بعد 30 معرضاً فردياً و45 معرضاً جماعياً على مدى خمسين سنة، أصبحت لأعمال الفنان اللبناني حسن جوني بصمة خاصة، يسهل على العين أن تكتشف صاحبها من النظرة الأولى إلى أي من لوحاته المغمورة بالألوان الزاهية، والحاملة في طياتها موضوعين أثيرين على فؤاد هذا الرسام: أولهما المكان، وثانيهما شخصيات هذا المكان.
المكان في لوحات جوني هو القرية والمدينة على السواء، إلا أن مدينة حسن جوني أي بيروت، أقرب ما تكون إلى قرية، أو إلى “عنقود قُرى”. فالرسَّام الذي وُلد في العام 1942م، أمضى طفولته وفتوته في حي زقاق البلاط البيروتي، الذي كان أقرب إلى قرية على ضفاف المدينة في تلك الفترة. وكانت منازل هذا الحي، على الرغم من فقر سكانه، مبنية وفق تصميم هندسي هو خليط بين النموذج التركي والفرنسي والقرميد الأحمر الآتي من القُرى الجبلية في لبنان.
كان جدُّ الرسام جوني قد ترك قريته في جنوب لبنان نحو بيروت المزدهرة اقتصاداً وأعمالاً وفنوناً وثقافة في خمسينيات القرن الماضي. وفي الحي الفقير الذي يستقبل فقراء النازحين، استأجرت العائلة غرفة صغيرة من بيت كبير، وسط جيران يجمعهم الفقر، ويكاد يتشارك معهم حتى الهواء. وُلد حسن الصغير وكبر يحيطه أناس كُثُر بمزاجات متفاوتة وأصوات مختلفة وأشكال كثيرة وحكايات كان يتابعها بصمت من وراء طفولته. ولذا يقول اليوم: “كلما عدت إلى ذاتي ألتقي بحشد من الناس ومظاهرة من الوجوه”.
لكن بيروت حسن جوني وبيوتها تدمَّرت مرَّات ومرَّات، في الحروب اللبنانية ومن ثم في الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982م، وخلال حرب يوليو 2006م، ومن ثم في الانفجار الكبير الذي ضرب بيروت في 4 أغسطس من العام الجاري. وهو على الرغم من ذلك لم يرسم الدمار، بل أصرَّ على الاحتفاظ ببيروت القديمة على قماش لوحاته كما تبدو له في الذاكرة. ولم يدفعه الدمار المتتالي إلى ألوان الحِداد القاتمة، بل ظلَّ وفياً لألوانه “القزحية” الفرحة التي تعجن القرية والطبيعة وألوانها والمدينة “القروية” في معجن واحد.
التأثير الاجتماعي البيروتي
ولادته في أسرة فقيرة وكان هو كبير إخوته، دفعته إلى تحمُّل المسؤولية صغيراً. فعرف شظف العيش والشروط الصعبة لتحقيق حلمه بحياة كريمة في سنٍّ مبكرة. وهذا ما شكَّل لديه إحساساً بالتعاطف والتضامن مع فقراء الأحياء البيروتية، ومع أناسها الذين يمضون نهاراتهم في أزقتها ومقاهيها القديمة التي كانت تنتشر في أنحائها. فتضيف شخصيات الرسَّام حسن جوني تعريفاً مختلفاً للمكان في لوحته، ممسوحاً بمسحة إنسانية وعاطفية. فالأمكنة المادية بأبنيتها ونوافذها وقرميدها وشرفاتها وأزقتها ومقاهيها وطاولاتها وكراسيها وصحفها والبحر الأزرق الذي غالباً ما يحضر في هذه اللوحات، كلها يُعاد تعريفها بأناسها وسكانها، بوجوههم وحركاتهم داخل اللوحة، التي قد تعبِّر عن فرح أو قلق أو حزن، أو اندماج في المكان. وكأن الألوان التي ترسم الناس وأماكنهم، تخلق كائناً واحداً مندمجاً ومتكاملاً.
صمود الألوان الزاهية
حسن جوني هو رسّام بيروت القديمة التي يحتفظ بها في ذاكرته، وبيروت هي موضوع حسن جوني الأثير. فيقول في إحدى مقابلاته محاولاً شرح سبب احتفاظه ببيروت القديمة موضوعاً للوحاته حتى الحديثة منها، أن هذه المدينة محكومة بلعنة تراجيدية من جهة، وبجمالها الاستثنائي من جهة أخرى، فهو هكذا يحاول عبر اللوحة القبض على المكان قبل تغيره أو زواله.
المشهد المديني أساس اللوحة “الجونية”، من المقهى إلى سلوكيات روَّاد المقاهي، ومن الناس الذين يستريحون على مقعد في كورنيش البحر، إلى المحتمين من المطر بالمظلات، والباعة المتجولين، والذاهبين والآيبين من قراهم بالحافلات الكبيرة، وأصحاب الحوانيت والعشاق في ضوء القمر، والنازحين المهجّرين مع أمتعتهم على مناكبهم، قبل أن تحط الريشة رحالها على تصوير مشاهد الأبنية المترنحة والحافلات المشحونة بأهل القرى وألوان البساتين، والسائرين في شوارع المدينة التي يمنحها وجودهم واكتظاظهم وتحركاتهم وتنقلهم “مدينيتها”.
حساسيات متناقضة
لا يبخل الرسّام اللبناني بشرح وجهة نظره حول المدينة، وتعينه حساسيته وولعه بالشعر منذ شبابه على تقديم وصف وجداني مغموس بالحنين الشاعري والموسيقى اللونية. فبعد أن كان يستخدم الألوان كنوتات موسيقية مجازاً، بات يشعر أن الموسيقى غابت عن لوحاته، وأن ثمّة لوحة داخل اللوحة. حيث انعكست المفاهيم التي صار يحسها تجاه أرضه وبيته وبحره وجبله وسهله. كان يريد للبيوت القرميدية أن تستكين لأنها للمبيت لا للرحيل. هذه البيوت المتشظية تشبهه، لكنه مضطر كرسام إلى إعادة بناء هذه الفوضى لتكون شهادة وشاهداً على هذا الزمن.
لكن في التجربة اللونية المديدة لجوني، هناك انقلابات في الموضوع والتعبير كانت تحدث في فترات متباعدة، فتعود إلى مناظر القرى الموزَّعة على سفوح الجبال، لتتخذ في لوحاته مزيجاً بين شكلها الواقعي وبين رغبته في ما يجب أن تكون عليه، كما لو أنها مشاهد من فردوسه الداخلي. فرسم وهاداً تغمرها أشجار الزيتون والتين وكروم العنب، وبيوتاً مُنارة بالألوان الزاهية المُفضية إلى انشراح الناظر، فأخذتنا ريشته من القمم المغطاة بالضباب إلى الوديان، ومن أخضر الأشجار وألوان الأزهار الربيعية إلى السفوح الصخرية الجرداء ومن القرى ووداعتها وسكينتها وبطء الحياة فيها إلى المدينة المتشكِّلة، ليس من تصميم عمراني واحد بل من علاقات اجتماعية معقّدة ومتشابكة.
اترك تعليقاً