قبل أسابيع، غيّب الموت الأديب محمد علي علوان، هذا الرمز البارز من بين رموز القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية. فهو من جيل الوسط الأدبي الذي يقف على الحد الفاصل بين تجربة القصة التقليدية، والقصة الجديدة. وهو أحد بناة القصة الحديثة منذ منتصف السبعينيات الميلادية مع رفاقه من كتّاب القصة أمثال سباعي عثمان وحسين علي حسين وجار الله الحميد. وفي وقفة تحية للقاص الراحل، نتناول هنا جانبًا من منظوره الإبداعي انطلاقًا من إحدى مجموعاته القصصية على سبيل المثال لا الحصر.
قبل أسابيع، غيّب الموت الأديب محمد علي علوان، هذا الرمز البارز من بين رموز القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية. فهو من جيل الوسط الأدبي الذي يقف على الحد الفاصل بين تجربة القصة التقليدية، والقصة الجديدة. وهو أحد بناة القصة الحديثة منذ منتصف السبعينيات الميلادية مع رفاقه من كتّاب القصة أمثال سباعي عثمان وحسين علي حسين وجار الله الحميد. وفي وقفة تحية للقاص الراحل، نتناول هنا جانبًا من منظوره الإبداعي انطلاقًا من إحدى مجموعاته القصصية على سبيل المثال لا الحصر.
المكان هو ما يكوّن شخصيات قصصه
تمثّل مجموعة “دامسة” تطورًا نوعيًا في مسيرة محمد علوان السردية. ففي معظم قصص هذه المجموعة تتكون شخصياتها وفقًا لقانون المكان، وكأن المكان في هذا السياق له سلطة وجودية تلوّن وجود الإنسان بمشاعر متباينة من القلق والتطلع، ومن الخوف والأمل في الخلاص.
ويتجلّى حضور المكان على هذا النحو في اللغة المحكية التي تتسلل في تضاعيف بنية السرد، كما يتجلى في تسمية الأمكنة، واستدعاء دلالة تشي بحضور المكان. هذه بعض التقنيات التي استخدمها علوان للدلالة على المكان. ولذلك، فإن تفريغ الحدث من سياقه المكاني يفقده كثيرًا من دلالته. فالمكان بهذا الحضور الطاغي يحتل وظيفة بنائية وموضوعية تضفي على الحدث حالات استحضار مهمة.
وإذا أردنا أن نتحدث عن تشكّل الشخوص داخل البنية السردية، فإن المكان يحضر ببعديه الاجتماعي والتاريخي كجزء من التركيبة التي تُعين على تفهم نبرة الجدل الحادة بين الشخوص، ولا سيما بين الرجل والمرأة.
تأطير السلوك واللغة بالمكان
تمثّل مجموعة “دامسة” تطورًا نوعيًا في مسيرة محمد علوان السردية. ففي معظم قصص هذه المجموعة تتكون شخصياتها وفقًا لقانون المكان، وكأن المكان في هذا السياق له سلطة وجودية تلوّن وجود الإنسان بمشاعر متباينة من القلق والتطلع، ومن الخوف والأمل في الخلاص.
ويتجلّى حضور المكان على هذا النحو في اللغة المحكية التي تتسلل في تضاعيف بنية السرد، كما يتجلى في تسمية الأمكنة، واستدعاء دلالة تشي بحضور المكان. هذه بعض التقنيات التي استخدمها علوان للدلالة على المكان. ولذلك، فإن تفريغ الحدث من سياقه المكاني يفقده كثيرًا من دلالته. فالمكان بهذا الحضور الطاغي يحتل وظيفة بنائية وموضوعية تضفي على الحدث حالات استحضار مهمة.
وإذا أردنا أن نتحدث عن تشكّل الشخوص داخل البنية السردية، فإن المكان يحضر ببعديه الاجتماعي والتاريخي كجزء من التركيبة التي تُعين على تفهم نبرة الجدل الحادة بين الشخوص، ولا سيما بين الرجل والمرأة.
بين ما يتيحه ويمنعه الواقع
أما قصة “دامسة”، فتصور المرأة بوصفها شخصية تبحث عن الرجل الذي ينقذها. وتُظهر هذه القصة خشية المرأة من مغامرة الرجل في سياق يقلل من فرص اللقاء. غير أن الرجل في القصة يسقط في خيبته وتردده، فرغم أنه قد تولّه بدامسة، فإنه قد عجز أن يخطو خارج هواجسه.
وإذا نظرنا إلى قصة “دامسة” ضمن سياق سردي يجعل من المكان سلطة عليا، نجد أنها قد عبّرت على نحو ما عن علاقة الرجل بالمرأة كبعد واقعي سواء في خصوصية المكان أو تاريخية الحدث. غير أن سيكولوجية العلاقة بين الطرفين في هذه القصة، وانهزام الرجل أمام نفسه وأمام مجتمعه، تجعل من المرأة فانتازيا تقترب من ميتافيزيقية الجن. فدامسة ليست إلا ذاكرة البطل المغلقة، والمضطربة أمام جلال المغيب، كما أن دامسة المغيبة بفعل طقس اجتماعي تغذي قلق البطل الذي تحول إلى صراع مع قوى تحرص على كسر إنسانية العلاقة.
فالبطل، وقد أحب دامسة، وجد نفسه منذ البدء متهمًا في عقله. فدامسة لا تخاطبه إلا لتدعو بزوال عقله: “الله يأخذ عقلك”. ورغم أن السياق الذي قيلت فيه، يفصح عن أن هذه الجملة تُعد تعبيرًا شعبيًا يكتنفه إعجاب ما من قبل دامسة، فإن الدلالة تبدو أكبر إذا رُبطت بالتحول الذي أحدثته القصة في علاقة البطل بها. إن دلالة ذهاب العقل وتغييب المرأة عن جو النص وفصل العلاقة بين البطل ودامسة أحالت هذه العبارة (الله يأخذ عقلك) إلى “موتيف” يحكم وضعية العلاقة في مجتمع يكرس العزلة بين الطرفين.
فعل القتل بين القراءات المختلفة
تأخذ علاقة الرجل بالمرأة في قصة “العرس” بعدًا أحدَّ. فالمرأة لا تشبه في ملامحها دامسة أو امغريبة، بل ترفض السقوط في عتمة الرجل، وتصل إلى حد نفيه عن طريق قتله. فتبتعد القصة من فوضى التعميم إلى التخصيص، ليس لأن الحادثة حالة فردية، بل لأنها تجسد رفضًا مطلقًا للوصاية والقمع والتهميش.
تحفل هذه القصة بسرد سيرة حب لامرأة أوغلت في حب زوجها حتى نسيت أن هناك عالمًا خارج حدوده. غير أنه وقد “شعر أنه الفضاء الممتد الذي لا بد أن تطير فيه طيور أخرى”، نقض العهد والولاء. ولم تعد المرأة تشعر أنها الطائر الوحيد في سماء زوجها، فقد خانها أو تزوج عليها. ومهما يكن، فقد سقط شيء بينهما. شعرت المرأة بأنها وجود غير متحقق في عالم الرجل، أو أنها بالأحرى وجود استثنائي وهي التي نذرت نفسها له فقط من أجل الحب المطلق. لقد شعرت المرأة بخيبة أملها في الرجل وهي التي اتكأت عليه، وأعطته أعز ما تملك من نسغ الروح. ولذلك جاءت ردة فعلها مدمرة ليس تجاه الرجل وحسب، بل تجاه ذاتها أيضًا.
نجحت القصة في تكثيف حدث القصاص من المرأة، قاتلة زوجها وحبيبها. فقد استخدمت تقنية اختزالية عبر تقطيع السرد والإيحاء بالفراغ لنقل الحدث من حالة تتطور عبر أزمنة طويلة إلى لحظة كانت المدينة فيها حزينة في يوم سوقها. إن المتقابلات التي تحشدها القصة للوقوف في خندق المرأة القاتلة متعددة، تبدأ من أن المدينة لم تزدن بالنساء كرمز لرفض المصير الذي تنتظره الأنثى، وتنتهي بالوادي الذي لم يجرِ بالنساء الجميلات. فالإيحاء بأن القتل وقع دفاعًا عن الذات جعل النساء يقفن
على حافة المدينة، ربما يترقبن مصيرًا محتومًا لا يردنه. غير أن القصة تثير دلالة حضور السلطة القابضة على المدينة، ليس باعتبارها سلطة الرجل ضد المرأة. ولهذا، فإن القصة تنتهي بتفوق الرجل عبر إراقة دم المرأة، غير أنها تؤكد طقسية القتل بالنسبة للمرأة، وكأنها في عرس حضرت إليه منتصرة لذاتها ولجنسها.
إن قراءة هذه القصة على أنها سيرة لامرأة قاتلة تُقاد لحتفها تقلل من شفافية الرؤية التي تتشكل من خلال حدث مباشر في بنيته. غير أنه يمكن قراءة حدث القتل كرمز للتهميش والإلغاء. فالقتل في هذا السياق يصبح قتلًا معنويًا لحضور المرأة في بعدها الاجتماعي وفي صراعها الأزلي مع نصفها الآخر.
على حافة الفانتازيا
أما قصة “العسل الأسود”، فهي قصة تختلط فيها الوقائع المادية بالفانتازيا. فتتحول الدلالات من حيز ضيق إلى فضاء غير محدود من التأويل الأسطوري. تسرد القصة في بدايتها تجربة واقعية تاريخية تتمثل في طقس الختان كممارسة اجتماعية احتفالية رغم ما تثيره من متاعب للفرد الذي يمر بأهم تجربة في حياته من خلال هذا الطقس. ومن هنا تنطلق القصة لتبني الرؤية الفانتازية حيث يغدو العسل الأسود رمزًا للتعبير عن الطموح الممزوج بالخوف والترقب.
تجسد القصة ملمحًا من معاناة الفرد أو الرجل في مرحلة الصبا من خلال طقس الختان. والختان هو طقس العبور إلى الرجولة في ذهنية بعض المجتمعات. وهو جزء من تهيئة الفرد لمرحلة أكثر مشقة وتحملًا للمسؤولية. فالفرد في المجتمعات سواء كانت بدائية أم متحضرة يخرج من رحم الطفولة إلى عالم أكثر تحديًا، لكنه في بعض المجتمعات يخضع لامتحان الرجولة، فإما أن يكون قادرًا على العبور أو يسقط في الهامش.
نجحت القصة في الاتكاء على هذا الطقس بأن جعلته محورًا أساسًا للتعبير عن مأزق الفرد في محيطه. فالمكان في هذه القصة لا يقل حضورًا عنه في القصص التي تقدم ذكرها. ذلك أن تاريخية الحدث والتدليل عليه بطقسية اللغة استدعى بنية واضحة المعالم، لكن ما يجعل هذه القصة تكسر طوق المكان في دلالته الضيقة، هو أنها جسدت استلاب الفرد داخل سياق الجماعة لتتحول معضلته من خصوصية مكانية إلى عموم الانتماء العربي، وربما في سياق الانتماء الإنساني الأكبر.
فالقصة لم تكن تسجيلية وصفية لحدث الختان، بل تجاوزت التسجيل إلى البحث عن موقف الفرد من استلابه وعدم قدرته على الخلاص. وهنا تتحول القصة من الواقعي إلى الغرائبي مؤكدة استحالة أن ينمو الفرد بعيدًا عن الجماعة التي هي محكومة بدورها بنسق من العلاقات الاجتماعية المعقدة. وتنتهي القصة بخراب ودمار ينسب إلى الجهل والإهمال. وفي هذا رؤية مباشرة تؤكد البعد النقدي الذي سعت القصة لبلورته.
وعلى المنوال نفسه، تحضر ثيمة العلاقة الجدلية بين الإنسان والمكان في باقي قصص المجموعة، مثل قصة “شارق”، وقصة “ص. ب” التي تجسد اغتراب الفرد المادي؛ إذ يشكل حضوره كعامل في هذا البلد فراغًا نفسيًا يجعله فريسة لانتظار ما لا يأتي من رسائل يُفترض أن تأتيه من وطنه. فينتفي حضوره ووجوده النفسي بشكل متزامن في المكانين، ولا يبقى إلا حضوره الذي يتحول إلى قيمة خالية من حضور الفعل الإنساني في حياته.
باختصار، تعد هذه المجموعة إضافة مهمة ليس فقط بالنسبة لقصص محمد علوان، بل لمسيرة القصة السعودية التي أخذت على عاتقها التعبير عن هموم الفرد في سياقه الاجتماعي والتاريخي.
اترك تعليقاً