حياتنا اليوم

التصميم
هو المسؤول
أجهزة حياتنا اليومية وأدواتها..

  • 63a

كثيراً ما نتعثَّر أو نرتبك في تعاملنا مع أشياء بسيطة جداً في حياتنا اليومية. وفي معظم الأحيان، فإننا نتجاوز هذا التعثر وننسى مواجهته، علماً بأن بعضه يترك ذكرى سيئة تبقى في الذهن لبعض الوقت. ليلى أمل تبحث في الدور الذي يلعبه التصميم على صعيد حسن أداء هذه الأشياء اليومية لوظيفتها، وتحشد لهذه الغاية مجموعة أمثلة نعرفها جميعاً، دون أن نعي عيوبها إلى الحد الذي يدفعنا إلى المطالبة بتعديلها، علماً بأن تيسير أمور حياتنا اليومية مرتبط بها. وأكثر من ذلك، فإن أثرها على حسن الأداء حتى في مجال العمل يبدو ملحوظاً استناداً إلى ما يخلص إليه هذا البحث.

ليس من المتوقع أن يتعرَّض المرء للحيرة أثناء قيامه بعمل بسيط وعادي للغاية كغسل يديه! لكن هذا ما يحدث إذا كنت تفعل ذلك في أحد المجمعات التجارية التي قررت -حرصاً منها على راحة روادها، وحداثة مظهرها- أن تستخدم في تجهيزاتها صنابير المياه الأوتوماتيكية.

إذا كنت تستخدم صنبور المياه هذا للمرة الأولى، ستجد نفسك أمام هذا «الكائن المعدني»، تتساءل حول الطريقة التي تمكِّنك من أن تنال رضاه كي يمدَّك بالمياه. وإذا بدت تلك الحيرة منطقية بعض الشيء، فماذا عن الغضب والإحباط اللذين نتعرَّض لهما حين نحاول استخراج قرص مدمج أو لعبة أطفال جديدة من غلافها، تلك الأغلفة البلاستيكية المحكمة التي ترفض الانفصال عما بداخلها، وتبدو عصية الاختراق ليس على الأصابع فقط، ولكن حتى باستخدام أدوات حادة كالمقص أو السكين. وماذا عن الضيق الذي يفرضه علينا المرور عبر واحد من تلك الأبواب الأسطوانية الدوارة، حيث يجب أن نحاكي إيقاع حركتها، ونستسلم لها تماماً حتى تطلق سراحنا في الجهة المقابلة.

تمتلئ حياتنا اليومية بالأدوات والأجهزة التي نتعامل معها ونعتمد عليها في أداء مهامنا وتسهيلها علينا. أدوات يدوية بسيطة، وأجهزة إلكترونية مركبة، وأشياء كثيرة أخرى تملأ المساحة بين الاثنين. وعلى الرغم من أننا نلجأ إليها بوجه عام لتساعدنا في تنظيم مفردات عالمنا وجعل حياتنا أقل تعقيداً، إلا أنها تكون في أوقات كثيرة مصدراً لهذا التعقيد. يكفي أن نتذكر كل المرات التي تعاملنا فيها مع أجهزة تؤدي المهام بطريقة سيئة، أو تحتاج إلى كثير من الوقت، أو صعبة الفهم ومثيرة للحيرة والارتباك. وحتى الأجهزة التي تسلم من ذلك، ما زال هناك احتمال أن تكون أجهزة «برية»، يحتاج المرء إلى كثير من الجهد كي يعتاد عليها ويتمكن من استخدامها جيداً، أو تعاني الحساسية المفرطة بحيث يمكن لخطأ بسيط أن يجلب الكوارث على رأس من يتعامل معها، أو يجعل نظامها ينهار تماماً.

«المشكلة هي التصميم». هذا ما يقوله دونالد نورمان أستاذ التصميم بجامعة «نورث وسترن» الأمريكية، ومدير «معهد سيجل للتصميم». يرى نورمان أن التصميم سواء أكان لمنتج أو شركة أو خدمة أو خبرة ما يجب أن يكون متوجهاً في الأساس إلى تلبية حاجة مستخدميه، وأن الأجهزة التي نختبر الصعوبة أو التعقيد في التعامل معها، تكمن مشكلتها في أنها لم تصمم كي تراعي حاجاتنا الحقيقية والطريقة التي ندرك بها العالم من حولنا ونتعامل معه. وقد أتت هذه المعرفة من خبرة سنوات طويلة من العمل في مجال التصميم كناقد واستشاري. هذا المجال الذي دخله حاملاً شهادتين إحداهما في الهندسة والأخرى في علم النفس، جعلتاه على دراية واسعة بطبيعة كل من الآلة والإنسان.

ليس هناك ما يوضح هذا الأمر أكثر من الأبواب! فالأبواب أحد أبسط الأشياء التي نتعامل معها في حياتنا اليومية، ومع ذلك، يمكن لهذه الأداة البسيطة أن تكون مصدراً لكثير من الارتباك. ليس هناك الكثير الذي يمكن للباب أن يقدِّمه.. فإما أن نفتحه أو نغلقه. وعلى ذلك فإن تعاملنا مع الأبواب (اليدوية وليست الأوتوماتيكية لأنها قصة طويلة أخرى!) يتطلب معرفة شيئين بسيطين فقط. أولهما هو الفعل الذي يستجيب الباب له.. أي هل علينا أن ندفع أم نسحب. والثاني هو أي الجانبين هو الثابت وأيهما هو المتحرك، والذي سيستقبل هذا الفعل. يقول دونالد نورمان إنه يجب أن يقدِّم تصميم الباب إجابة عن هذه الأسئلة دون حاجة إلى كلمات أو إشارات أو رموز. فحين يحتاج شيء ببساطة الباب إلى كتيب إرشادات، حتى ولو كان «كتيباً» من كلمة واحدة، فإن تصميمه يجب أن يُعد تصميماً فاشلاً.

أربع صفات للتصميم الجيد
إذن ما هو التصميم الجيد؟ تقول استشارية التصميم الأمريكية ويتني كوينزبري إن التصميم الجيد هو ذلك الذي يتسم بأربع صفات أساسية هي: أن يكون فعالاً يؤدي مهمته بكفاءة عالية في مدة زمنية مناسبة، وأن يكون مرحباً يشعر المستخدم بالارتياح لاستخدامه خاصة في المرة الأولى، وأن يكون سهل التعلم، وأخيراً أن يكون «متسامحاً» مع الخطأ البشري. وإذا كانت صفة الفعالية تتعلق بإجادة الجهاز لأداء مهمته الميكانيكية أو الإلكترونية، فإن الصفات الثلاث الأخرى تتعلق بإجادته للتفاعل مع مستخدمه، وفهمه، أو بالأصح فهم مصممه، لطبيعة تعامل العقل البشري مع الأجهزة والأدوات التي تُعد جزءاً من حياتنا اليومية، وكيف يؤدي المهام المتعلقة بها.

غالباً ما تقابلنا قائمة طويلة من مهام حياتنا اليومية التي يكون علينا أن ننجزها سريعاً، وربما بالتزامن مع مهام أخرى. ولأن العقل البشري يتعامل مع العالم بطريقة تتسم بالفاعلية، فإنه يأخذ منه ما يرى أن حفظه في داخله أمر مهم وحيوي لن يستطيع التصرف بصورة صحيحة دونه. بينما يترك بقية المعرفة غير المهمة خارجه، عارفاً أنها هناك في مكانها الصحيح من العالم في انتظاره. وهذا هو السبب في أننا أحياناً لا نستطيع أن نصف تفاصيل مهمة ناجحة قمنا بها، على الرغم من أنها كانت سهلة وعادية وقت أدائها. فالعقل يعرف أنه ليس مطالباً بحفظ كل هذا القدر من المعلومات التي نحتاجها في حياتنا اليومية، أو حفظها بدقة محكمة. ولو أننا نعتمد فقط على ما يحفظه العقل من معرفة، لما استطعنا التعامل مع أي من أدوات حياتنا اليومية إلا ونحن نقرأ خطوات العمل من كتيب الإرشادات.

ولكي يكون التصميم جيداً وموافقاً لطبيعة العقل الذي يتعامل معه، عليه أن يوفِّر القدر الكافي من هذه المعلومات التي يمكن أن «يوحي» بها بنفسه إلى مستخدمه، وبالتالي يصبح التعامل مع مهامه الأولية أيسر وأسهل. ويترك كتيب الإرشادات لتلك المهمات الأكثر تعقيداً، والتي لن يحتاجها المستخدم العادي كل يوم، أو التي لن يستفيد منها إلا شريحة معيَّنة من المستخدمين «الخبراء».

ما الذي يتيحه الجهاز وما الذي يمنعه؟
في كتابه «تصميم أشياء حياتنا اليومية» يقول دونالد نورمان إن التصميم الجيد يجب أن يحمل ما يرشدنا مباشرة إلى ما يتيحه وما يمنعه. ويكون ذلك عبر الاستخدام الجيد والفعال لمجموعة من الإتاحات والقيود تمكِّن المستخدم من معرفة ما يجب عليه أن يفعله بمجرد النظر، ومن دون الحاجة إلى تعليمات أو صور توضيحية أو كلمات إرشادية.

ويقصد بالإتاحات تلك المعلومات التي تخبرنا عن الأفعال المادية التي يسمح الجهاز بها كأساس لتفاعل المستخدم معه. وعلى هذا، تكون المقابض هي الإتاحة الخاصة بالإدارة، والأزرار هي تلك الخاصة بالضغط، والفتحات هي الإتاحة الخاصة بإدخال الأشياء عبرها. وإذا طبقنا هذا الأمر على حالة الأبواب، سنعرف لماذا تسبب لنا كل هذا العناء. فحين يعمل الباب عن طريق الدفع، يجب أن يكون مصمماً بحيث يتيح هذا الفعل، وهذا الفعل وحده. إذا لاحظنا في باب ما وجود قرص مسطح على أحد جانبيه، لن يفكر أحدنا قبل أن يضع كفه على ذلك القرص ويدفع الباب. والشيء نفسه سيحدث إذا كان الباب مزوداً بقضيب معدني أفقي في مستوى اليد. أما المقبض المعدني الرأسي الذي نراه على معظم أبوابنا، فيتيح كلاً من الدفع والسحب، مما يجعل وضع علامة (اسحب/ادفع) شيئاً حتمياً.

أما القيود فتساعدنا في تفاعلنا مع الأجهزة والأدوات عن طريق قيامها بتقليل الاحتمالات الممكنة لطرق هذا التفاعل. يمكن لهذه القيود أن تكون مادية، أي تفرضها الخصائص المادية للأشياء. فأحجام الفتحات أو الثقوب وأشكالها تحد من الأشياء التي يمكن إدخالها عبرها، بحيث نفهم أنها فقط تلك التي تناسبها في القياس. بهذه الطريقة نعرف مثلاً أي الفتحات في جهاز الجوال هي الفتحة الصحيحة لوصله بالشاحن، بدون أن نقرأ الإرشادات. وقد تكون القيود قيوداً ثقافية يقررها ما هو متعارف عليه في ثقافة مجتمع ما، حتى وإن لم تكن هناك قيود مادية تجعله لازماً. فنحن نعرف أن أغطية الزجاجات تفتح بالدوران في عكس اتجاه عقارب الساعة، وتغلق بالدوران في اتجاهها. وصار الأمر متعارفاً عليه، بحيث لا نحتاج إلى السؤال عن ذلك في كل مرة نريد أن نفتح أو نغلق زجاجة أو وعاءً من هذا النوع.

هذا النوع من القيود يكون شديد الفاعلية طالما كان واضحاً أمام عيني المستخدم، وقابلاً للترجمة بسهولة. وبالتالي، فإنه يمارس دوره في تحديد الفعل قبل أن يقوم المستخدم بتجربته. أما إذا لم يكن كذلك، فإن المستخدم لن يعرف الفعل الصحيح إلا بعد تجربة الفعل الخطأ. مفاتيح الأبواب يجب أن توضع في وضع رأسي معيَّن كي تعمل. لكن كل مفتاح له اتجاهان رأسيان محتملان. كي يكون المفتاح جيد التصميم، يجب أن يحمل إشارة واضحة تشير إلى الاتجاه الصحيح. أو أن يكون قادراً على العمل إذا تم إدخاله في أي من الاتجاهين. ورغم أن المفاتيح أشياء صغيرة، إلا أنها يمكن أن تمثل مصدراً لكثير من الإحباط اليومي وأحياناً المتاعب، خاصة إن كنت تريد الدخول إلى السيارة أو إلى المنزل في ليلة ممطرة وبيدين مشغولتين بالحقائب أو الأوراق.

التخطيط المنطقي
من الخصائص المهمة للتصميم الجيد، كون الجهاز سهل التعلم لا يحتاج مستخدمه إلى كثير من التدريب كي يعتاد عليه ويتقن استعماله. وترتبط سهولة التعلم، بمدى منطقية العلاقات بين مكونات النظام، وخطوات أداء المهام بواسطته. فالعقل البشري محدود القدرة فيما يتعلق بحفظ العلاقات العشوائية واسترجاعها وقت الحاجة إليها، بينما يختلف الأمر تماماً في حالة العلاقات المنطقية. ولذلك فإن التصميم الجيد يجب أن يتبع خريطة تمثل العلاقة المنطقية بين الترتيب المكاني للأشياء والمكونات الأخرى التي تتحكم في عملها. وبهذه الطريقة لن يكون علينا أن نتعلم قواعد العلاقة، لأنها تبدو لعقلنا في هذه الحالة أموراً بديهية.

من أشهر الأشياء في عالمنا التي تعاني من مشكلة حادة مع مبدأ التخطيط، هو الموقد. لو افترضنا أن لدينا موقداً تقليدياً يحتوي على أربع شعلات مرتبة في مربع، سيكون لدينا أربعة مفاتيح تقابلها مرتبة في صف طولي. ولو افترضنا أن المصمم قرر أن يرتبها عشوائياً تماماً بحيث لا تتبع نمطاً معيناً، فيكون لدينا في هذه الحالة أربعة احتمالات لكل مفتاح والشعلة التي يتحكم في عملها!. وبالطبع فإن هذا الترتيب العشوائي غير عملي على الإطلاق، حتى أن أحداً لن يجرؤ على تنفيذه مطلقاً. لكن الاختلاف بين الوضع المربع للشعلات والوضع الطولي لمفاتيحها، يمنع أن تكون العلاقة بين الاثنين مرتبة تبعاً لخريطة منطقية. وبدلاً من ذلك نجد أن الترتيب المتبع هو حل وسط بين العشوائية التامة، وبين الخريطة المنطقية. إذ يقسم المصمم مفاتيح التحكم إلى قسمين بحيث يتحكم المفتاحان في جهة اليمين في عمل الشعلتين في جهة اليمين، ويتحكم مفتاحا اليسار في شعلتي اليسار. المشكلة أن الأمر ما زال مربكاً، لأنه يترك احتمالين لكل مفتاح. هل المفتاح في أقصى اليمين يتحكم في الشعلة اليمنى الأمامية أم الخلفية؟

ماذا لو اتبعنا الخريطة المنطقية للعلاقة بين الشعلات والمفاتيح، ورتبنا الأخيرة في شكل نصف دائرة بدلاً من المربع؟ هذا التوافق في العلاقة، يجعل تعاملنا مع الجهاز عملية سلسة، وتزيل عنه التعقيد، وتنتفي معه الحاجة لتذكر العلاقات، أو لوجود إرشادات تعيننا على ذلك.

عملية التقييم
حين نستخدم الأجهزة والأدوات في حياتنا اليومية، فإن تعاملنا معها يسير في اتجاهين. الأول هو اتجاه التنفيذ، حين نمارس فعلاً معيناً أو سلسلة من الأفعال اللازمة كي ينفذ الجهاز مهمته المطلوبة. أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه التقييم، والذي نتلقى فيه من الجهاز معلومات حول استجابته للفعل الذي قدمناه، وما إذا كنا سنحصل على النتيجة التي نريد أم لا.

وإذا كانت الإشارات الخاصة بطبيعة عمل الجهاز وتكوينه أساسية في إرشادنا لما يتوجب علينا فعله لبدء تنفيذ مهمة ما، فإن الإشارات التي تمكننا من التقييم أثناء أدائه لهذه المهمة تُعد أساسية لإتمامها. فمن دونها يظل المستخدم في تساؤل حول ما إذا كان أي شيء قد حدث. فربما لم يضغط الزر بقوة كافية، ربما أخطأ وضغط زراً غير صحيح، أو ربما يعاني الجهاز من عطل ما. ومن دونها نغلق الأجهزة في الوقت الخطأ، أو نعيد تشغيلها بلا حاجة إلى ذلك، أو نكرر الأمر مرتين فيزدحم الجهاز بالأوامر أو يتوقف تماماً من العمل.

في التصميم الجيد يجب أن يعرف المستخدم ما الذي يجري بالضبط داخل الجهاز الآن. الأجهزة الإلكترونية التي تحتوي على شاشات يمكنها أن تستغل هذه الميزة بأفضل طريقة، كي توفر لمستخدمها أعلى درجة من الاتصال معها. أما مع الأجهزة التي لا تحمل شاشات فيجب أن يترك التصميم للمستخدم مجالاً للرؤية، وألا يتغاضى عن ذلك لصالح أناقة التصميم. فجهاز الكاسيت مثلاً يجب أن يسمح لمستخدمه بأن يرى المكان الذي يضع فيه الشريط، بالرغم من أن التصميم الذي لا يضع تلك المساحة الشفافة على واجهته، يبدو من النظرة الأولى أكثر أناقة و«نظافة». والمشكلة الشائعة التي تحدث مع التصميم الذي لا يسمح برؤية الشريط، هي أن يضغط المستخدم زر التشغيل ولا يحدث شيء، ثم يكتشف بعد فحص مجموعة من الاحتمالات أن الجهاز منذ البداية كان فارغاً.

التعامل مع الخطأ
الخطأ البشري هو جزء لا يمكن تجنبه من تعاملنا مع العالم الخارجي المحيط بنا بأكمله. وحين يقع عقلنا في الخطأ أثناء تعاملنا مع جهاز ما، فعادة ما يكون هناك سبب مقنع ومنطقي وراء ذلك. فإما أن المعلومات المتاحة أمامنا لم تكن كاملة أو كانت مضلِلة، ولذلك فإن القرار وقتها كان صحيحاً رغم خطئه. أو إننا كنا نعرف ما يجب علينا معرفته، لكن الخطأ نتج عن سهو أو خلط أثناء تنفيذ المهمة. ورغم أن هذه الأخطاء تبدو سيئة وغريبة عند التفكير بها بعد حدوثها، إلا أن حدوثها نفسه هو الدليل على كونها بدت في لحظتها منطقية ومتماسكة. ولذلك، لا يجب أن تصمم أدوات حياتنا بحيث تبدو وكأنها تعاقبنا على الخطأ! والأهم أنها يجب ألا تتجاهل حقيقة كون مستخدمها سيخطئ في استخدامها في وقت ما. فالتصميم الجيد هو ما يتسم بقدرة عالية على استيعاب الخطأ البشري. وتأتي هذه القدرة أولاً من فهم أنماط الخطأ التي يمكن أن يقوم بها المستخدم وقت تعامله مع الجهاز، والتأكد من أن التصميم لا يحتوى على ما يمكن أن يسمح بحدوثه. فمثلاً لا يجب أبداً أن يتم تصميم جهاز مساعد شخصي إلكتروني يتجاور فيه زران متشابهان في الحجم، أحدهما يقوم بإغلاق الجهاز والآخر يقوم بمسح كافة بياناته! كذلك يجب أن يحتوي التصميم على «خط رجعة»، يسمح بإرجاع الأمور إلى وضعها الصحيح بعد حدوث خطأ ما, وأن يكون اكتشاف الخطأ سهلاً، بحيث يظهر فور حدوثه ويتمكن المستخدم من إصلاحه قبل أن تترتب عليه مشكلات أخرى.

ولننظر مثلاً إلى الخطأ الذي يرتكبه سائقو السيارات حين ينسون المفاتيح داخل السيارة. هذا الأمر جعلته بعض شركات السيارات أقل حدوثاً في سياراتها من السيارات الأخرى. وذلك حين صممت الأبواب بحيث لا تغلق جيداً إلا باستخدام المفتاح. وبالتالي، لا يمكن لقائدها أن يغادرها ويغلق الباب إلا والمفتاح في يده. وجود هذه «الجبرية» في التصميم، أزاح من طريق المستخدم إمكانية وقوعه في خطأ يتكرر كثيراً. لكن اللجوء إلى هذا الأمر يتطلب الكثير من الحساسية والذكاء من قبل المصمم، فالجبرية التي تزداد عن حدها، تجعل الجهاز معقداً بالنسبة للمستخدم، وتجعله مزعجاً وعدائياً تجاهه أيضاً. كما حدث في الولايات المتحدة عندما فكر المسؤولون في طريقة جديدة لإجبار سائقي السيارات على الالتزام بحزام الأمان. فقد تم تزويد السيارات بآلية تمنع محرك السيارة من الدوران إلا إذا كان حزام الأمان في مقعد السائق والمقعد المجاور له مثبتين. وقد أثبتت هذه الجبرية كونها مزعجة وكريهة في وقت قصير من بدء تطبيقها، حتى أن أصحاب السيارات ممن لديهم معرفة بالميكانيكا لجأوا إلى إبطالها في سياراتهم. أما الذين يعرفون طريقة لإبطالها فقد احتالوا عليها، فثبتوها بصورة دائمة، ثم أخفوا الحزام المثبت تحت المقعد. ولم يكن ذلك فقط بسبب كون تثبيت الحزام عملية مزعجة بالنسبة للبعض، لكن لأن الآلية الجديدة قيدت حركة مستخدمي السيارة من دون أن يكون هناك ضرورة لذلك. فكانت لا تسمح لمحرك السيارة بالدوران إذا وضع سائقها حقيبته أو أمتعته على المقعد المجاور. لأنها تترجم الوزن الذي تحسه إلى وجود راكب في المقعد الأمامي، وبالتالي تمنع دوران المحرك إلا بعد تثبيت حزام الأمان!

لماذا تفتقد أشياؤنا
للتصميم الجيد؟
يقوم التصميم الناجح على التوازن الدقيق بين القيمة الاستخدامية، والجمالية، وقابلية التصميم للإنتاج صناعياً. لكن الواقع يقول إن هذا التوازن يتعرض كثيراً للخلل. أحد أهم أسباب هذا الخلل هو انعدام التواصل بين المصمم وبين المستخدم الذي يمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة ينتقل فيها المنتج من العدم، إلى مكانه في المنازل والمكاتب والأسواق. والمصمم ينظر للمنتج أثناء عمله عليه نظرة مختلفة عن نظرة المستخدم له. فالمصمم المحترف يصبح خبيراً بالمنتج الذي يعمل عليه، وينغمس في تفاصيله ودقائقه، إلى الحد الذي يصبح فيه من المستحيل بالنسبة له أن يلتقط الصعوبات الدقيقة التي يمكن أن يعانيها المستخدم، أو المناطق التي يمكنها أن تتسبب في حدوث أخطاء أو «سوء تفاهم» بينه وبين الجهاز. كما أن شرائح المستخدمين المختلفة، هي ذات احتياجات مختلفة، وتترتب أولوياتها بطرق مختلفة، وتقابلها أيضاً صعوبات مختلفة. ولا يستطيع المصمم أن يصل وحده إلى جميع هذه الاعتبارات، ويعمل على أساسها. لهذا فمن الضروري أن تتوافر بيئة مناسبة لتفاعل المصمم مع المستخدم، كي نحصل على منتج يحمل حرفية الأول ويتفهم حاجات الثاني ويلبيها بسهولة.

من المهم أن تسود مجتمع المصممين ثقافة تتبنى هذا التوازن بين القيمتين الاستخدامية والجمالية. فنحن لا نريد أن تمتلئ حياتنا بأجهزة تفتقر إلى الجمال، لكننا لا نريدها وقبل كل شيء، أن تكون عاطلة من العمل!

يحكي المصمم الأمريكي روبرت سمر في كتابه «التصميم الاجتماعي» قصة توضِّح لنا إلى أي حد تفتقد ثقافة التصميم الآن لهذا التوازن. فقد تم تكليف المعماري سام سلون بتصميم المكاتب الجديدة التابعة لهيئة الطيران الفيدرالية في كل من سياتل ولوس أنجلوس. وقد تم الاتفاق على أن تجري عملية التصميم بطريقتين مختلفتين في الموقعين. ففي سياتل تقرر أن يشترك موظفو الهيئة مع المعماريين في تصميم المقر الجديد لعملهم، وأن يتم التنفيذ تبعاً لحاجاتهم وتفضيلاتهم، بينما يسير الأمر في لوس أنجلوس بالطريقة التقليدية حيث يتكفل المعماريون بتصميم المبنى بتفاصيله الكبيرة والصغيرة من الألف إلى الياء. في النهاية أصبح هناك مبنيان مختلفان. أحدهما في سياتل ويحمل الكثير من رؤية الموظفين لما يرونه مكاناً مثالياً للعمل، والآخر في لوس أنجلوس يحمل رؤية المعماريين وحدهم للمكان نفسه.

بعد عدة شهور بعد الانتقال إلى المبنيين الجديدين، أجرت الإدارة استطلاعاً للرأي لمعرفة كيف تأثر أداء موظفيها بعد انتقالهم للمباني الجديدة. وأظهرت النتيجة ارتفاع الأداء الوظيفي في مكتب سياتل بنسبة %7، نتيجة لتوافق المبنى الجديد مع حاجات الموظفين ودعمه لسير العمل بينهم بطريقة سلسة وتلقائية. أما في مكتب لوس أنجلوس فلم يكن لانتقال الموظفين إلى مبناهم الجديد أي تأثير إيجابي على أدائهم الوظيفي. وفي حين كان المبنى الأول هو المفضل لدى مستخدميه، إلا أن الآخر هو الذي حصل على عدة جوائز للتصميم من المعهد الأمريكي للمعماريين !. ويعلل أحد أعضاء لجنة التحكيم عدم فوز مبنى سياتل بكونه: «سكني الطابع ويفتقد إلى الصرامة والتحكم المتوقعين»، وهذا هو بالضبط سبب تفضيل الموظفين له. وإذا كانت هذه هي الرسالة التي يبعث بها صفوة مجتمع المصممين، الذي يمنح الجوائز، ويرسي قواعد التميز في هذا المجال، فلابد أن تعاني الأجهزة والأدوات التي نستخدمها في حياتنا من سوء تفاهم دائم بينها وبيننا.

أضف تعليق

التعليقات