في عام 1369هـ/1950م اكتملت خمسون سنة قمرية على استعادة الملك عبدالعزيز للرياض، وكان من المقرَّر أن تحتفل المملكة بهذه المناسبة، لكن وفاة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن قبل أسبوعين من تاريخ الذكرى الذهبية، وتحديداً ليلة الإثنين 25 رمضان 1369هـ/10 يوليو 1950م، أدَّت إلى إلغاء الاحتفال.
وفي اليوم الوطني السعودي التسعين، نعود بالذاكرة إلى سيرة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، رحمها الله، لما كان لها من تأثير بالغ في المحيط الاجتماعي والترابط الأسري ولعلاقتها المتفردة مع شقيقها المؤسِّس الملك عبدالعزيز طوال حياتها .
ودّعت الأميرة نورة الحياة وقد قدّر لها أن تكون شاهداً على نهاية الدولة السعودية الثانية في عام 1309هـ/1891م. فحملت منذ ذلك تجارباً قاسية مرَّت بها وأسرتها. كان مشهد غياب الدولة السعودية من دون شك مؤلماً، إذ حمل عبر أعوام متتابعة اختلاف واضطراب ونزاع، ومحاولات سيطرة حاكم منافس يحلم بالسلطة والنفوذ. ونشير إلى فصل من فصول نهاية الدولة السعودية والذي سبق خروج الإمام عبدالرحمن وأسرته إلى خارج الوطن حيث الاغتراب والبُعد، ولم يكن خروج الإمام عبدالرحمن اختيارياً بل كان هو الحل الوحيد لينجو وعائلته، فقد صبر وقاوم قبل ذلك.
كانت نورة الصديق المؤتمن في حياة الملك عبدالعزيز،
وقد وظَّفت تلك العلاقة المتميِّزة لصالح الخاص والعام. فقد كانت تستفيد من زيارات أخيها، فترتب لنساء يرغبن في مقابلة الملك سواءً من الأسرة أو من عامة الناس.
مِنْ شاهد على المأساة
إلى شاهد على بناء وطن
لقد انعكست الأحداث التي أدَّت إلى نهاية الدولة السعودية الثانية على شخصية الأميرة نورة، التي شهدت بأُم عينيها سقوط الرياض ونهاية الدولة السعودية الثانية، كل ذلك وهي على وجه التقريب في السابعة عشرة من عمرها.
وعت نورة درساً قاسياً يقول: إن الفرقة تجلب الخراب، وإن البيت الحاكم القوي يحتاج إلى مساندة ودعم، وإن الحفاظ على تماسك البيت وعلى وحدته أمر مطلوب وأن أساس الدولة السعودية قوي وصلب.
غير أنها نفسها قدّر لها أن تكون شاهداً على بناء وطن نجح شقيقها الملك عبدالعزيز في بسط سيادته عليه، ومدَّ نطاق حكمه إلى حدود لم يبلغها سلفه، وفي وحدة قوية مكنتها من القيام بدورها الحضاري.
لقد وعت الأميرة نورة المرحلتين وتشكَّلت حياتها ودورها الذي منحه إياها شقيقها الملك عبدالعزيز كسيدة مجتمع كانت فيه الرقم الأول. كما أنها كانت على المستوى الشخصي والأسري حريصة على تماسك الأسرة، وعلى إزالة أي خلاف ينشب بين أفرادها.
كانت نورة كريمة بحضورها وكريمة بتفاعلها، وكريمة بمواقفها، وكانت مدعومة وبقوة من أبرز شخصيتين في حياتها وهما: شقيقها الملك عبدالعزيز، وزوجها سعود بن عبدالعزيز بن الإمام سعود بن فيصل والملقَّب بـ سعود الكبير، وكانت علاقتها بشقيقها هي العلاقة المتفرِّدة التي لفتت انتباه كُلّ من عاصرها. فعملت جاهدة على الحفاظ على الوحدة ومساندة شقيقها المؤسس قدر استطاعتها، الذي كان ارتباطها به رباط محبة صادقة. وفي المقابل خصَّها الملك بكثير من الحُب والإجلال طوال حياتها. فكانت أقرب النساء إلى نفسه، يحبها ويرعى شؤونها ويصغي لنصحها ويفضي إليها بأسراره ومكنونات نفسه، في حين كانت هي تمحضه حبها وودها وتخاف عليه أشد الخوف، وتتلمَّس كل ما يمكن أن يخفِّف عنه أعباء الحياة وثقلها في مرحلة تأسيس الدولة.
وكان من مظاهر قوة العلاقة بينهما، أن الملك كان يزورها يومياً عندما يكون في الرياض. وكان موعد زيارته لها عادة بعد الظهر. واعتاد أهالي الرياض الذين كانوا يسكنون بالقرب من منزل الأميرة نورة في الثميري رؤية الملك عبدالعزيز إذا خرج من الصفاة يدخل عند أخته نورة. وظل على عادته تلك حتى بعد انتقالها إلى قصر الشمسية.
وأصبح الملك يزورها مرتين في اليوم خلال السنوات الأخيرة من حياتها، ما عدا أيام السفر أو عند حدوث ظروف طارئة. وفي العام الذي مرضت فيه، كان يتردَّد عليها كثيراً. وفي أيامها الأخيرة كان يطيل البقاء والجلوس معها. وقد تأثر أيما تأثير لحالتها، وعند الصلاة عليها كان في غاية التأثر.
الأخت والصديقة الصدوق
كانت نورة الصديق المؤتمن في حياة الملك عبدالعزيز، وقد وظَّفت تلك العلاقة المتميِّزة لصالح الخاص والعام. فقد كانت تستفيد من زيارات أخيها، فترتب لنساء يرغبن في مقابلة الملك سواءً من الأسرة أو من عامة الناس. كما كانت تشفع عند الملك عبدالعزيز للكثير من المحتاجين ومن لهم مشكلات تحتاج إلى حل. ولم تكن تنقل أي شكوى إلا بعد أن تتحقق منها. وإذا ما سمعت أن فلاناً يتظلَّم وقد بتَّ في أمره الملك، تأخذ على عاتقها التحقق من ذلك، وكانت تقول للملك:
“يا طويل العمر قسّم بالسوية عدل بالرعية”، فإذا قال لها إن فلاناً ليس مظلوماً والناس فيهم المخطئ، قالت أمهلني وأرسلت من يبحث في أمره، وحين تنتهي تكتب الإفادة وتناقش الملك عبدالعزيز بإصرار أن يساعد صاحب الطلب، وكان هو يحقِّق لها بعد الإفادة ما تريد.
قال عنها أحد معاصريها: “كانت تبادر إلى الإحسان ونصرة الضعيف وعون المحتاج وفك أسر المظلوم، وكم من مظلوم حُكم عليه بالسجن أو الضرب أو بجزاء آخر ساعدته لدى أخيها جلالة الملك فيطلق سراحه. وإن وقفت على حُكم بمعاقبة أحد راجعته وأبدت رغبتها في العفو عنه، كانت صائبة الرأي يستشيرها أخوها جلالة الملك في كثير من المسائل فكانت تشير عليه بالمشورة الموافقة للصواب”.
واعتاد الملك أن يُحضر معه في بعض زياراته لها بعضاً من أبنائه للسلام عليها، وكانوا في أغلب الأحيان سعود وفيصل ومحمد وخالد وفهد وعبدالله وسلمان وآخرين غيرهم، وكان وكيل أعمالها ومسؤول القصر عبدالعزيز بن حمد بن بريك، هو الذي يرتِّب السلام على الأميرة نورة.
ويذكر الملك سلمان، حفظه الله، أنه كان يزور عمته الأميرة نورة، فيقول: “كنا نذهب مع والدي إلى عمتنا الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، حيث نزورها في قصرها الواقع في الشمسية”.
كانت نورة مع شقيقها في كل لحظات حياته: عند الانكسار والهزيمة، وعند النصر، وفي أوقات الحُزن والفقد كانت إلى جواره تواسيه وتشدُّ من أزره. من ذلك أنها كانت معه عندما فقد زوجته الجوهرة بنت مساعد في عام 1337هـ/1919م، وكذلك زوجته فهدة بنت العاصي بن شريم في عام 1353هـ/1934م، وزوجته أم منصور في عام 1356هـ/1937م.
حاضنة الأسرة
كانت الأميرة نورة على علاقة جيدة مع زوجات الملك. ويذكر أنها عندما كانت ساكنة في الثميري كانت تخرج إلى مزرعة حصة السديري في منفوحة. وقد أشارت فيوليت ديكسون التي زارتها في عام 1356هـ/1937م إلى أن إحدى زوجات الملك كانت مع نورة وقت استقبالها وهي نوف بنت نواف بن النوري الشعلان والدة ثامر وممدوح ومشهور.
ومن أبرز الدلائل على شدَّة قُربها من الملك عبدالعزيز، أنه كان يعهد إليها الإشراف على تربية أبنائه وبناته الذين فقدوا أمهاتهم في سنٍّ مبكرة. فهي التي قامت على رعاية محمد وخالد والعنود، بعد وفاة والدتهم الجوهرة بنت مساعد بن جلوي، فأبدت عناية كبيرة بهم وبخاصة العنود التي كانت في عمر السنتين. وكذلك رعايتها لـ عبدالله ونوف وصيته بعد وفاة والدتهم فهدة بنت العاصي بن شريم.
كما أن ابنة الملك سارة نشأت في منزل عمتها نورة لصلة القرابة التي تربط والدتها بـ سعود الكبير.
وكعمَّة لأبناء الملك وبناته، كانت قريبة جداً منهم. يقول الملك سلمان: “كانت تشفع لنا عند الملك إذا أخطأ أحد من أخوتي أو أفراد العائلة، فإذا وقعنا في التأخير عن الصلاة عن وقتها نلنا العقاب من الملك، وذلك بحجزنا في إحدى الغرف في قصر المربع، ثم تسعى لنا بالشفاعة عند الملك بطلب إخراجنا مع أخذ التعهد منا بعدم تكرار الخطأ”.
كما اهتمت بتنمية قدرات أطفال العائلة المحيطين بها وكانت تحفِّزهم على التعلُّم وتكافئ من يختم القرآن منهم. وعندما تخرّج فيصل بن عبدالعزيز من الكُتَّاب أقيم احتفال بهذه المناسبة فتوجه موكب فيصل إلى عمته الأميرة نورة في الثميري وتناولوا الطعام والحلوى عندها.
وكانت حريصة على حضور حفل العرضة الذي كان يُقام احتفالاً بختم أي من أبناء الملك عبدالعزيز، خاصة مع تأسيس مدرسة الأمراء التي انتقلت للرياض في عام 1356هـ/1937م. ويشير عبدالله عبدالغني خياط في مذكراته إلى أنه عندما كان قائماً على مدرسة الأمراء في الرياض، وفي مناسبة ختم الأمير مشاري بن عبدالعزيز أعلن قيام العرضة في الرياض بتاريخ 18 شعبان 1356هـ / 23 أكتوبر 1937م، وفي صباح يوم العرضة نظَّم القصر الملكي مأدبة إفطار دُعي إليها أطفال الكتاتيب ومعلِّموهم، كما دُعي أيضاً أعضاء هيئة التدريس في مدرسة الأمراء، وبعد المأدبة خرج الأمير مشاري، الخاتم للقرآن، وخلفه إخوته وزملاؤه يمتطون صهوات خيولهم، وكان أطفال الكتاتيب وراءهم، وقد بدأت العرضة تحت قصر الحكم، وشارك فيها الأهالي والأمراء وانضم الملك إليهم، وكانت الأميرة نورة ونساء الملك يتابعن العرضة من خلال النوافذ العليا لقصر الحكم التي ثُبت فوقها شريط من القماش الأبيض، ووقفت النساء وراءہ.
ونتيجة لهذا القرب والالتصاق بأبناء وبنات الملك عبدالعزيز، فإنها ظلَّت العمة ذات الذكرى الراسخة في وجدان كل أبناء الملك عبدالعزيز خاصة من أصبح له شأن كبير في الدولة وندلِّل بمثالين:
الأول: أن الملك فيصل، وفي عام 1395هـ/1975م، وقبل اغتياله، أسرّ لإحدى عماته بحلم رآه في الفترة الأخيرة. جاء الحلم كما وصفه الملك فيصل أنه رأى نفسه في بيت جده الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ الطيني القديم، الذي عاش فيه عندما كان صبياً في الرياض، وفتح باب إحدى الغرف ورأى جدته هيا المقبل وأم جدته وأيضاً عمته نورة بنت عبدالرحمن، وعندما رآهن كان يعلم أنهن جميعاً في عداد الأموات، وكن يتحدثن معاً، وكانت امرأة معهن لم يعرفها، وعندما لمحته جدته نهضت وأدخلته الغرفة وقالت له يا فيصل لا تكن خجولاً تعال وسلّم على أمك طرفة، لقد حان الوقت لتقابلها، وذكر فيصل أنه فجأة شعر بالخوف.
الثاني: أن الملك عبدالله وعندما وضع حجر الأساس لجامعة البنات في 29 شوال 1429هـ/29 أكتوبر 2008م أطلق عليها اسم جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، تقديراً منه لعمته التي يحتفظ لها بكثير من العرفان والتقدير.
كما امتد هذا التقدير إلى الأحفاد. ونشير إلى توجيه الأمير محمد بن سلمان ولي العهد بتاريخ 13 محرم 1441هـ/12 سبتمبر 2019م بترميم قصر الأميرة نورة المعروف بقصر الشمسية على نفقته الخاصة، تذكيراً بدورها وحضورها الاجتماعي.
تلك هي الأميرة نورة التي استحوذت على قلوب أفراد أسرتها وامتد ذلك إلى كل العارفين بها في فترة حياتها. وبعد وفاتها ظلَّت سيرتها على ألسنة الناس يتحدثون عن مآثرها ومواقفها الإنسانية والاجتماعية.
اترك تعليقاً