ينال الطفل الرضيع الجميل من الدلال والاهتمام والابتسامات أكثر من نظيره العادي، ويحصل التلميذ الجميل على درجات أفضل من زملائه المتساوين معه في المستوى العلمي، ممن لا يتمتعون بالقدر نفسه من الحُسن. وترافقه هذه الميزة عندما يتخرج ويبحث عن وظيفة، فتكون له الأولوية على سواه. وعند الزواج تفتح له الأبــواب أكثـر من غيــره. حتى في أكثر الأماكــن حياديــة، وهي المحاكم، تحظى شهادته أمام القاضي بصدقية أكبر. هذه القناعــة الشائعة منذ قرون تبدو وكأنها ما زالت موضع تصديق من كثيرين، وهي أن الشخص الجميل المظهر، جميل المخبر أيضاً.
ليس من المستغرب أن يقضي الفلاسفة في اليونان القديمة، أوقاتاً طويلة في نقاشات حول الجمال، وأن يكون الشغل الشاغل للفنانين من معاصريهم هو تجسيد هذا الجَمَال في آثارهم، التي ما زالت تأخذ بالألباب. لكن إنسان القرن الحادي والعشرين، الذي لا يجد الوقت للسكون والتدبر والتأمل، في حياة سريعة الإيقاع إلى أقصى حد، ما الذي يجعله ينفق سنوياً حوالي 140 مليار دولار على مستحضرات التجميل؟ كيف نفهم أن تقوم فتاة أوروبية تعمل في مجال التقنيات الحديثة، بعملية تجميل لكي تصبح نسخة من تمثال نفرتيتي الفرعونية؟ وهل صحيح أن سر اعتبار الممثلة الأمريكية أنجيلنا جولي من أجمل النساء على الإطلاق، أن ملامحها تشبه نفرتيتي؟
هل كان الجَمَال أمراً مرتبطاً بثقافة ما وعصر ما، أم إنه مطلق في كل وقت ومكان. هل يبرِّر ذلك أن ينبهر أشخاص بلوحة لبيكاسو، في حين يراها بعض أنها سخيفة وساذجة لا تستحق أن يُنظر إليها؟
في إفريقيا يتزيَّن الرجال والنساء بحلي كثيرة، وملابس مزركشة، ويتحمَّلون عذابات هائلة عند كي جلودهم حتى يحصلوا على أشكال مميزة لهم، وتقوم نساء إحدى قبائل إثيوبيا بوضع أقراص معدنية ضخمة في أفواههن، تجعل الشفاه تمتد وتمتد لتصبح بمقاييس الطبق، ويرى الناس هناك أنهم أصبحوا بذلك أجمل، وفي الصين القديمة كانت الفتيات يتعرَّضن لعذاب من نوع مختلف، وهو أن توضع أقدامهن في أحذية ضيقة للغاية، حتى لا تنمو وتظل صغيرة الحجم؛ لأن ذلك رمز للجمال. وفي ميانمار وفيتنام تعيش قبيلة في الجبال، ترتدي الفتيات هناك منذ الصغر حلقات معدنية حول رقابهن لتصبح طويلة، فالزرافة هي مثلهن الأعلى.
ومن يستنكر هذه التقاليد، ويرى فيها دليلاً على “تخلف” هذه الشعوب، فما عليه إلَّا أن ينظر في ظاهرة انتشار الوشم في مختلف المدن الأوروبية، الذي لم يعد مستتراً تحت الملابس، بل أصبح هناك من يغطي ملامح وجهه كله بالوشم، وكذلك بالأقراط المعدنية التي تملأ الآذان والأنوف والشفاه، إضافة إلى تلوين الشعر بكل ألوان الطيف، ووضع قطع مغناطيسية تحت الجلد، وشيوع قصات شعر بدأت عند مجموعة من نجوم كرة القدم، ثم انتقلت إلى ملايين الشباب والأطفال، بل وحتى عند كبار السن. وإذا أبدى المرء استغرابه، حتى لا نقول استهجانه لما يعدّونه حرية شخصية، فإن الذين يفعلون ذلك يوضحون أن ذلك نوع من الجمـال، لكنه مختلف.
وثمة نقطة جوهرية في موضوع الجَمَال، وهي ما إذا كان الجَمَال أمراً مرتبطاً بثقافة ما وعصر ما، أم أنه مطلق في كل وقت ومكان. هل يبرِّر ذلك أن ينبهر أشخاص بلوحة لبيكاسو، في حين يراها بعض أنها سخيفة وساذجة لا تستحق أن يُنظر إليها؟ هل يعشق الأوروبيون سمرة البشرة لندرتها عندهم، ويحب الأفارقة والهنود بياض البشرة للسبب نفسه؟ ولماذا يحرص اليابانيون على احتفاظهم بالبشرة الفاتحة اللون وكلهم بيض؟ وكيف يمكن تبرير وجود ملكة جمال للعالم، يعترف كل الناس من كل الأطياف بأنها فائقة الحُسن؟ وما الذي يجعل الناس في بقاع مختلفة من العالم يحلمون بالتشبه بنجوم السينما الأمريكية أو الهندية ومشاهير الموضة؟
حقيقة الجَمَال
لا يوجد مجال في الحياة لا يلعب الجمال فيه دوراً محورياً. فالجمال لا يقتصر على البشر، بل هو موجود في الطبيعة وكثير من عناصرها. وينفق الناس مبالغ باهظة من أجل اقتناء الأشياء الجميلة، من بيوت أو سيارات أو أثاث، ويحدِّدون وجهة سفرهم لقضاء العُطلة والاستجمام في الأماكن الجميلة. ولا يقف تأثير الجمال على ما تراه العين، فالموسيقى وتغريد العصافير وأصوات بعض الأشخاص كلها يمكنها أن تكون جميلة. كما أن الناس يعشقون الرائحة الجميلة، سواء أكانت صادرة عن عطر أو زهرة أو عن طعام. لذلك يقال إن الجمال مثل القوة والسلطة يفرض سيطرته عليك، فتصبح عاجزاً عن مقاومته، يسلبك إرادتك وتصبح رهينة له.
كثير من العلماء المتخصِّصين في الأدب والفن، وفي الفلسفة، وفي الطب، وفي الرياضيات، وفي علم الأخلاق، درسوا الجَمَال وعرضوا نتائج وآراء لكل منها وجاهتها، تستفيد منها شركات مستحضرات التجميل، ومئات المجلات التي تبيع الوهم للباحثات والباحثين عن الوصفة السحرية للحصول على الجمال، ومسابقات ملكات الجَمَال، والفنَّانون والمعماريون وشركات صناعة الأثاث، ومصممو الملابس.. الكل شريك في الترويج لهذا الحُلم الذي يراود الإنسان منذ مطلع البشرية.
الزاهدون في الجمال البشري، يشدِّدون على أن جمال المظهر، ليس سوى قشرة خارجية، وأن العبرة بالجوهر، بأخلاق الإنسان وسمو روحه وصفاء قلبه ورقي فكره. ولكن المشكلــة أن الانطبــاع الأول عن أي شخص يتشكل لدينا في اللحظات الأولى من رؤيته، ويؤثر في نظرتنــا إليه، قبل أن نعــرف شيئاً عما يجول في نفسه، أو طريقة تفكيره. فهل الحل هو غض البصر مع الجميع، حتى لا نتأثر بهذه القشرة الخارجية؟
لا يوجد مجال في الحياة لا يلعب الجَمَال فيه دوراً محورياً. فالجَمَال لا يقتصر على البشر، بل هو موجود في الطبيعة وكثير من عناصرها. وينفق الناس مبالغ باهظة من أجل اقتناء الأشياء الجميلة، من بيوت أو سيارات أو أثاث، ويحدِّدون وجهة سفرهم لقضاء العُطلة والاستجمام في الأماكن الجميلة.
هناك من يرى أن جمال المظهر هو انعكاس لجمال المخبر، فكل جميل فيه خير، ومن يتمتع بهذه الهالة الخارجية، يسعى دوماً إلى أن يكون عند حُسن ظن مَنْ حوله، فيرتقي بروحه وخُلقه حتى يحصل الانسجام بين ظاهره وباطنه. لكن وقائع كثيرة تُثبت أن الأمر ليس صحيحاً بالضرورة.
وهناك رأي مشابه لكنه لا يرى أن الشخص يقوم بتجميل جوهره، إذا كان مظهره جميلاً، بل العكس هو الصحيح، أي إن الشخص الذي يتمتع بجمال السريرة ورقي الخلق، يسود داخله سلام مع النفس يجعل كل من حوله يراه جميلاً. ويعني هذا الرأي أن مظهر الشخص نفسه قابل للتغير، طبعاً لن يصبح أنفه أصغر، ولن يتغيَّر لون عينيه، ولا شكل شفتيه، لكن دراسات طبية أظهرت أن المرأة تصبح أكثر جاذبية في الفترة التي يكون جسمها مستعداً للحمل، وذلك بسبب إفراز الجسم لهرمونات، تجعل البشرة أكثر نضارة، أي إن مسألة تغيير المظهر واردة، لكن لا علاقة لها بالأخلاق، حسب هذا الرأي الطبي.
وهناك دراسات من نوع آخر، جمع القائمون عليها صوراً لأشخاص حسني المظهر، وفحصوا هذه الوجوه بدقة. وتوصلوا إلى أن هناك مواصفات معيَّنة يتفق عليها غالبية البشر، تتعلَّق بحجم الأنف والفم، وشكلهما، وكذلك بالنسبة للحواجب والرموش، والجبهة. الطريف أن هناك معادلات رياضية مشتركة بين كل الأشخاص الحسني الشكل، حول المسافة الفاصلة بين مكونات الوجه.
ويتفق كثير من المتخصصين في هذه الدراسات على أن القضية ليست في مدى استيفاء الشخص لهذه المعادلات الرياضية فحسب، بل هناك مسألة لا تقل عنها أهمية، وهي التناسب بين مكونات الجسم كله، والانسجام بينها، أي إن وزن الشخص أو طوله ليسا أهم المعايير، بل مدى التناسق والانسجام بين أعضاء الجسم كلها، لأن ذلك يتفق مع طبيعـة النفس البشرية.
الجَمَال ونحن
قبل الخوض في مسألة علاقتنا بالجمال، لا بد من الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من البشر لا ترى في نفسها جمالاً. فأكثر من %90 من الرجال والنساء، ينظرون في المرآة، ويشعرون بأنهم لا يملكون الحُسن الذي يتمنونه، والسبب في ذلك أنهم يقارنون أنفسهم بالأشخاص الذين يرونهم في الإعلانات وفي الأفلام وعلى شاشات التلفزيون، مع أنهم يدركون أن الصور التي تظهر على أغلفة المجلات أو على لوحات الإعلانات، إنما تعرَّضت للتعديل والتغيير والتحسين والتجميل، بكل برامج الفوتوشوب المتوفرة والمتطوِّرة، القادرة على تصوير سيدة في الخمسين من عمرها، كما لو كانت في العشرين، وتحويل أكثر الرجال قبحــاً ودمامة إلى فتى وسيم”.
هناك من يرى أن جَمَال المظهر هو انعكاس لجَمَال المخبر، فكل جميل فيه خير، ومن يتمتع بهذه الهالة الخارجية، يسعى دوماً إلى أن يكون عند حُسن ظن مَنْ حوله.
العقدة التي تبدو غير مفهومة، هي أن الغالبية العظمى من الناس، تقارن نفسها صباح ومساء بهذه الصور، رغم معرفتهم أن هذه الصور لا تعكس الشكل الحقيقي لهؤلاء الأشخاص، بل إن كثيراً جداً من هذه الصور ليست لأشخاص حقيقيين، بل هي صور خيالية لأشخاص افتراضيين من الكمبيوتر وليسوا من لحم ودم، ومع ذلك تمضي النساء أوقاتاً طويلة ليتزيَّن، كما أن الرجال أيضاً أصبحوا يهتمون بمظاهرهم أكثر من أي وقت مضى. ولم يعد الأمر يقتصر على ممارسة الرياضة، لإظهار العضلات والرشاقة، ولا المبالغة في الاهتمام بتصفيف الشعر، بل أصبحوا لا يتورعون عن إجراء العمليات التجميلية، وإن بمعدلات لم تصل إلى المعدلات عند النساء بعد. لكنهم يبدون على الطريق إلى ذلك، لأن وسائل الإعلام لم تعد تركِّز على المرأة الجميلة فقط، بل أصبحت تهتم بالقدر نفسه بوسامة الرجل، وتطالبه بأن يفعل شيئاً لكي يصل إلى المواصفات المثالية التي تروج لها.
إذاً ما الحل؟ هل نتوقف عن مشاهدة التلفزيون ومطالعة المجلات ومواقع الإنترنت؟ خاصة وأن استطلاعات الرأي تثبت أن غالبية النساء يشعرن بالضيق بعد كل مرة يطالعن فيها المجلات المخصصة للمرأة، التي تحرص على تقديم صور محدّدة الجمال، وفائقة الحُسن، مما يستحيل على الغالبية العظمى من النساء أن يتبارين معها؟
الطريف أن مجلة أوروبية أرادت أن تقضي على هذه المعضلة، فأعلنت في عام 2010م أنها ستنشر على غلافها صوراً لأشخاص عاديين، ومن دون إجراء تعديلات على صورهم، فحظيت باهتمام بالغ، وتعاطف من القرَّاء والقارئات، لكن بعد فترة وجيزة تراجعت مبيعاتها بشدة، لأن الناس لا يشترون المجلات لكي يروا أشخاصاً عاديين مثلهم.
الجَمَال الحقيقي؟
عند سؤال الناس عن أهمية توفر الجمال في شريك حياتهم فإن الغالبية العظمى ترد بالإيجاب، لكن الطريف أن نسبة أكبر منهم تشدِّد على أن يكون هذا الجمال حقيقياً. لذلك، كثيراً ما تنتهي العلاقات قبل أن تبدأ، وذلك عندما ينشر شخصاً صورة له، تجعله يبدو بالغ الحسن، وعند رؤية الآخرين له يظهر بصورة مختلفة تماماً. ومواقع الإنترنت مليئة بصور الفنانين قبل الشهرة وبعدها، وكثيراً ما يكون الاختلاف بينهما هائلاً، بحيث يصعب تصديق أن الأمر يتعلق بالشخص نفسه.
ولكن أين هي تلك الحدود الفاصلة بين الحقيقة والزيف؟ هل هناك فرق بين تغطية الندبة التي على الوجه بمساحيق التجميل، وبين إجراء عملية تجميل تزيل هذه الندبة؟ وإذا كان علاج حبوب الشباب بالأدوية أمر مقبول، فهل إزالة أي بقع تركتها هذه الحبوب بعملية جراحية يُعدُّ زيفاً؟ هل محكوم على الشخص المولود بتشوهات خلقية أن يعيش طول عمره بهذا الشكل، الذي يجعل الآخرين ينفرون منه؟ أم إن من حقه أن يتولى جراح تعديل شكل الأنف أو الأذن أو الشفاه، لكي يعيش بصورة طبيعية؟
يرى البعض أن الجمال أمراً يحتاج إلى تربية فنية للتعرف عليه، وأن صفوة المجتمع توفر لأطفالها هذه المهارة، الأمر الذي يجعلهم بعد كبرهم يرون ما لا يراه غيرهم.
هناك قول شائع عند الحديث حول هذه المسألة، وهو أن المهم ليس أن يكون الجمال حقيقياً أو زائفاً، المهم أن يبدو حقيقياً، أي أن يكون الجرَّاح ماهراً إلى الدرجة التي تجعل نتيجة عمله، غير قابلة للكشف.
يرى البعض أن الجمال أمر يحتاج إلى تربية فنية للتعرف عليه، وأن صفوة المجتمع توفر لأطفالها هذه المهارة، الأمر الذي يجعلهم بعد كبرهم يرون ما لا يراه غيرهم، كلوحات بيكاسو سالفة الذكر، أو النمط المعماري لمتحف أو مبنى، يراه كثيرون شاذاً لعدم قدرتهم على فهم ما فيه من إبداع.
يرد عليهم آخرون بأن الجمال كامن في النفس البشرية منذ الولادة. والدليل على ذلك ما أثبتته تجربة علمية على أطفال رضع، إذ تبيَّن أنهم يطيلون النظر إلى صور الأشخاص الذين يتمتعون بالجمال، ولا يفعلون ذلك مع الأشخاص العاديين، أي إن هؤلاء الرضَّع اكتشفوا هذا الجمال، قبل أن يتعرَّضوا لأي مؤثرات اجتماعية أو ثقافية.
الجَمَال واجب إلزامي
الطريف أن التاريخ شهد مرحلة أدبية وفنية قرَّرت أن تتوقف عن الاهتمام بالجمال. وظهرت أعمال أدبية لا تهتم بجمال المفردات ولا بالموسيقى اللفظية، بل بالمضمون الذي يصدم القارئ، واعتبرت ذلك إبداعاً من نوع آخر. وكذلك أصبحت هناك أعمال فنية تركِّز على أشياء عادية بل وقبيحة، لتكتشف جمالها. وحتى اليوم، توجد أعمال فنية مصنوعة من القمامة، وصور لأشخاص تثير وجوههم في النفس الفزع، وكأن العالم قد سئم الجمال.
لكنَّ عالم اليوم يرى أن من حق كل إنسان أن يفعل أقصى ما يمكنه لكي يكون جميلاً، طالما أن الجمال هو مفتاح السعادة في عالم اليوم. وظهر مصطلح (حق تقرير المصير الجمالي)، وأن من يتكاسل عن ممارسة الرياضة، ومن لا يصفف شعره بما يتناسب مع شكل وجهه، ومن لا يختار ملابسه بعناية، وينتقي الصور التي يرسلها في طلبات العمل بدقة، هو من يظلم نفسه. فقد أصبح الجمال واجباً إلزامياً، وفرض عين على كل شخص.
المشكلة هي أن كثيرين يفصلون بين أنفسهم وبين أجسامهم، وكأن الجسم عبارة عن موقع إنشاء، يستمر العمل فيه طوال العمر، أو كأنه مادة قابلة للتعديل والتطوير بمنأى عن الشخص نفسه، أو كأن الجسم ليس هو الهوية، أو جزء منها على الأقل. هل يمكن أن تعيش طوال عمرك بديناً، ثم تفقد نصف وزنك، وتظل الشخص نفسه؟ إنه سؤال آخر، لا بد من التفكير فيه ملياً.
شكرا جزيلا للكاتب الررررررااااااائع الاستاذ أسامة أمين على هذه الجولة والرحلة الررررررااااااائعة مع الجمال.
من أجمل ما قرأت في هذا الموضوع 🌹
لقد استمتعت لأقصى درجة بالمقال، لا سيما بالجولة البانورامية في ذات المفهوم بين الحضارات المختلفة. لكنه قصير للغاية بالمقارنة مع موضوعه شديد العمق والكثافة، تمنيت لو أنه جزءً ثانياً وثالثاً ورابعاً يتبع هذا المقال ويناقش بالنظرة البانورامية ذاتها وبالعمق نفسه هذا المفهوم الفلسفي الأهم في الحياة الإنسانية. فالكون كله قائم على فكرة الجمال بكل أبعادها ومعانيها التي تصل أحياناً إلى درجة التناقض الفلسفي فعند بلوغنا طرف المفهوم من عند آخر امتداد على الجانب الأيمن المتخيل نفاجأ بأننا نلتقي بطرفه الآخر المضاد له عند جانبه الأيسر المتخيل فيصبح اوج الجمال هو أوج القبح (إن جاز أن يكون القبح هو النقيض الفلسفي للجمال) في نقطة التقاء واحدة. ويصبح النسبي مطلق والمطلق نسبي ويحمل كلاهما المعنى ذاته أمام هذا المفهوم المحير، وقد تعرض الكاتب الأستاذ أسامة أمين في مقاله لهذا التناقض الفلسفي المهم، حينما تحدثت عن مفهوم الجمال عند القبائل الأفريقية والبدائية وهي بالطبع نظرة نسبية من جانبهم هم، ولكن إذا أخذنا جولة أخرى وجولات مع هذا المفهوم يتبين لنا أنه خلف المجسد والمادي من المفاهيم تكمن مفاهيم مجردة يتحد فيها الجمال في أفريقيا البدائية مع الجمال في الغرب المتحضر ويصبح النسبي مطلق في هذه المفاهيم المجردة.
أشكر الأستاذ أسامة أمين على هذه الجرعة الثقافية والفكرية العميقة والجميلة وأتمنى أن تمتد وتطول.
علم الجمال علم متفرد بذاته.. ومن خلاله نستطيع صياغة معالم الحياة حولنا كما يجب..
المبدع أسامة أمين اختصر ملامح هذا العلم من خلال هذه المقالة.. أبدع وأمتع وأسبغ كل الجمال علينا..