كان الموسيقار كلود ديبوسي (-1862 1918م) غير منضبط في دراسته في معهد الموسيقى ويحتقر النجاحات السهلة. لكنه عندما شرع في التأليف الموسيقي، لاقت أعماله الموسيقية عامة و”سيمفونية البحر” خاصة، استهجاناً وممانعة، وانتقاداً شديداً عند تقييمها للمرة الأولى. فقد عمل هذا الموسيقار على تحرير نفسه من التقاليد الرومانسية، وأحدث ثورة في الموسيقى الفرنسيـة والعالميـة ما زال أثرها الفني وصداها الجمالي يتردَّد في صالات الموسيقى عبر أرجاء العالم.
تأثر ديبوسي ببحر الانطباعيين
تاريخياً، كانت هناك روابط قوية تجمع بين الموسيقى والتصوير، خاصة في القرن التاسع عشر، حين ازدهر الرسم الانطباعي. ومن نتائج ذلك، الروابط القوية التي جمعت بين الموسيقار ديبوسي والرسام كلود مونيه اللذين كانا صديقين ومساهمين في إنتاج منجز فني فريد نسجه تفاعلهما الإبداعي بين التأليف الموسيقي المثير عند ديبوسي وفن الرسم المذهل عند مونيه.
في بيت هذا الأخير شاهد ديبوسي لأول مرَّة لوحة “الموجة الكبيرة” التي رسمها الفنان الياباني هوكوساي في عام 1832م. وتمثل هذه اللوحة موجة عاتية ترتفع إلى السماء وهي تطوي بهديرها مقدِّمتها مستفيدة من اندفاع الرياح الشديد. ويقال إن الفنان الياباني استوحاها من مشهد لصيادي التونة في عرض البحر الياباني. وكان ديبوسي يهوى بشكل خــاص الرسومــات التي تجسِّـد البحـر. وكان تأثـره الأول بلوحـات صديقـه مونيه. لكن ما الذي جعل هذين القامتين الفنيتين تستحوذان على مخيلتهما ومشاريعهما الفنية فكرة وصورة البحر؟
خلال الربع الثالث من القرن التاسع عشر، ساد في باريس مناخ فني أقل إبداعاً وأكثر صرامة. وفي مواجهته، نسج مونيه علاقات ودية مع رسامين آخرين من أمثال رينوار وسيسلي. وأراد هؤلاء الرسامون الهروب من قيود اللوحة النيوكلاسيكية. وبالمثل، أراد مؤلفو الموسيقى في ذلك الوقت، الانعتاق من قواعد الموسيقى الكلاسيكية الصارمة. وهنا وجد كل من مونيه وديبوسي السند في عمل الآخر.
سيمفونية البحر بين الترحيب والرفض
في منطقة بورغون، بعيداً عن الأمواج والمحيطات، ألّف كلود ديبوسي سيمفونية “البحر”، ووضع مخططاتها الثلاثة خلال صيف عام 1903م. وفي ذلك الوقت، لم تَعُد شهرته تحتاج إلى إثبات، إذ صار ناقداً ومؤلفاً موسيقياً معترفاً به، وحاصل على وسام جوقة الشرف.
في غضون عامين فقط، أنهى ديبوسي العمل. وطلب وضع لوحة “الموجة الكبيرة” للفنان الياباني هوكوساي على غلاف مؤلفه الموسيقي. وحسب كاتب سيرة ديبوسي، الكاتب الفرنسي أريان شارتون، فإن سيمفونية “البحر” تستلهم بقــوة لوحـات “مونيـه، وتورنر وهوكوساي”.
عندما قُدِّمت سيمفونية “البحر” في 15 أكتوبر 1905 في باريس، واجهها النقد الفني بالترحيب والفهم تارة وتارة أخرى بالرفض والاحتجاج.
ففي اليوم الأول، من عرضها، زعزعت السيمفونية ذائقة الجمهور. ولم تكن تعليقات النقاد مشجعة بل كانت من قبيل: “موسيقى مارقة”، “غامضة وبدون عظمة”، “صوت خشن وفي كثير من الأحيان غير محبوب”… وهذا ما أدخل ديبوسي مرحلة من الحيرة والشك، حتى صار يشعر أنه ليس فناناً موسيقياً كبيراً.
في يناير 1908م، وخلال الشهر الذي تزوج فيه من إمّا بورداك، قرر دو بوسي خوض غمار قيادة الأوركسترا بنفسه، فأعاد النظر في جوانب عديدة كما يظهر من مخطوطاتها. وكانت تلك تجربته الأولى في قيادة فرقة موسيقية أمام الجمهور. لكنها لاقت نجاحاً خلافاً لكل التوقعات، ورغم النقد السلبي الذي استمر لبعض الوقت. فالجمهور خرج راضياً عن الموسيقى والتوزيع وقيادة الفنان الكبير. ورغم أن ديبوسي لم يمنحها ساعتها اسم “سيمفونية البحر” بشكل صريح، فإنها تشبه البحر إلى حد كبير. فهي مقسمة إلى ثلاث حركات، تحمل الأولى اسم “من الفجر حتى الظهيرة على البحر”، والثانية “حركة الأمواج”، والثالثة “حوار بين الرياح والبحر”.
مراحل تأليف سيمفونية البحر المضطربة
تقول الانتقادات التي واجهها ديبوسي إنه قام بتركيب مقطوعات موسيقية غير منسجمة ومتناسقة، أي حاول تركيب ما لا يُركّب وعزف ما لا يُعزف. وأدى هذا إلى شعور بالخيبة لازم الموسيقار وأزعجه كثيراً، ودفعه إلى التصريح بأنه لا يؤلف سيمفونيات موسيقية وأن المصطلحات الفنية لا تهمه، لأن النقاد هم من يطلقونها ويلغونها. أما هو فيؤلف موسيقى حرة لا تخضع لقوالـب جاهـزة ولا تلتـزم بقيود ملزمة.
أما في الواقع، فقد كانت التركيبة الموسيقية لسيمفونية “البحر” تتجاوز عصرها، فهي على المستوى العاطفي كانت نتيجة سلسلة من الأحداث المضطربة التي عاشها ديبوسي بكل حواسه وانشطاراته. فبعد خمس سنوات من زواجه من ليلي روزالي إنهار الزواج. إذ كانت روزالي لا تهتم بعمل زوجها، كما أن وضعها الصحي المعقَّد لم يساعدهما في استمرار علاقتهما.
في عام 1903م، وقع ديبوسي في حب إيما بارداك، وهي امرأة مثقفة في الأربعين من عمرها تقريباً. وحدث توافق فوري بينهما. وفي عام 1904م، تعاظمت علاقتهما، واصطحب الفنان ملهمته إلى شاطئ النورموندي، وبالتحديد إلى جزيرة جيرزي، ثم إلى ساحل بورفيل، وهما المكانان اللذان ألهماه بعض صفحات سيمفونية “البحر”.
من جانبها، لم تستطع الزوجة ليلي التغلب على الرسائل الجافة التي كان يرسلها لها زوجها في بعض المناسبات. فهدَّدته بالانتحار، وبالفعل، أطلقت النار على بطنها في أكتوبر 1904م، لكنها نجت بأعجوبة. وقد تناولت الصحافة الفرنسية هذه القضية وأسهبت في تفاصيلها. وعلى إثرها، فقد ديبوسي عديداً من أصدقائه، كما أن طلاقه منها كان شديد الصعوبة. في هذه الأجواء المضطربة كانت تضطرم سيمفونية البحر وتتألف تدريجياً، وعلى مقاس عنيف من المشاعر الحزينة والمفرحة في آن واحد. ففي 30 أكتوبر 1905م، وضعت إيما بنتاً، وبعد خمسة عشر يوماً أنهى ديبوسي كتابة سيمفونية “البحر”. ولعل هذا ما يفسر الإيقاع الموسيقي اللطيف والمرح الذي يختتم الحركة الثالثة.
————————————————
تعليق الصور:
اترك تعليقاً