لاحظت، مبكرًا، زوجتي وهي تتمتم بكلام أثناء بحثها عن مفقودات البيت، من مفاتيح وأقلام وأقراط وخلافها، ولم أسألها عمّا كانت تتمتم به يومًا، فلم يكن الموضوع يشغلني.
وحينما قرأت ملف “المتروكات” في عدد مجلة القافلة 699 يوليو – أغسطس 2023م، الذي كتبه بعناية وجمال منقطع النظير، الروائي والكاتب المصري محمد عبدالنبي، وبمشاركة من فريق التحرير، وجدت فيه حديثًا ماتعًا عن المفقودات، وسألت زوجتي أخيرًا، فأخبرتني أنها كانت تردد سورة الضحى؛ لأن جدتها كانت تعثر على مفقوداتها بفضل هذه السورة الشريفة، وقد أخذَت ذلك عنها. فسألتها: وهل كان لها مفعول ملاحظ؟ لكنها تركتني وأشاحت بيدها؛ كأنها خافت من مواجهة سؤال المنطق، أو لعلها لا تود أن أعبث بمسلماتها الموروثة، كما أفعل دائمًا.
موضوع “المتروكات” من الموضوعات التي يرتبط مجرد التفكير فيه بشيء جوهري داخلنا، وربما يكون بداخل كل الأرواح، البشرية وغير البشرية. ما زلت أذكر ذلك الغراب الذي ظل يهاجمنا في الطفولة، والذي عبثنا بعشه وأخرجنا منه فرخه الصغير، فظل يتابعنا لأيام حتى خشينا على رؤوسنا من منقاره الحاد. وكذلك الكلاب التي كنا نتسلط على جرائها في مزرعة جدي، كانت لا تكف عن ملاحقتنا.
وقد تنبّه الكاتب إلى هذا النوع من الفقد الروحي، في الجزء الذي تحدث فيه عن الشيخ محمد العدوي، الذي يتبعه أصحاب في هذه المهنة، جماعة المنادين، والذي ذكر فيه مفارقة كونهم من المكفوفين، وهذا من العجب. ليتني كنت أعرف هذه الأسطورة حينما اتصلت بي زوجتي من داخل عالم “والت ديزني” في مدينة أورلاندو الأمريكية. كنت حينها في القاهرة أتمتع بإجازتي السنوية، حين أخبرتني: “لقد أضعتُ ابنك الصغير!”. لو كنت وقتها أعرف هؤلاء المنادين لوقفت في صفوفهم، وقلت: “نظرة يا عدوي”. لكنها، وبعد أقل من نصف ساعة، اتصلت مرة أخرى لتخبرني أنهم وجدوه يجري خلف دمية ميكي ماوس. ولا أظن أنني شعرت بفقد شيء في حياتي مثل فقد ولدي في نصف الساعة تلك.
لفت انتباهي في الملف عنونته بـ”متروكات”، بينما أدخل الكاتب ببراعة فيه المفقودات. والفرق بين المفردتين واضح، فعلى أن الصفة يصح إطلاقها على الشيء نفسه، إلا أن في مفردة المتروكات إيحاء بالتخلي، فالذي يجد الشيء يصح له أن يسميه متروكًا، بينما الذي فقده الأصح أن يسميه مفقودًا، فلا وجاهة في أن يبحث الشخص عمَّا تركه. وهذا البعد اللغوي جعلني أعيد قراءة الملف بحثًا عن لبس متوقع، لكنني لم أجد لبسًا، بل وجدت روعة وإتقانًا وانتباهَ عارف بدهاليز اللغة. ووجدت أيضًا رشاقة في انتقالات الكاتب من مفردة إلى أخرى، وهذا دليل على تمكن الكاتب، وإيمانه بالفكرة، واندماجه في حالة إبداعية، ما جعلني أنظر إلى أدبية الكتابة، واشتباكها مع الجزء الصحافي، وهذه مزية أن يكتب الأديب في الصحافة الجديدة.
فالصحفي يكتب وفي عينيه النظرة الاستقصائية، التي قد توقعه في فخ لذة المعلومات الجديدة. والأديب قد يذهب إلى الوجدانيات ويهمل جوهر الصحافة، القائم على تقديم المعلومة. والكاتب الذي يمتلك الموهبة والجدية في البحث، يمكنه وحده أن يجمع الاثنين معًا، وهذا ما وجدته في هذا الملف الفريد من نوعه، والذي جمع فيه الكاتب بين الذاتي والموضوعي، وبين الفني والواقعي، فيما يشبه الكولاج الذي تحدّث عنه داخل الملف، وربطه بذكاء مع موضوع المتروكات. وهذا الفعل ذكرني بمقولة كنت قد قرأتها في مكان لا أتذكره الآن، عن أحد فناني الكولاج، إذ قال: “أنا لا أخترع، أنا أجد فقط”، في إحالة إلى تكوين هذا الفن القائم على نبشٍ في قمامة العالم، بحثًا عن إمكانية وجود جمال متروك أو مهمل أو غير مقدر. وقد وجدت بنفسي شيئًا من هذا الجمال في ملف المتروكات. ولعل أبرز ما فعله الكاتب في هذا الملف هو انتباهه لشكل من أشكال البلاغة الجديدة، التي تضع الأمور المتساوقة بعضُها بالقرب من البعض الآخر؛ ليظهر جمالها.
وإذا ما حاولنا استنطاق الملف بشكل أكثر دقة، سنجده رغم تذرّعه بالأدبية، لم يتخلّ عن شوارد الموضوع، ولا عن أضداده، فقد استوفى فيه الجوانب النظامية، التي كوّنت في العصر الحديث هيئات ومؤسسات لرعاية هذه المتروكات، والتي كان أبرزها وأكثرها ثراءً متروكات باريس. ومن التنظيمات إلى الأساطير الشعبية، والجمال الكامن في سرديتها، ومن ثم إلى المتروكات في الفن والشعر والرواية، وحتى في الغناء العربي. ومن أثر الحنين إلى أثر جنون التمسك والحيازة، المضاد للترك والتخلي، والذي صُنف هوسًا مَرضيًا، تحت مصطلح اضطراب الاكتناز القهري. وبهذه السياحة في موضوع المتروكات عبر الزمان والمكان والذاكرة، قدَّم لنا محمد عبدالنبي وفريق التحرير تحفة فنية، وقطعة أدبية، لا تتخلى عن الشق المعرفي، ولا عن البعد الاستقصائي، في تجانس فني ولغوي قلما نجد مثيله.
اترك تعليقاً