزاج، أو التخبط في اتخاذ القرارات. وهذا التعبير هو حديث العهد، ظهر قبل نحو نصف قرن، غير أنه كان خلال العقود القليلة الماضية عنوان دراسات كثيرة، سعت إلى استطلاع حقيقة هذا النوع من الأزمات، وفهم أسبابها بحثاً عن حلول لها.

في عام 2008م، أجرى خبيران في الاقتصاد، هما ديفيد بلانشفلور وأندرو أوزوالد دراسة قدَّما فيها أدلة تؤكد أن “الرفاه النفسي” للفرد يتبع منحنى على شكل الحرف اللاتيني U خلال الحياة. الأمر الذي يعني أنه ما بين مرحلة البلوغ ومرحلة الشيخوخة، يكون مستوى سعادة الفرد في أدنى مستوى له في سن السادسة والأربعين.

تولستوي: “حسناً ستكون أكثر شهرة من غوغول أو بوشكين أو شكسبير أو موليير، أو حتى من جميع الكتَّاب في العالم، ولكن ماذا بعد؟”

استخدم بلانشفلور وأوزوالد بيانات مستمدة من دراسة استقصائية شملت 72 بلداً في جميع أنحاء العالم المتقدم والنامي. واعتمدت الدراسة على طرح أسئلة على المشاركين فيها مثل: “هل تعتقد أنك سعيد جداً، أم سعيد، أم لست سعيداً بتاتاً؟”. وقد أخذا في الاعتبار اختلاف الدخل، والحالة الاجتماعية، ونوعية العمل، ومتغيرات جماعية أخرى مثل إذا ما كان الأشخــاص قد ولدوا في أوقات رخاء أم أوقات صعبة، وخلصا إلى استنتاج مفاده أن هناك بالفعل “أزمة نفسية”، تميل إلى بلوغ حدّها الأقصى في منتصف العمر.

أزمة منتصف العمر
في أول تعريف لها
أصبحت فكرة “أزمة منتصف العمر” نفسها في منتصف العمر. إذ كانت قد ظهرت في أوائل الستينيات من القرن العشرين عند طبيب نفسي كندي يدعى إليوت جاك.
كان إليوت يقوم بدراسة الإنجازات الإبداعية عند 310 فنانين مشهورين من أمثال الموسيقار موزارت والرسام والمهندس المعماري الشهير رفائيل والرسام الفرنسي غوغان، عندما لاحظ سمة مشتركة بينهم جميعاً: عندما دخل هؤلاء الفنانون منتصف الثلاثينيات من العمر، انخفض إنتاجهم الإبداعي، وعانى بعضهم من الاكتئاب وأقدم عدد قليل منهم على الانتحار، وسجَّل بعضهم الآخر بنفسه اعترافه بالشعور بالفراغ مثل الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي الذي، عندما قارب عمر الخمسين، شعر بأزمة نفسية حادة، عبَّر عنها لاحقاً في مؤلف قصير له بعنوان “اعتراف”، وذلك عندما سأل نفسه: “حسناً ستكون أكثر شهرة من غوغول أو بوشكين أو شكسبير أو موليير، أو حتى من جميع الكتَّاب في العالم، ولكن ماذا بعد؟”.
ولاحقاً، لاحظ إليوت النمط نفسه مع المرضى الذين كانوا يقصدونه. وفي عام 1965م نشر إليوت نتيجة دراسته هذه في ورقة بعنوان “الموت وأزمة منتصف العمر”، في المجلة الدولية لعلم النفس. وكان ذلك أول ظهور لمصطلح جديد دخل في العلوم الشعبية والطب النفسي وهو “أزمة منتصف العمر”. وقد اعتبر إليوت تلك الأزمة “مفارقة”: إذ في الوقت الذي يصل فيه المرء إلى ذروة الحياة، يلوح الموت في الأفق. وكما يقول كايرين سيتيا في كتابه “منتصف العمر: دليل فلسفي” إنه في منتصف العمر، لا تعود فكرة محدودية حياة الإنسان مجرد فكرة مجردة.

مؤثرات غير التقدم في العمر
ولكن هل مثل هذه الأزمة ترتبط فقط بمرحلة منتصف العمر؟
يمكن لمجمل المشاعر السلبية التي تحدث في منتصف العمر من فقدان وأسى وندم على الخيارات التي اتخذت والتي لم تتخذ، أن تحدث بسهولة في عمر الشباب، في العشرينيات أو الثلاثينيات أو في عمر متقدم، في الستينيات أو السبعينيات. كما أن الخوف من الموت يمكن أن يأتي في أي عمر. وقد نجد ما يساعد على فهم حقيقة أزمة منتصف العمر ليس في أطروحة او دراسة معيِّنة، بل في سير وحياة أشخاص بارزين، مثل السيرة الذاتية للفيلسوف وعالم الاقتصاد البريطاني في القرن التاسع عشر جون ستيوارت ميل.
يروي ميل ما حصل معه عندما كان في العشرين من العمر، حين مرًّ بأزمة يمكن وصفها في مصطلحاتنا الحديثة بأزمة منتصف العمر المبكِّر. تعود جذور تلك الأزمة التي عاشها إلى نشأته الفريدة. إذ إنه كان موضع اختبار غير عادي حين قرَّر والده جيمس إخضاعه له وفق نصيحة من صديقه ومعاصره مؤسس النظرية النفعية جيريمي بنثام. أراد جيمس أن يحقق ابنه، ما وصفة جون ستيوارت ميل نفسه بـ “أعلى درجة من التعليم الفكري”، وذلك من خلال برنامج صمم على أساس مبدأ “عدم إضاعة الوقت”. ففي الثالثة من عمره، كان ميل يتعلَّم اليونانية، وعندما بلغ السابعة من عمره، كان يدرس كل حوارات أفلاطون، ومن ثم بدأ بتعلَّم اللغة اللاتينية في الثامنة، وعندما كان في الثانية عشرة، بدأ بدراسة المنطق وعلم النفس والاقتصاد السياسي.
وهكذا، وفي سن العشرين، عانى ميل من أزمة نفسية عنيفة وعميقة. وسأل نفسه: “لنفترض أن كل ما يبغيه المرء في هذه الحياة قد تحقق، وأنه استطاع الوصول إلى كل التغييرات التي يتطلع إليها وفي الوقت الذي يريد، فهل سيشعر بفرح وسعادة عظيمين؟” وجد ميل نفسه يجيب عن هذا السؤال، وبطريقة فورية بالنفي. ومع هذه الإجابة، اكتشف أن “الأساس الكامل الذي بنيت عليه حياته قد انهار”.

النظرة إلى مفهومي النجاح والفشل
يكمن اللغز هنا في السؤال التالي: هل يمكن للنجاح أن يبدو مثل الفشل أحياناً؟ لماذا يتوقف تحقيق ما يريده المرء فجأة عن إضفاء “السحر” على حياتنا مثلما كان يفعل في السابق؟ هذه هي المعضلة الحقيقية التي نواجهها مع أزمة منتصف العمر.
من المُسلَّم به أن هذا النوع من الأزمات هو نوع خاص جداً، وهو عادة ما يصيب الأشخاص المتفوقين الذين يحبون المنافسة (وهذا مفهوم بعيد كل البعد عن اقتناء السيارات السريعة والسعي وراء العلاقات المثيرة التي تستحضرها الصورة الشعبية لأزمة منتصف العمر). كما أنه لا علاقة لهذه الأزمة بالإحساس بعدم الجدوى والفشل بل إن أزمة منتصف العمر هنا هي نتيجة لحياة ناجحة بامتياز.
يفسر الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، أزمة منتصف العمر هذه بطريقة مضيئة. إن السعي لتحقيق الأهداف، الذي كان يسيطر على حياة ميل مثلاً، هو ما يجعل الحياة ذات مغزى. لكن شوبنهاور يقول إن المفارقة هي في أننا خلال متابعة هذه الأهداف والسعي في تحقيقها “نخصص أيام عمرنا لإنهاء الأنشطة التي تعطيها معنى واحداً تلو الآخر”. وبعبارة مختلفة، نحن دائماً في طور الانتهاء من المشاريع نفسها التي تمنح حياتنا “القيمة الوجودية”. إنه هذا المنطق التدميري الذاتي الذي يعطي أزمة منتصف العمر نكهتها المميزة، ويعطيها هذا الشعور الغريب بالفراغ. وكأننا خلال سعينا لتحقيق الأهداف، نحاول استنفاد تفاعلنا مع شيء جيد، كما لو كنا نكوِّن الصداقات من أجل أن نقول وداعاً.

العيش في هالة الحاضر
ولكن هل هناك مخرج من هذه الحلقة المفرغة؟
تكمن الإجابة في التمييز بين ما يسمى بالأنشطة الهادفة التي تهدف إلى نهاية محدَّدة، والأنشطة غير الهادفة التي ليس لها هدف أو نقطة نهاية معيَّنة. والفرق بينها هو مثل الفرق بين العودة إلى المنزل من العمل والذهاب لنزهة من دون تحديد وجهة معيَّنة لها.
إننا نميل إلى الاعتقاد بأن الأنشطة الهادفة فقط، أو المشاريع القابلة للتنفيذ، تجعل حياتنا ذات مغزى، ولكن ليس هناك سبب لأن يكون الأمر كذلك. إذ يمكننا أن نجد معنى أو قيمة في العملية أو الرحلة نفسها، بقدر الهدف الذي نسعى إليه. ومن هذا المنطلق، هناك من يقول إن الحل لأزمة منتصف العمر يكمن في تعلم العيش في “هالة الحاضر”.
ولكن مارثا نوسبوم، صاحبة كتاب “التقدم في العمر بعمق” تقول إنه يجب الحذر من العيش في “هالة الحاضر”. وتقدِّم بعض الملاحظات اللافتة حول كيفية اختلاف آراء الفلاسفة اليونانيين القدامى عن المفكِّرين الحديثين في مواقفهم تجاه الماضي. فبالنسبة لليونانيين، ليس الماضي “مرحلة ذات مغزى عاطفي”. وهنا تستشهد نوسبوم بالفيلسوف أرسطو الذي انتقد كبار السن الذين يكثرون الحديث عن الأيام الخوالي وقال عنهم: “إنهم يعيشون بالذاكرة بدلاً من الأمل … وهذا هو سبب بؤسهم”. وهذه “الثرثرة”، حسب أرسطو، لا تفيد بأي غرض جدي.
أما بالنسبة للمفكِّرين الحديثين، فعلى النقيض من ذلك، من المُسلَّم به أن الذاكرة والمشاعـر المتجــذرة في الماضي هي “مفاتيـح للسعــادة والأمل بالمستقبل”. فعندما نقرأ رواية، على سبيل المثال، ندرك بشكل طبيعي أن الماضي هو الذي يشكِّل أقدار الشخصيات فيها بشكل طبيعي. كما أن هناك دوراً يلعبه التطلع إلى الوراء واسترجاع عواطف مثل الشعور بالذنب والنـــدم على الإخلال بالالتزامات الأخلاقية.

يمكن لمجمل المشاعر السلبية التي تحدث في منتصف العمر من فقدان وأسى وندم على الخيارات التي اتخذت والتي لم تتخذ، أن تحدث بسهولة في عمر الشباب، أو في عمر متقدم

ولهذا السبب، هناك انتقادات لبعض مجتمعات التقاعد التي تعتمد على “مذهب الترفيه”، كما وصفها أندرو بليشمان في كتابه “قرية الترفيه”، عندما يتحدَّث عن قرية خاصة هي عبارة عن مجمّع للمتقاعدين في جزيرة جميلة بعيدة، حيث “لا يبحث الناس عن معنى لحياتهم بل عن أفراح يومية على المدى القصير”.
قد لا تكون هناك، وبطبيعة الحال، حلول عملية لأزمة منصف العمر، وقد تكون أنواع الأسئلة التي تدور حولها مجرد ملاحظات على سمات دائمة للحالة الإنسانية، لكوننا مخلوقات بعيدة عن الكمال ذات حيوات محدودة لا محالة.

أضف تعليق

التعليقات