“هو الحياة، هو النَفَس الذي أشهقه فأزفره حبراً يخطّ الجمال، وهو ما آخذ من روحي إليه فتتجسَّد به. حيثُ وُلِدَت العربية ولدتُ، هناك بين جبال اليمن. ولأن لكل ذي فن حكاية، فقد بدأت فيه مع النظر، نظرة المحب لحبيبه، رأيت تمايله غزلاً ونقطته اعتماداً. ولأن على المحب أن يسعى للّقاء، قطعتُ المسافات حتى إسطنبول، فحدثته بين حجارتها ومآذنها، وعلى جنبات محاريبها. ولأنَّ هذا الحب أحياني، وهبت له حياتي”.
بهذه الكلمات، وفي مكتبه “مكتب ثلث” في زقاق من أزقة منطقة الفاتح في إسطنبول، يصف الخطاط اليمني زكي الهاشمي تجربته مع الخط العربي ومكانته في نفسه.
يقول زكي الهاشمي إن أول الاهتمام كان إعجاباً، إذ “كنت أشعر بسعادة عندما أرى الخطوط الجميلة رغم عدم تفريقي بينها، إلَّا أنني كنت موقناً أن الخط يريد مني شيئاً ولكنني لم أعرف كيف أتجه وما الذي عليَّ فعله. بعد ذلك، كانت أولى مراحل التعلم النظر، ثم القرب من الخطاطين ومحاولة التقليد عن بُعد، ثم الكتابة وعرض الأمشاق عليهم، والشعور بالمسؤولية، حتى نلت الإجازة”.
في اليمن، التقى بعض الذين كانوا مطلعين على الخط كالأستاذين عبد الرقيب العودري وناصر النصاري. ثم استفاد من الأستاذ عباس البغدادي بالمراسلة أثناء وجوده في الأردن، ومن الدكتور محمد ممش الذي التقاه في زيارة لسوريا أثناء المشاركة في كتابة مصحف الشام الكبير، وفي المدينة المنورة وأثناء إقامته استفاد من الشيخين أحمد ضياء ومحمد بشير الإدلبي. أما الأخذ والتلمذة فكانا في إسطنبول على يد الشيخ حسن جلبي، والأستاذ ممتاز دوردو، والأستاذ فرهاد قورلو، والأستاذ داود بكتاش، حتى استحق الإجازة التي نالها.
من أهم الطرق التي ساعدت الهاشمي على تعلُّم الخط هو أن ينظر المتعلّم أكثر مما يكتب. بعد وقت طويل سيتبدل الحال، وقد يتفرغ الخطاط ويمشق (يتدرب) في اليوم، كما حدث مع الهاشمي نفسه، ما يقارب 14 ساعة لأيام طويلة بل لأشهر، في مرحلة كان جلّ التفكير فيها هو الوصول إلى علم الخط الحقيقي، والتحرر من عباءة التقليد الأعمى.
الخط أسهل العلوم!
يرى الهاشمي أن الخطَّ هو أسهلَ العلوم وأيسرها، لأن تيسيره من تيسير القرآن الكريم، ولكن الفنانين لم يجدوا الطريق الصحيح إليه، فخاطبوا من خلفهم بأنه معقد وصعب لا يُدرك بالمنى، وبالغ غيرهم في التقليد حتى ظن كثير أن الخط توقف عند ثلة معينة من الناس لا يمكن تجاوزهم. وعند سؤاله عن التقليد، أوضح الهاشمي أن فن الخط يقوم على أساس التقليد للوحات أو أحرف أو أسلوب الخطاطين الأقدمين، فيكتب الخطاطون عنهم تقليداً، ومنهم من يصل ومنهم من لا يصل إلى فهم الحرف، لأن التقليد بلا علم يحتاج إلى وقت طويل للتحرر منه، ولكن “العلم النظري والفهم يقود إلى الكتابة الصحيحة من دون أن أكون نسخة متطابقة من الذين سبقوني، ودون أن أخرج عن الأساس الصحيح للفن”.
تخصص الهاشمي في فن الخط بدراسة مجمـل الأسس، ثم الانتقال إلى التفاصيل، بمعنى دراسة السطر وفهمه مع جملة الأسس، كفهم ميلان الكلمات واتجاهاتها والنسب الصحيحة، من دون التركيز على دراسة تفاصيل الأحرف. وفي تلك المرحلة، كان يقوم بالمشق المتواصـل الذي يثبـت له هذه الأسس ويحسن حرفه تدريجاً.
عن بداياته يقول: “كنت أتبع أسلوب الخطاط شوقي، ثم بحثت عن الخطاطين قبل شوقي، فرأيت أن شوقي كان يقلِّد بعض لوحات الحافظ عثمان، والحافظ كان يقلِّد بعض لوحات حمدالله ابن الشيخ، وهكذا. فتبادر إلى ذهني أن أبحث عن المصدر الذي جعلهم يفهمون فهماً قادهم إلى الجمال من دون الخروج عن الأساس، وهو ما أمشي عليه الآن، أن أنظر إلى كتابات من قبلي كأمثلة تطبيقية لفهم الأصول الفنية. فالأسلوب يمثل الحالة الشخصية للخطاط التي لا يجب أن يتقمصها من بعده حتى يستطيعوا الوصول إلى الجمال، لأن الجمال لا يأتي بالتطابق”.
حين يتحدث الهاشمي عن أدواته لا تملك إلا أن تنصت إليه بإكبار. يقول إن “أقلامي وأحباري عشقي الذي لا أعرف سببه، وأحبها حباً ليس له سبب، وهو برأيي أرقى أنواع المحبة. فالحب القائم على السبب ينتهي بانتهاء السبب، أحب حملها مع أني لا أكتب كثيراً في سفري، ولكني لا أحب أن أتركها وحيدة، أشعر بعزلتها وعزلتي، أشعر وكأنها عاقلة تقود إلى الخير والحق”.
تجربته في كتابة المصحف الشريف
كانت للهاشمي تجربة ثرية تمثلت في كتابته للمصحف. ويُعد المصحف حالة خاصة عند الخطاط، فهو يتحكم بالخطاط لكون المقصد من كتابة المصحف هو أن يفهمه الناس ويقرأونه بشكل سليم يقودهم إلى الفهم. ولهذا اختلف المتخصصون في كتابة المصحف على أي طريقة يكتب ولماذا يكتب بخط النسخ خصوصاً. فقد ذكروا أنه لا يكتب بغير خط النسخ إن كان قابلاً للطباعة، ويجوز أن يكتب بغير النسخ إن لم يكن للطباعة.
يقول الهاشمي: “عندما كتبت المصحف مررت بمراحل صعبة، وهي تمثل الصفحات الأولى من الكتابة، لكون الخطاط لا يريد أن يقلِّد غيره في حالات الكلمات والتوزيع في الصفحة، ولكنه مجبر بالالتزام بالصفحة من حيث بدايتها ونهايتها. ولكن كتابة المصحف بالنسبة لي هي أول مراحل فهم خط النسخ. وأنصح كل من يريد أن يتقن خط النسخ أن يبدأ بكتابة المصحف كاملاً، وسيرى نفسه أنه بدأ بفهم أشياء نادرة لا يمكن أن يكتسبها بغير كتابة المصحف. ولا أخص هنا المصحف فقط، ولكني أقصد النصوص الطويلة. غير أنه لا يوجد نص طويل مترابط كالمصحف الشريف، لكون المصحف أبلغ ما قيل في العربية، والأحرف وأشكالها جاءت من المعاني، وهناك ارتباط وثيق بين تسلسل الأحرف في الكلمات نطقاً ومعنى ومبنى، وهو من إعجاز القرآن في فن الخط”.
ويعتقد الهاشمي أنه لم يختر خط النسخ وإنما اختاره الخط، إذ لم يشعر بنفسه إلَّا وهو يكتبه دون باقي الخطوط. ولأن العبارات هي قوام الخط العربي، يختار الهاشمي عباراته عن طريق المعنى، إذ يهتم لتأثير المعنى والشكل على الناظر، لأنه عندما يخدم الشكل المعنى يكون أكثر وقعاً على الناظر.
حال الخط العربي اليوم
وعن واقع الخط العربي اليوم، يرى الهاشمي أن الخط حالياً ينقصه العمل التأصيلي الذي يقود إلى التجديد والفهم، وابتكار أساليب متعدِّدة تحمل التنوُّع الفني الذي يبعث على روحانية الحرف. ويعتقد أن الخط اليوم أشبه بالإنسان الذي درس علم النحو مثلاً ووجد أن الأمثلة كلها تدور حول زيد وعمرو حتى اعتبرها أساساً للإعراب لا يجوز الخروج عنه والاجتهاد فيه.
أما تفصيلاً، فيرى الهاشمي أن ثمة خلطاً في المفاهيم التي أشغلت الخطاطين عن الكتابة. فثمة من يتكلم، وثمة من يتحدَّث في أمور ليس لها علاقة بما هو أصل عند الخطاط وهو المشق. فالأتراك يخلطون بين الخط كأصل وكنشأة. والعرب يخلطون كذلك في الأمر نفسه. فنشأة الخط لا يمكن أن يحتكرها أحد، لأنها تقوم وتنسب إلى مكان النشأة وهو البلاد العربية، أما الخط كفن وصنعة فهو متنقل بحسب اهتمام الناس به. فقد يكون اليوم عربياً، وغداً تركياً، وبعده في بلاد أخرى. ففن الخط ينسب إلى البلاد التي اهتمت به وطورتـه. وتركيا لها نصيب من نسبة فن الخط إليها لكونها اهتمت به في فترة معينة. وهذه المسائل أثرت سلباً على ملكة الخطاط، فهو يقحم نفسه بالرد والكلام وإضاعة الوقت في هذه الأمور.
لا يخاف الهاشمي على الخط العربي من الكمبيوتر. بل على العكس، فهو يعتقد أن “من الوارد أن يأخذ الخطاط أحرف من قبله عبر قوالب الشف، ولكن هناك أخلاقيات كانت تمنع الخطاطين من هذه الأعمال. فالقيم التي يحملها الإنسان هي التي تقوي وازعه الفني وتمنعه من الخوض في الأمور السلبية. والتكنولوجيا اليوم هي كالوسائل القديمة حضوراً، ولكنها مختلفة من ناحية الأداء وسرعة الإنجاز. فلا شيء يمنع استخدام الكمبيوتر على الوجه الصحيح ضمن أخلاق العمل، وأنصح الجميع بالاستفادة منه وجعله من الوسائل التي تطوِّر العمل الفني”.
“الثقافة الخطية”، جزء من المعرفة المهمة التي تساعد الخطاط في إتقان كثير من جماليات وخبايا فن الخط.
ومن خلال الحديث مع الهاشمي وجدنا أنه يستخدم مصطلح “الثقافة الخطية”، التي عبَّر عنها بأنها جزء من المعرفة المهمة التي تساعد الخطاط في كثير من الأمور الفنية، سواء في تطوير مستوى الخطاط أو الوقت التي يستنفذه في التعليم. فمعرفة التراكيب التي مرت تختصر كثيراً من الوقت في البداية، من حيث انتهى كثير من الخطاطين بدل العودة إلى بداية الأمر، فهناك من يريد أن يكتب نصاً معيناً مركباً وإذ بخطاط آخر قد اجتهد فيه من قبل. فوجود اللوحة المكتوبة سابقاً تختصر للخطاط الوقت اللازم لمعرفة الجهد الذي بذله من قبله، ليبدأ من حيث انتهى. وكذلك في معرفة تاريخ الكتابة والخطاطين، فمعرفة تاريخ الخطاط وتاريخ اللوحة يساعد الخطاط كثيراً في حل كثير من المسائل كالإملاء والاختلاف فيه، لا سيما في المصاحف في باب التنقيط وغيره، وفي فتح كثير من الكتابات المستعصية على من يريد قراءتها، كمن يجد حرف فاء أسفله نقطة! فإن لم يكن يعرف تاريخ الكتابة وكيف كان يقرأها الناس ويتعارفون عليها في تلك الفترة، فلن يستطيع حل هذا الإشكال. فالثقافة جزء من الخطاط، لا أقول بأنها واجبة، ولكن الخطاط المثقف تاريخياً له ملكة خاصة وفكر مختلف في التعامل مع النص والفن بشكل عام.
ويستطيع الخطاط الموازنة بين الثقافة الخطية ومهارة الكتابة من البدء بالأمور البسيطة في تاريخ الكتابة وتاريخ الخط. ويكفي للخطاط أن يتعرف بصفحات قليلة على سيرة بسيطة لخطاط معيَّن تشمل تاريخ الميلاد والوفاة والتلاميذ ومشايخه، أما الخوض الكبير في تفاصيل الخلاف عن سنة الولادة والوفاة والردود فهو أمر غير محبذ للخطاط الذي ينشغل بالخط كتابة، ويستطيع الخطاط أن يتعرف على التاريخ بالنظر إلى ما يكتب أو يقلد، فلو تعرف عمن كتب النص الذي يقلده بطريقة بسيطة لكفته.
وعن سؤالنا له إن كانت هناك طموحات أو خطط معيَّنة يصبو إليها أجاب: أكثر ما أطمح إليه أن أكون لبنة في مسيرة الفن، ومن هذا المنطلق أعمل على تأليف بعض الكتب التي ستكون مراجع مهمة في فن الخط، كتأصيل فن الخط وأخص خط النسخ. فقد امتلأت المكاتب الفنية بالكتب التاريخية، وبدأ المؤلفون بالردود على الاختلافات التاريخية، وبقي تأصيل الفن وأسراره وعلومه في طي النسيان، إلا ما ندر لئلا أخفي جهود البعض.
الخطاط زكي علي حسن الهاشمي
• من مواليد 1982
• يمني الأصل، وحامل للجنسية التركية
• درس اللغة العربية بدرجة بكالوريوس في اليمن، ويدرس الماجستير تخصص «فنون جميلة فن الخط» في جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول
• حاصل على الإجازة العالية في فن الخط من أرسيكا للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية
• له عدة أبحاث في علم الخط، منها:
– «أدب العالم والمتعلم في مسيرة الحرف»
– «الحرف العربي بين المعنى اللغوي والمبنى الفني»
– «الخط العربي وفقدان الهوية التأصيلية»
• يشغل حالياً منصب رئيس مركز أياصوفيا للفنون الإسلامية، ومشارك في كتابة أكبر مصحف شريف في العالم (مصحف الشام) عام 2007
• حاصل على الدكتوراة الفخرية من «الأكاديمية العالمية لعلماء الصوفية» في بريطانيا 2017