الكاتب عبدالعزيز العيسى والمخرج خالد زيدان يطرحان رؤية مختلفة وفريدة لشخصيات الهامش عبر فِلم “عثمان”، تتأرجح بين السعي إلى المكانة، ورفض المشاركة في لعبة الحياة بحسب قوانينها الصلبة. فِلم قصير ومربك، يدعو إلى التأمل والتفكير، ولا يمكن صبّه في القوالب الجاهزة، وتقود نهايته المفتوحة إلى الكثير من الأسئلة التي تبقى من دون إجابات حاسمة.
الحياة في لبّها حالة دائمة من الصراع، تختلف أشكاله وتتنوع؛ صراعٌ يومي مع الواقع، وصراعٌ مع الماضي، وصراعٌ مستمر ومحموم مع المصير، وفي خلفية كل هذه الصراعات يقف سؤال المعنى محركًا ودافعًا حينًا، ومثبطًا ومعطلاً في أحيان أخرى. لعبة كبيرة يقف الإنسان حيالها حائرًا، من دون أن يجد الدليل. وما يؤجج هذا القلق الوجودي، هو ألَّا يتغير شيء في وجه الحياة، رغم كل ما يُبذل من جهد.
فِلم “عثمان” هو تجربة حياتية مركّبة، تختزل كثيرًا معالم الصراع في صورة البطل، الذي رُسمت شخصيته بعناية كبيرة، لتنسجم معالم قلقه الوجودي الذي يشغل ذهنه دائمًا مع إيماءاته وتصرفاته، وحتى صمته. شخصية لا تقول الكثير، ولكنها تهمس بكل شيء في الآن نفسه. شخصية محملة بالكثير من الأفكار، وتعتمل داخلها رؤى متضاربة ومتناقضة. شخصية تتطلب الكثير من التأمل والجهد لفهمها وتفكيك أبعادها.
إن هذا الفِلم الذي قاد صنّاعه للفوز بجائزة الشراع الفضي في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة لمهرجان الإذاعة والتلفزيون بدولة البحرين، ليس قصّة بسيطة وسطحية عن حارس أمن يعاني الفقر وقسوة الظروف، ثم يقرر أن يتمرّد؛ بل هي أمثولة تصهر معاني الحياة الكبرى في ثناياها.
معضلة الفِلم القصير: كيف تنتصر في مواجهة الزمن؟
الأفلام القصيرة مثلها مثل القصص القصيرة تُوقع المشاهد والقارئ في ربكة البحث عن المعنى. النص يكون كثيفًا ومحملًا بمضامين كثيرة، مع شبه غياب للحوارات، إذ ليس هناك من مجال لتقديم الشخصيات وخلفياتها، فيجد المشاهد نفسه وسط المعترك فجأة وبلا سابق إنذار، يسابق نفسه ليفهم، ويحاول ملاحظة كل التفاصيل علّها تساعده في فكّ الأحجية. تجربة صعبة بعض الشيء، وإن كانت لا تخلو من تسلية.
على الطرف المقابل، يكون الأمر أصعب، حيث يصارع الكاتب الزمن ليقول ما لديه. وعبدالعزيز العيسى يحبّ هذا النوع من المغامرات المليئة بالفخاخ، ويجيدها. هذا ما يقوله فِلم “عثمان”، الذي انتصر فيه كاتبه على الزمن، واستطاع أن يروي قصّة متماسكة تناقش الدوافع الإنسانية والعناصر النفسية المتضاربة التي تصنعها.
كذلك وظّف المخرج خالد زيدان القيمة البصرية بشكل باهر في الفِلم من أجل التغلب على عامل الوقت. إيماءات بطل الفِلم (أحمد يعقوب) مكّنت عبور العديد من الرسائل والأفكار، وكذلك فعلت حركة الكاميرا، فاستحضرت المكان ليكون عاملًا مهمًا في البناء الهيكلي للفِلم. وكان للوصلات الموسيقية القصيرة دور فاعل ومهم في إكمال الشكل الدرامي. خلطة مميزة في نسيج متجانس، جعلت الانتصار على الوقت ممكنًا.
صراعُ الحياة بين العبث والمسؤولية والتمرد
يبدأ الفِلم بمشهد افتتاحي غريب ومثير للدهشة، يأخذ المشاهد إلى عالم آخر، ولكنه يرتبط بالقصة الرئيسة ارتباطًا وثيقًا. يقدم أولى لمحات الصراع، من خلال حوار مقتضب يصور التناقض بين وجهتي نظر متعارضتين، ويمهد للحبكة الرئيسة على غرار افتتاحيات الأفلام الهوليوودية.
بعد ذلك، يقدّم الفصل الأول (تكرار)، مع استعارة معجمية: “إعادة الشيء وأداؤه أكثر من مرّة”. يكون اللقاء بالشخصية الرئيسة في سيارته القديمة والمهترئة، وهو يسمع أغنية لـ”نينا سيمون” ويردد خلفها بصوته الثقيل: “إنه فجر جديد، إنه يومٌ جديد، إنها حياة جديدة أمامي”. ولكن سرعان ما تتناقض الأغنية الحالمة مع الواقع الصعب، وتتعطل السيارة، وينهار الأمل بالفجر الجديد.
تتطلب قراءة هذا الفِلم فهم الإرث الأدبي والفلسفي لـ”المذهب الوجودي” وكبار روّاده ومنظريه. إذ يشير تقديم شخصية (عثمان) بأغنية جاز تقليدية، تزجي الأمل في الروح رغم كل السخط المتراكم، إلى جان بول سارتر، وروايته الشهيرة “الغثيان”، حيث شخصية “أنطوان روكونتان”، الساخط الأكبر، الذي يجد العزاء لقلقه الوجودي في الفن متجسدًا في شكل موسيقى الجاز. هذه الإحالة ليست عابرة، بل سيقدم عبدالعزيز العيسى مفهوم “المسؤولية” بكل أبعاده وتناقضاته في شخصية عثمان بتوالي الأحداث.
الفصل الأول من الفِلم هو المفتاح، فهو يعرض بشكل كامل مسببات الغثيان الذي سيقود إلى الهجرة. يتميز هذا الفصل بتكرار ممل وخانق، وروتين يولد السخط. يعاني البطل مصاعب الحياة، مثل تعطل سيارته، وساعات دوامه الطويل، وفقدان نقوده، وشعوره بالسقوط في الهوة. أحداثٌ كثيرة، ولا يحدث شيءٌ حقًا. نوافذ كثيرة يقف عندها، ولا متنفس، ويمرّ أمام أبواب ولا يجد مهربًا. يعيش حياته المهترئة محاولاً التسليم لها، فيما يمارس القلق لعبته عليه. أسئلة كبرى تدور في ذهنه، نستشفها من حواراته مع كل من حوله، خاصة زملاءە في العمل، الذين يتعاملون معه كشيء، لا يرونه أكثر من حاجز البوابة الذي يرتفع ويسمح لهم بالدخول. ليس إنسانًا بآمال وأحلام وتطلعات، وكلما حاول الخروج من هذا القالب، أعادوه إليه عبر الإيماءات والكلمات: “لا تنسَ نفسك، أنت مجرد أداة لها وظيفة محددة. العب دورك كما هو. لا تكثر الكلام، ولا تحاول أن تتدخل فيما لا يعنيك. تراجع إلى الخلف وقم بدورك المرسوم لك”.
بعد انتهاء عمله، يذهب إلى حيه الشعبي ليعيش حياة مختلفة. يشتري طعامه اليومي من نفس المطعم، ويأخذ ملابسه إلى المغسلة. يتخلص من قميصه المتسخ، ويبقي عليه ملابسه الداخلية، ويحمل القمصان النظيفة على كتفه استعدادًا ليوم عمل جديد.
في أثناء عودته إلى المنزل تبدأ عملية التأرجح الوجودي، فنراه يتصدّق على المرأة المسنة المقعدة التي يقف طفلها إلى جانبها. وهذا ملمح ينمّ
عن المسؤولية الأخلاقية، كما نظّر لها سارتر في رؤاه الفلسفية. لعثمان حريّة الفعل والإرادة، فرغم كل ما يقاسيه من آلام ومآسٍ، وضيق في العيش والمال، يقرر وفق رؤيته الخاصة أن يؤدي دوره في التبرع لمساعدة امرأة عجوز تستجدي الناس لتسد رمق أبنائها. إن هذا الفعل هو جزء من رؤية شاملة للعالم كما يتصوّره.
يصل إلى المنزل ويصعد مئات الدرجات، مارًّا بكل الشقق التي يتسرب من تحت أبوابها صوت الحياة، مثل مباريات كرة قدم بتعليق صاخب، ونقاشات عائلية، وضجيج الأصدقاء في حواراتهم. ومع ذلك ليس له نصيبٌ من هذا. شقّته البائسة في الطابق العلوي يعمّ داخلها صمتٌ يشبهه، صمت يقول الكثير عن السخط الذي تشكّل داخله.
وهنا تتلبّسه شخصية وجودية أخرى، مناقضة لوجودية سارتر، وهي رؤى ألبير كامو عن رفض العالم، واللامبالاة بكل شيء، لتجسيد العبث. داخل الشّقة يتحوّل عثمان إلى “الغريب ميرسو”، رجل غير عابئ بأي شيء يحيط به، يضع طبق البيتزا الرخيص أمامه، وإلى جانبه شراب المانغو الرخيص كذلك، ويبدأ بالأكل أثناء مشاهدة وثائقيات الحياة البرية. لا يتفاعل مع شريكه في السّكن وهو يروي له حكاية الفتاة التي طلبت منه نقل سيارتها، ولا يهتم بأخبار سيارته التي غالبًا لن يقودها مرّة أخرى، ولا يُلقي بالاً لكل المأساة التي تحيط به. يذهب إلى النوم على فراشه الأرضي، من دون أن يفسح المجال لشريكه؛ كي يكمل ما يقوله.
في الفصل الثاني (مكيدة)، والفصل الثالث (الهجرة)، تبدأ الأحداث في التصاعد، وتتضح صورة الشخصية الرئيسة بشكل أكبر. ما زال عثمان يتأرجح على بندول قلقه الوجودي، وما زال سخطه يتنامى ويكبر. الحوارات مع المحيطين به تأخذ منحى أكثر حدّة، وميله نحو الانعزال يصبح أوضح. كل ما يجري يصبّ في بحر الحبكة الرئيسة: كيف سيتفاعل عثمان مع الضغط الذي يتزايد لحظة بعد أخرى؟
الثيمة الأهم في الأعمال الوجودية هي العزلة والتمحور حول الذات. يرى عثمان نفسه كبطل مهزوم في مفهومه الخاص، ويظهر ذلك بين لا مبالاته بمصيره، وشعوره الداخلي بأن عالمه مدين له بأن لا يواجه كل ما يواجهه. تتكشف الصورة كاملة أمامه، ويفهم أن عليه رفض خوض لعبة الحياة وفق قوانينها الصارمة. فتبدأ ثورته على كل ما يحيط به.
التحوّل الأخير في شخصية عثمان وهو تحوّل وجودي آخر، يحيلنا إلى نص “بول شريدر” البديع في فِلم (1976م) Taxi Driver، وشخصية “ترافيس بيكل”، الذي يزجي السخط، ومن ثمَّ يصل إلى الانفجار العنيف بالتمرد على كل قوانين الحياة. وهنا يأتي فصل “الهجرة”، التي رفضها في بادئ الأمر حينما اقترحها عليه شريك سكنه، غير أنه يعتنقها هذه المرّة وفق رؤاه الخاصة. فيسرق سيارة الرجل البغيض الذي مثّل السلطة التي جعلته حبيسًا لزي “حارس الأمن” وفاقدًا لشعوره بالوجود بوصفه إنسانًا.
في نهاية الفِلم، يكون عبدالعزيز العيسى قد توّج التجربة الحياتية التي خلقها بالانتصار على المصير المحتوم. ويصبح كلّ هذا المزيج الوجودي متسقًا عندما نعود إلى قراءة تدوينة كتبها العيسى في عام 2017م، ليستعرض رؤاه عن السيناريو السينمائي: “لا بد من أن يواجه البطل صراعًا طوال الفِلم سواء أكان الصراع نفسيًا أم من خلال شخصية عدوّة للبطل”. صراع عسير لشخصية تشبهنا ونعرفها ونلتقيها، يقول الكثير من دون أن يقول شيئًا تقريبًا.
اترك تعليقاً