مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2019

في نقد النقد


عبود عطية

في معرض التقديم لمعرض فني، وصف أحد أبرز الشعراء العرب الحداثيين أعمال الفنان بأنها تعبير عن “اللاشيئية التاريخية”! وعندما سألنا واحداً من مريديه (من دون أن نذكر اسم الشاعر) عن معنى “اللاشيئية التاريخية”، أجاب: “لا معنى لها”.
فمنذ سبعينيات القرن الماضي، ظهر شكل من “النقد” الأدبي والفني القائم على استخدام مفردات من الفلسفة وعلمي الاجتماع والنفس في معرض تعظيم بعض الأعمال الفنية والأدبية، وكأن العمل الإبداعي لا يمكنه أن يكون عظيماً إلا إذا أغنيناه بتعليقات فلسفية تتعالى على مستوى الفهم عند العامة. وهذه البدعة ليست محلية عربية، بل هي ظاهرة موجودة في الغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على أقل تقدير.
من الممكن استعمال لغة الفلسفة وعلم النفس عندما يدور الحديث عن الفن من زاوية الفلسفة أو علم النفس، أما إذا كانت الغاية تعظيم الفنان أو عمله فهي غير مجدية في شيء، سوى في تعزيز القطيعة بينه وبين جمهوره المحتمل.
والواقع أنه حتى النقد بلغة صحافية مفهومة عند القارئ، لا يخلو في كثير من الأحيان من التعظيم المبالغ فيه والمثير للنفور منه، مثل الحديث عن فنان “تجريدي” لا يزال في أول الطريق وتأثره بأساتذة عصر النهضة!
بالانتقال إلى الأشكال الأرقى والأكثر جدية في الكتابة النقدية، نلاحظ طغيان المنهج القائم على الشرح وتحليل بنية العمل الفني أو الأدبي. وهذا المنهج في النقد هو من دون شك ذو قيمة وفائدة بالنسبة “لأهل الصنعة” أي الذين يدرسون الآداب والفنون أو سيعملون فيها.
النازية في ألمانيا ألغت نقد الفن، واعتبرت أن على النقاد أن يفسروا العمل الفني من دون التعليق عليه (لأنها حصرت حق التقييم بالسلطة السياسية التي كانت تقيّم كل الآداب والفنون انطلاقاً مع ما ينسجم مع أيديولوجيتها). ولهذا، من المدهش أن يعمل بهذا التوجه أناس مهمتهم الأولى تقييم العمل الفني، أي إطلاق الأحكام عليه.
فللنقد وظيفة أساسية وتاريخية وحيوية، هي تقريب العمل الإبداعي من المجتمع الذي يتوجه إليه هذا العمل. وتكتسب هذه الوظيفة مزيداً من الأهمية في عصرنا الذي يشهد وفرة هائلة من الأعمال الإبداعية التي صارت في متناول الواحد منا، بفعل سهولة المواصلات والاتصالات والتقنية الحديثة. ولكي يتمكن النقد من تأدية هذه الوظيفة عليه أن يطلق أحكاماً.
والأحكام الواضحة، السلبية منها أم الإيجابية، على قيمة أو أهمية أي عمل فني أو أدبي، هي ذات مفاعيل عديدة. أهمها حث الجمهور على تلقف العمل الإبداعي الذي يستحق التلقف. وعندما يكون الناقد حَكَماً موثوقاً بصواب أحكامه، سيستجيب الجمهور لدعوته. كما أن للناقد الحَكَم دوراً يلعبه إلى جانب المبدع، فيصوّب له ما يراه ضعفاً هنا، أو خللاً هناك، أو يرشده إلى ما يساعده على تطوير إنتاجه.
ولكن، على ماذا يجب أن يستند الحكم عند الناقد كي يكون صائباً؟
الجواب هو: على الحساسية.
وهذه الحساسية يجب أن تكون ذات طبيعة استثنائية. فإذا كانت عميقة، ومنفتحة، ومهذبة، ووليدة تربية فنية عميقة واطلاع واسع، وذات خيال يمكنه أن يلتحم بخيال الفنان لمعرفة ما يريد أن يقول، يصبح من الممكن لهذه الحساسية أن تطلق أحكاماً صائبة، يثق بها الجمهور، فينفتح على العمل الفني أو الأدبي ويحتضنه، الأمر الذي يبدد الإحساس بالغربة عن كثير من الأشكال الفنية والأدبية المعاصرة التي لا تخاطبه مباشرة، حتى أعلاها قيمة.
وبشيء من الشجاعة، يمكن الإقرار بوجود هذه الغربة في حياتنا الثقافية اليوم، غربة لا المبدعون يتحملون مسؤوليتها ولا الجمهور، بل غياب الجسر الذي يجب أن يربط بينهما.


مقالات ذات صلة

يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


0 تعليقات على “في نقد النقد”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *