مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2019

ثقافة الحمية الغذائية ولغتها المضللة


مهى قمر الدين

هي حولنا في كل مكان، نجدها في الكتب المخصَّصة لأنواع الحميات المختلفة التي غالباً ما تصبح على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وعلى أغلفة المجلات، وفي البرامج التلفزيونية التي تقدِّم لنا النصائح الغذائية على مدار الساعة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعية، حيث تطالعنا إعلانات من هنا وهناك، تدور كلها في فلك النحافة وكيفية الحصول على الأجسام الرشيقة، من ترويج أنواع الشاي المنحّفة إلى طرق تحضير الوجبات الخفيفة، مروراً بأساليب تنظيف الجسم من السموم. كما نجدها في الدعوات للاشتراك في النوادي الرياضية لصقل أجسامنا تشبهاً بأجسام “مثالية” نجدها على صور الإعلانات في كل مكان، وفي ممرَّات السوبر ماركت، حيث تحظى المنتجات “الخفيفة” على المكانة المتقدِّمة على الأرفف البارزة، حتى إنها باتت جزءاً لا يتجزأ من أحاديث الأصدقاء. إنها ثقافة الحمية (الشائعة باسميها الإنجليزي: دايت، والفرنسي: الريجيم) التي بدأت تفرض علينا مجموعة من الأفكار والقيم والعادات تضع التركيز على الوزن والشكل والحجم أكثر من الصحة وسعادة العيش.

من أين أتى هذا الهوس بالنحافة وضرورة فقدان الوزن للوصول إلى شكل من أشكال الأجسام المثالية؟ ومنذ متى راح الأطباء وشركات المنتجات الغذائية على حد سواء يجنون الملايين من انشغال الناس باتباع الحميات والسعي للحصول على “الأطعمة الصحية”؟ لا أحد يعرف بالضبط منذ متى وضع البشر المثل الأعلى للجسم المثالي كمعيار، لكننا نعرف أين ومتى اخترعت كلمة “حمية”، فهي أول ما ظهرت في اليونان القديمة. في سياقها الأصلي، لم تركِّز كلمة diaita فقط على تناول بعض الأطعمة لتحقيق فقدان الوزن، بل كان المقصود منها تحديد طريقة حياة كاملة تشمل الطعام والشراب ونمط الحياة والتمرين. وباستثناء نصيحة الجري من دون ملابس والقيء المنتظم، لا تزال توصيات النظام الغذائي اليوناني القديم تبدو وكأنها نصيحة معقولة للغاية.
ففي كتابها “السعرات الحرارية والكورسيهات: تاريخ الرجيم على مدى ألفي عام” تقول الباحثة لويز فوكسكروفت عن اليونايين القدامى: “إنهم لم يفهموا كل شيء بشكل صحيح، لكنهم كانوا يعلمون أن العقل السليم والجسم الصحي ضروريان من أجل مجتمع ناجح”.
وبعد تلك المبادئ التي رسمها اليونانيون القدامى ظهرت مواقف مختلفة بالنسبة للسُّمْنة والنحافة على مر العصور. فكانت السُّمْنة في أوروبا في القرون الوسطى ناتجة عن جشع الملوك والطبقات الغنية، على عكس الطبقات الفقيرة التي كانت تعاني من قلة التغذية. كما كانت السُّمْنة تُعدُّ في بعض الأحيان معياراً أساسياً من معايير الجمال لا سيما عند المرأة. وكان ذاك المفهوم نفسه موجوداً في البلدان العربية حيث نجد بعض المدائح بالمرأة الممتلئة. فكانت المرأة العبلاء أو الخديجة أو البرمادة أو خرساء الأساور هي المرأة الجميلة، بينما كان العرب يتعوذون بالله من المرأة النحيفة – الزلاء (خفيفة الشحم): ويقولون: “أعوذ بالله من زلاء ضاوية كأن ثوبيها عُلِّقا على عود”.

على الرغم من صدور أول كتاب عن الحمية الغذائية في عام 1558 في إيطاليا بعنوان “فن العيش طويلاً” من تأليف شخص يدعى لويجي كورنارو، استغرق الأمر بضع مئات من السنين لكي تصبح ثقافة الريجيم راسخة في مختلف المجتمعات.

وعلى الرغم من صدور أول كتاب عن الحمية الغذائية في عام 1558 في إيطاليا بعنوان “فن العيش طويلاً” من تأليف شخص يدعى لويجي كورنارو، استغرق الأمر بضع مئات من السنين لكي تصبح ثقافة الريجيم راسخة في مختلف المجتمعات. وكان الحافز الأكبر على ذلك هو تطوّر وسائل الإعلام الجماهيرية في القرن التاسع عشر، وبروز ثقافة المشاهير والصور المغرية قبل وبعد وظهور إعلانات الأنظمة الغذائية. فأدَّى كل ذلك إلى تغذية الشعور بالعار والقلق اللذين راحا يدفعان الناس إلى الاستياء من أجسامهم، وإلى السعي في بلوغ الصورة المثالية التي كانت ترسمها الإعلانات. فانتشرت في الأسواق مجموعة هائلة من أنظمة الأكل الجديدة والأطعمة التخسيسية والمستحضرات والمشروبات والأجهزة الكهربائية. وراجت عمليات شفط الدهون وتنظيف القولون في العالم السفلي للطب، حيث استغل الأطباء النساء، بشكل خاص، اللواتي كن على استعداد للمعاناة من الألم وعدم الراحة لفترات طويلة وإنفاق الأموال الطائلة على خفض الدهون الزائدة. بدأ كل ذلك منذ نحو 100 سنة، واستمر حتى الآن، مما أدَّى إلى قيام صناعة هائلة تجني الأرباح الطائلة وتتغذَّى على ثقافة الحمية الغذائية هذه.

نظرة معمَّقة في اللغة المستخدمة فيها
ولكن بغض النظر عن كيفية وأسباب رسوخها بهذا الشكل، فقد حوَّلت هذه الثقافة الوظيفة الطبيعية للأكل عن حقيقتها، وحصرتها في حلقة مصطنعة من الترقب والقلق والشعور بالذنب. وراحت تشوِّه علاقة الأشخاص بأجسامهم وتزرع فيهم شعوراً دائماً بالنقص.
هناك جوانب مضلّلة عديدة في هذه الثقافة الحديثة. فإذا ما دقَّقنا عن كثب بلغة النظام الغذائي الحديث التي تتواجد على الإنترنت وعلى لوحات الإعلانات وعبوات الطعام وفي وسائل الإعلام، نجد عبارات تصف الطعام بأنه “ضار” أو “غير ضار” أو حتى “جيد”، وكلها عبارات تعزِّز فكرة أن الطعام ذو طبيعة أخلاقية، وأن قيمة الفرد بالتبعية تزيد أو تنقص بناءً على ما يأكله ويزنه. كما أن هناك لغة أخرى تصف الطعام بأنه “يزيل السموم” أو “نظيف” أو حتى بأنه “طعام خارق”، ولكن الحقيقة تقول إنه لا يوجد هناك طعام خارق على الإطلاق سواء أكانت طحالب السبيرولينا أو بذور القنب أو بذور الشيا أو التوت البري، لأنها، وببساطة، تقدِّم الفيتامينات نفسها والعناصر المفيدة تماماً مثل تناول قطعتين من أي فاكهة موسمية أو وعاء من الأرز مع القرنبيط. أما بالنسبة لطرد “السموم”، فهذه وظيفة من وظائف الكبد والكلى التي باستطاعتها التخلص من السموم بشكل جيد تماماً.

وثَمَّة جانب مضلل آخر هو شيطنة بعض الأطعمة مثل اعتبار السكر سماً قاتلاً، ولكن على الرغم من أنه يمكن للسكر بكميات كبيرة أن يسبب مشكلات صحية لبعض الناس، إلا أنه على عكس السيانيد أو الزرنيخ هو طعام وليس سماً على الإطلاق. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تقدّم النصائح بالابتعاد عن الأطعمة المصنعة، ولكن تلك الأطعمة يمكنها أن تشمل كل شيء بدءاً من الهوت دوغ والأجبان المعلبة إلى العدس المقشور الذي يتم تجفيفه وتقشيره والسبانخ المجلد (مما يُعدُّ نوعاً من أنواع التصنيع). لذا، هناك شكوك كبيرة في هذه التسميات المختزلة.
تمتد هذه اللغة إلى ما يتجاوز ما نأكله إلى كيف نتحرّك أيضاً. إذ غالباً ما يتم تأطير التمرين كعمل لتصحيح الأذى الذي قد يصيبنا مما أكلناه في وقت سابق، وذلك عندما يقول المرء لنفسه: “لقد أكلت كثيراً الليلة الماضية، لا بد لي من الذهاب إلى صالة التمارين الرياضية اليوم”. ولكن هذا الأمر يتجاهل حقيقة أن أجسامنا مصممة للنهوض والتحرك مرات عديدة خلال النهار، كما ينبغي بنا، وباستطاعتنا أيضاً أن نتمتع بالتمرين الذي نقوم به. وليس هناك شكل من أشكال التمرين “أفضل” بطبيعته من غيره، إذ ليس تمرين “الكروس فت”، على سبيل المثال، أفضل بالضرورة من الركض اللطيف حول الحديقة أو ركوب الدرَّاجة، لأن الشدة ليست هي الهدف بحد ذاتها، بل إن الحركة المنتظمة يمكنها أن تكون مفيدة وممتعة بحد ذاتها.
تعمل جميع هذه الأمثلة وكل الوسائل التي تعتمد عليها ثقافة الريجيم الطاغية على الفكرة الضمنية القائلة إن النحافة هي حالة متفوقة من الوجود. ولكن الحقيقة هي أنه لمجرد أن شيئاً ما يؤدي إلى فقدان الوزن لا يعني أنه مفيد. وكما كتب الكاتب المختص بالطعام مارك بيتمان والطبيب ديفيد ل. كاتز مؤخراً في مقال مشترك لهما: “ليس كل ما يسبب فقدان الوزن أو التحسن الأيضي الواضح على المدى القصير فكرة جيدة. فعلى سبيل المثال، تسبب الكوليرا انخفاضاً في الوزن ونسبة السكر والدهون في الجسم، ولكن ذلك لا يعني أنها أمر جيِّد”.

صعوبة التحرُّر منها
تقول الدكتورة لورا توماس صاحبة كتاب “فقط كُلها” إن “ثقافة الحمية الغذائية موجودة في كل مكان.. فهي متداخلة في نسيج حياتنا اليومية بسلاسة، ونحن نكاد ألَّا نلاحظ وجودها على الإطلاق”. وقد يكون هذا هو السبب الذي يجعل من الصعب التحرُّر منها. إذ أننا في كثير من الأحيان لا نلاحظ اللغة التي تحدد أجندتها المرتكزة عل النحافة، لأنها اللغة الوحيدة التي نعرفها”.

ثَمَّة جانب مضلّل هو شيطنة بعض الأطعمة مثل اعتبار السكر سُمَّاً قاتلاً، ولكن على الرغم من أنه يمكن للسكر بكميات كبيرة أن يسبب مشكلات صحية لبعض الناس، إلا أنه على عكس السيانيد أو الزرنيخ هو طعام وليس سُمَّاً على الإطلاق.

وفي الواقع، ربما يكون الجزء الأصعب من التحرُّر من ثقافة الحمية الغذائية هو التعود على أن بإمكاننا التعرف على أجسامنا جيداً بما يكفي لنثق بها. فنحن لا نحتاج إلى مجموعة من القواعد أو الأحكام أو أنظمة الإصلاح السريع لإخبارنا كيف نشعر بالراحة في أجسامنا. إنه أمر بعيد المنال، ولكن مع القليل من اللطف الموجه نحو الذات هو أمر ممكن تحقيقه للجميع. وقد يكون ذلك بالعودة إلى بعض المفاهيم المتداخلة في صلب الثقافة العربية الإسلامية كما في حديث للرسول – صلى الله عليه وسلم – حين قال: “نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع”، وكما نجد أيضاً في كتاب “البارع في اللغة” لأبي علي القالي الذي يعود إلى عام 356هـ، وذلك في القسم المتعلق بألفاظ الطعام وصفاته حين تحدث عن التخمة وضرورة الابتعاد عنها عندما نقل شعراً عربياً يقول:

 زرت امرءاً في بيته حقبة    له حياءٌ وله خير
 يكره أن يُتخم أصحابه       إنّ أذى التخمة محذورُ
 ويشتهي أن يؤجروا عنده     بالصوم والصائم مأجورُ

الفرق بين الحمية الغذائية وصوم شهر رمضان
إذا كانت ثقافة الحمية الغذائية تتعلَّق بالطعام وتتمحور حول مفاهيم مختلفة للنظام الغذائي الأنسب، فإنَّ صيام شهر رمضان المبارك يتعلَّق بالطعام أيضاً، ولكن فقط من ناحية الساعات المسموح فيها تناوله، من دون أن يستغل رغباتنا الأعمق، ومن دون أن يتلاعب بنا من أجل غايات مادية. وإذا كانت كل الأنظمة الغذائية التي تدور في فلك ثقافة الحمية الغذائية تفرض احتفاءً بالطعام ودراسته وتحليل فوائده وأنواعه، فإن الصوم هو احتفاء بالابتعاد عنه، ومن ثم ببساطة الوجبات من خلال ممارسات غذائية متواضعة، وذلك على الرغم من أن الوجبات الفخمة بدأت تحل محل هذه الممارسات البسيطة على نحو متزايد، ولكنها وبالتأكيد تبتعد عن روح الشهر الكريم.
وثقافة الحمية الغذائية تعتمد على ابتداع أنظمة غذائية تبرز من هنا وهناك، تنتشر بسرعة ومن ثم تختفي من حمية البحر الأبيض المتوسط إلى حمية نظام اتكينز إلى حمية باليو أو رجيم العصر الحجري إلى حمية الغذاء الخام إلى حمية النظام الغذائي المكروبيوتيك. أما النظام المفروض في شهر رمضان فهو نظام يتحدى الزمن، ويعتمد على إحساس جماعي بضبط النفس عن الملذات على أساس مبادئ عابرة للحدود الجغرافية واللغات والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
وبينما تولد ثقافة الريجيم اهتماماً شعبياً بالنحافة وفقدان الوزن، فصوم رمضان لا يهدف إلى ذلك على الإطلاق. ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فله فوائد مباشرة على الصحة من ناحية طول العمر والوقاية من الأمراض، من الألزهايمر إلى محاربة الالتهابات إلى سلسلة من الأمراض الأخرى التي يستطيع الجسم مقاومتها من خلال عملية الصوم. وقد أثبت ذلك كثير من الأبحاث العلمية التي تحدثت عن منافع الصوم عبر الحضارات المختلفة يعود بعضها إلى القرن السادس عشر عندما وصف الطبيب الألماني-السويسري براكلسوس الصوم بأنه “طبيب الجسم الداخلي”. ومن ضمن الأبحاث الحديثة، دراسات عديدة قام بها الدكتور فالتر لونجو، عالم الأحياء الخلوي والباحث المختص بالصوم في جامعة جنوب كاليفورنيا، وأكد فيها أنه خلال الصوم: “يبدأ كثير من الأعضاء في الانكماش مما يؤدي إلى موت كثير من الخلايا، ولكن هناك أدلة مؤكدة على أن كثيراً من هذه الخلايا التي تموت في هذه العملية هي الخلايا السيئة. ومن ثم يقوم الجسم بإحياء الخلايا الجذعية، وهكذا يبدأ في تجديد نفسه.” وباختصار، وحسب لونجو، فإن “الصوم يحمل القدرة على الشفاء”.
ولكن أبعد من هذه الفوائد الصحية فإن صوم شهر رمضان يرتكز على معادلة فريدة تتمحور حول صيام الجسد وغذاء الروح، من دون اختصاصي تغذية ولا أطباء ولا شركات غذائية. وبأمر إلهي، يساعدنا الصوم على تنظيف سموم مزدوج لأجسامنا ونفوسنا أيضأ. فيعطي لأجسامنا قسطاً من الراحة ويعزَّز في نفوسنا الإيمان والتقوى. وهكذا بينما تسرق ثقافة الحمية الغذائية حياتنا عندما تجعلنا ندور في دوامة الانشغال الدائم بالطعام وجمال الجسم، يعطينا الصوم الحياة بكل ما فيها من خير وسمو ورضا.


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


رد واحد على “ثقافة الحمية الغذائية ولغتها المضللة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *