للثقافة وجوه متعددة، فهي طيف ملوّن يجمع الفلسفة إلى الطهو، ويشمل ما بينهما من فنون الكتابة والفنون الجميلة وفنون الأداء، وما لا حصر له من الإرث الثقافي والاجتماعي. وكل هذه الأشكال الثقافية هي وسائل تتضافر من أجل الارتقاء بالفرد والمجتمع وتعميق الإحساس بالحياة وطرق عيشها. وقد واكب الحراك الثقافي المتجدّد في الممـلكة هذا الطيف المتنوِّع، حيث يمكن تلمُّس ذلك بوضوح في التنظيـم الهيكلي لوزارة الثقافة السعودية التي تضمّ تحتها 11 هيئة تُغطِّي 16 قطاعًا ثقافيًا مختلفًا.
لكن، كيف يرى المثقَّف هذا الحراك الجديد في مشهد الثقافة في المملكة؟ وهل نجحت الجهود في ملامسته بأثرها المباشر وغير المباشر؟ بطبيعة الحال، يمكن للآراء أن تتفق أو تختلف بالنظر إلى تنوّع مسالك الثقافة وتعدّد مشارب المثقفين والزوايا التي يختارون أن ينظروا من خلالها إلى المشهد. لذلك، اختار فريق “القافلة” الثقافة السعودية في انطلاقتها الجديدة قضية لهذا العدد، منطلقًا من زوايا مختلفة لمناقشة كيف تبدو بعيون المثقف، سعوديًا كان أم خليجيًا أم عربيًا أم عالميًا.
في البداية، كتب د. عبدالله السفياني عن رؤية المملكة الطموحة، التي جعلت من الثقافة قلبًا للبناء الحضاري وأساسًا لبناء الهوية، فاستطلع وجه الحراك الثقافي العام وطبيعة التحولات في المشهد. بينما كتب الإسباني إغناطيوس غوتيريث، من وجهة نظره، عن واقع الأدب السعودي وحال حركة ترجمته إلى الإسبانية، فأوضح أن حضور هذا الأدب في تلك اللغة أقل من المطلوب، مقترحًا أن القارئ الإسباني سيجد في هذه الكتابات عوالم تجذبه. من جانبه، استقرأ أحمد عبداللطيف نشاط الترجمة في المملكة، منوهًا بجهات وأسماء سعودية ساهمت في إثراء مشهد الترجمة العربية. أما د. عصام الجودر، فتوقف أمام النشاط الموسيقي في المملكة، الذي يشمل العروض والتدريب وتوثيق التراث الموسيقيّ.
1- ثقافةٌ للجميع..لا نخبوية ولا منزوية
د. عبدالله السفياني
أكاديمي وكاتب سعودي
النظرة القديمة والسائدة للعمل الثقافي في كثير من دول العالم النامية قاصرة، ترى في العمل الثقافي نشاطًا زائدًا تمارسه نخبة معينة أو مؤسسات متخصصة، ولا يُشكِّل وجوده مرتـكزًا أساسيًا في حياة الإنسان اليومية.
المملكة العربية السعودية، برؤيتها الطموحة، جعلت الثقافة في قلب البناء الحضاري وتشكيل الأمة وبناء الهوية، باعتبارها المكون البارز لكل أمة وليست مجرد نشاط يُمارس لسد أوقات الفراغ.
أول ما تطالعنا به رؤية السعودية 2030 هو مرتكزاتها الثلاثة، وأولها المجتمع الحيوي، وهو كما تقول عنه الرؤية: “المجتمع المتماسك السعيد هو أهم أسس الازدهار الاقتصادي، مجتمع مواطنه مسؤول، وجذوره راسخة تستند على قيم الإسلام السمحة والفخر بالوطن، يعتز بالتراث والثقافة السعودية”. وهذه لبنة أساسية ومتينة، فلا يمكن أن يكون لديك اقتصاد مزدهر ومجتمع حيوي ووطن طموح، دون أن تكون ثقافتك مواكبة ومتطلعة وقوية، يمكن الاعتماد عليها في تربية هذا المجتمع وبنائه.
الثقافة الهشة والمنزوية، والتي لا يعرفها ولا يؤمن بها إلا نخب محدودة ومتصارعة، لا يمكن أن تبني حياة فاعلة ومزدهرة. والمجتمعات التي تُكرَّس للحضارة المادية فحسب، تقع فيما يُسمى بالتخلف الثقافي. ووفقًا لعالم الاجتماع الأمريكي ويليام أوغبورن: “التخلف الثقافي ظاهرة مجتمعية أصبحت شائعة في المجتمعات الصناعية والتقليدية. في المجتمعات المادية المتطورة والمتغيرة بسرعة تُهدر قيمة الثقافة، وأما المجتمعات التقليدية فتميل إلى مقاومة التغيير والبقاء كما هي لفترة أطول من الزمن”. وهذا الركود الثقافي لا يواكب ما يسميه بعضهم بالحتمية التكنولوجية، ويوقع المجتمع في مشكلات اجتماعية لا حصر لها.
في ضوء هذين النوعين من المخاطر، يجب على أي ثقافة أن تعيد تمركزها وأن تطور أدواتها وأن تجدد مبادئها وإرثها، وتعتز بقيمها وتعيد وجودها في النسيج الاجتماعي، بحيث لا يتحول المجتمع إلى مجتمع تكثر فيه الأدوات التكنولوجية المتطورة والمتنوعة، بينما تختل قيمه وسلوكياته وتعامله وثقافته بشكل عام.
الشريك الأدبي
والمتابع للحراك الثقافي الكبير الذي تقوده وزارة الثقافة السعودية منذ إنشائها عام 2018م، يعرف أن الهدف الجديد للرؤية هو ضخ الدماء الحية والنشيطة في أوردة المجتمع. وكان لإنشاء 11 هيئة تحت مظلة وزارة الثقافة دلالة أكيدة على أن هذه المجالات الثقافية المتنوعة يجب أن تحظى بالاهتمام نفسه، وأن تتعاضد فيما بينها لمواكبة الازدهار الاقتصادي وتكوين أرض صلبة يقف عليها المجتمع بكامل مؤسساته.
وإذا نظرنا إلى الحراك الأدبي بكافة مجالاته المتنوعة وفضاءاته، فسنجد تغيرات جذرية طرأت على المشهد برمّته. فالوزارة، عبر هيئة الأدب والنشر والترجمة، تحاول أن تفتح المساحات للجمعيات والمؤسسات الخاصة لتقوم بممارسة الأنشطة الثقافية، وتتولى هي دور الإشراف والتنظيم والتحفيز. ولو أخذنا مبادرة واحدة من مبادرات الهيئة، وهي مبادرة “الشريك الأدبي”، التي تسعى لتفعيل دور المقاهي وتحويلها إلى منصات لإقامة الفعاليات الثقافية المتنوعة من أمسيات وندوات وحوارات، لوجدنا أن عدد المقاهي المنضوية تحت مظلة المبادرة في تزايد مستمر، وكذلك عدد الأنشطة التي مورست فيها؛ إذ زاد عدد المقاهي ليصل إلى 80 مقهى هذا العام مقارنة بـ45 مقهى للعام المنصرم.
هذه المقاهي هي أماكن عامة يرتادها الصغار والكبار والرجال والنساء من كافة أطياف المجتمع، وتأتي المبادرة لتقدم لهم الثقافة في أماكن وجودهم بطريقة عصرية جميلة ومحببة، وهذه محاولة ناجحة في زرع الثقافة في كل مكان لتصبح الثقافة للجميع وليست للنخبة.
الثقافة حياة
وقد قدّمت الهيئة العديد من المبادرات التي خرجت فيها من الأماكن المسورة والضيقة، فأقامت أمسيات شعرية في المتنزهات والهواء الطلق في الطائف وأبها والأحساء وغيرها من المناطق، وشهدت حضورًا جماهيريًّا لافتًا. هذا، بالإضافة إلى العديد من البرامج الجديدة، من معتزلات ومعسكرات ولقاءات حرّكت المياه الراكدة فدبّت روح الحياة في نبض الثقافة.
هذه النجاحات في نظري تعود في كثير منها إلى الاتكاء على الرؤية التي أرادت للحياة أن تكون ثقافة، وللثقافة أن تكون حياة، وأن تساهم القطاعات المختلفة، أهلية وخاصة وربحية وغير ربحية، في هذا الحراك. وبطبيعة الحال رؤية طموحة مثل هذه قد يعتريها شيء من القصور والخلل خصوصًا في بدايتها، وهذا أمر طبيعي جدًا. وهنا يأتي الدور الثقافي الحقيقي النقدي، ولكنه النقد القائم على تتبع منابع الأخطاء والبحث في الإستراتيجيات والأهداف، والمحتوى الثقافي وكيفية إدارته وتمحيصه وتوضيح جوانب القصور فيه، وليس النقد الشخصي القائم على المصالح والأخطاء الفردية التي لا يخلو منها أي بشر.
في تصوري، إن المرحلة القادمة ستضع على عاتق الوزارة، بجميع هيئاتها، بذل المزيد من الجهد في سبيل دعم هذا الحراك، والدفع بالقطاع الخاص للمزيد من المشاركة فيه؛ ليس عبر الدفع المادي، ولكن من باب ما يمكن أن أسميه بالمسؤولية الثقافية. فالمسؤولية الاجتماعية، التي تعمل على تحقيقها الشركات والبنوك والمؤسسات الكبرى، يجب أن يندرج ضمنها وفي إطارها البرامج الثقافية، فهي لا تقل أهمية عن غيرها من الجوانب التعليمية والاجتماعية.
وأدعو هنا إلى ملتقى كبير يجمع هذه الشركات وقيادات الوزارة والمهتمين في القطاع الثقافي؛ لتوضيح الدور المنتظر من القطاع الخاص في دعم الأنشطة الثقافية المستدامة من تأليف ونشر ولقاءات وندوات ومؤتمرات وحوارات وترجمة واهتمام بالمواهب الإبداعية، وغيرها من مجالات الوعي الثقافي.
٢- أدبٌ معطاء..لم تُنصفه الترجمة إلى الإسبانية
إغناطيوس غوتيريث
مستعرب إسباني، وأستاذ في جامعة أوتونوما مدريد
يظل الأدب السعودي المعاصر مجهولًا بالنسبة إلى القرّاء الناطقين باللغة الإسبانية، على الرغم من إنجازاته الإبداعية المشهود لها أثناء العقود القليلة الماضية، لا سيما على صعيد الرواية والشعر، إذ يتعذر علينا أن ندعي أن الأدب العربي بشكل عام له حضور وتصور يُعتد بهما في فضاء الآداب العالمية المترجمة بالإسبانية.
بل هناك تراجع ملحوظ لحركة الترجمة الأدبية من العربية إلى الإسبانية منذ بداية القرن الحادي والعشرين. وقد أشارت دراسة رعتها مؤخرًا مؤسسة “آنا ليند” الثقافية الأورومتوسطية، إلى أن عدد الأعمال الأدبية (الروائية والشعرية والمقالات البحثية) المنقولة من العربية إلى الإسبانية دون المائتين خلال الفترة الممتدة من 2010م إلى 2020م، وهي عمليًا قليلة جدًا بالنظر إلى الروابط التاريخية المستديمة بين الحضارتين العربية والإسبانية وأهمية الآداب العربية القديمة والحديثة. وإذا كان الأمر على هذا المنوال فيما يخصّ الآداب العربية بصورة عامة، فما بالك بالمنتج النثري والشعري السعودي الذي نُقِلَ منه النزر اليسير، وذلك على أيدي دور نشر محدودة الانتشار والتوزيع وعن طريق إصدارات متواضعة جدًا ليست دائمًا في متناول الجمهور المهتم بالآداب العربية.
وهناك مبادرات تسعى إلى ردم هذه الثغرة والنهوض بترجمة الأدب السعودي المعاصر ومنحه ما يستحقه من عناية وتقدير، مثل إصدارات الملحقية الثقافية في إسبانيا، التي أشرفت على ترجمة عدد من الروايات السعودية الحديثة، من ضمنها رواية “ستر” لرجاء عالم في 2016م. ويجب كذلك أن نذكر هنا العدد الخاص الذي أفردته مؤخرًا مجلة “بانيبال” بالإسبانية لمشهد الرواية والقصة والشعر في المملكة في الوقت الحاضر، حيث أوردت عينات متنوعة مترجمة إلى الإسبانية من ذلك الإنتاج الوفير. إلا أننا لا نكاد نجد، في الأوساط الناطقة بالإسبانية، أي صدى يُذكر لما جاد به الواقع الأدبي السعودي أثناء السنوات الماضية، باستثناءات قليلة لا ترتبط دائمًا بجودة الكتاب الأصلي أو أهميته الفنية، وإنما بسبب ردود الفعل الاجتماعية، كما حدث مع “بنات الرياض” للكاتبة رجاء الصانع، التي رأت ترجمتها الإسبانية النور في عام 2007م، وذلك بعد الجدل الواسع الذي أثاره صدور الطبعة العربية في بيروت والتي حققت مبيعات قياسية في عام 2005م.
غياب غير مبرر
ويمثل هذا الغياب، من دون شك، نوعًا من الإجحاف بحق الإنتاج الأدبي السعودي وحيوية التيارات والاتجاهات والأصوات الأدبية الناشطة داخل المملكة، أو لدى الأدباء السعوديين المقيمين في الخارج. ونحسب أن غياب الأدب السعودي عن المشهد الثقافي الناطق بالإسبانية أمر غريب وغير مبرر ويجب إصلاحه، خاصة أن إنتاجه الراهن ينفرد بعدد من المميزات سيجد فيها القارئ الناطق بالإسبانية ما يشد انتباهه ويجعله ينسجم مع أجواء السرديات والأحداث المصورة فيها. ونتحدث هنا عن مجموعة بشرية تفوق خمسمائة مليون نسمة، يُضاف إليهم مائة مليون تُعتبر الإسبانية لغتهم الثانية.
ومما قد يساعد في ترويج الأدب السعودي الحديث، أن عددًا ملحوظًا من الروائيين السعوديين قد فازوا بجوائز عالمية معروفة، شأن رجاء عالم مع “طوق الحمام” التي حازت الجائزة العالمية للرواية العربية، وأيضا محمد حسن علوان الفائز بالجائزة نفسها عن “موت صغير”، وقد سبقهما في تاريخ البوكر الروائي والقاص عبده خال مع “ترمي بشرر”. وهناك كذلك أميمة الخميس مع “مسرى الغرانيق في مدن العقيق”، التي نالت بها جائزة نجيب محفوظ للرواية.
تشهد هذه الجوائز على حضور الرواية السعودية واندفاعها، في حين يبرهن ممثلوها على نزعة إبداعية مميزة، كما لدى يوسف المحيميد في “رجل تتعقبه الغربان”، وهي أول رواية سعودية تتطرق إلى وباء كورونا من خلال حبكة سردية خلاقة. وبالنسبة إلى القرّاء الناطقين بالإسبانية فإن موضوع الأندلس له تأثير خاص، ونشهد بعض الأدباء السعوديين، مثل محمد حسن علوان وأميمة الخميس، قد تطرقوا إليه عبر مقاربات تاريخية تسقط إسقاطًا على حاضرنا، في عملية سردية مستدامة تسعى لاستعادة مفهوم الأندلس وتوظيفه بأساليب معرفية وجمالية متجددة.
طفرة نوعية في الرواية
وأكثر ما يلفت النظر في الأدب السعودي الراهن الطفرة النوعية التي حققها مع انطلاق القرن الحادي والعشرين، بحيث تجاوزت الأجناس التعبيرية المختلفة الحدود الاجتماعية الضيقة التي كانت قد حُصرت فيها، لتصبح الرواية بالمرتبة الأولى ظاهرة ثقافية تجذب اهتمام جميع القطاعات الاجتماعية. ولا مناص من أن يثير إعجاب المتابع للمشهد الروائي السعودي التطور النوعي والكمي السريع للأدب السعودي المعاصر بالقياس إلى الركود النسبي الذي شهدناه في مراحل سابقة ليست بالبعيدة. الحق يُقال، إن هذه الآداب قطعت شوطًا بعيدًا جدًا يفصلها عن بداياتها مع بواكير مثل “التوأمان” لعبدالقدوس الأنصاري في ثلاثينيات القرن الماضي، الموصوفة في الدراسات النقدية بـ”الرواية السعودية الأولى”، لدرجة أن اللغة الروائية غدت الآلة التعبيرية الأفضل لمسايرة التغييرات الكبيرة الجارية اليوم في المملكة.
ومما لا شك فيه كذلك أن هذه النهضة الأدبية المتجددة يجب ربطها، بشكل أو بآخر، بالإقبال المتزايد للقارئ السعودي على الأدب العربي الحديث؛ إذ إن الأرقام والإحصاءات وكذلك شهادات الأدباء العرب أنفسهم تؤكد تلهف القراء السعوديين للاطلاع على الأدب العربي، لا سيما فن الرواية. فمتابعة الجمهور السعودي للمستجدات الأدبية العربية، توفّر جوًا إبداعيًا مناسبًا للكتاب السعوديين، وتشجعهم على مواصلة الكتابة والبحث عن طرق تعبيرية جديدة تلبي تطلعات القراء السعوديين والعرب الراغبين في الاطلاع على أعمال أدبية قيمة تمتعهم جماليًا وتفيدهم معرفيًا؛ وذلك لأنها تواكب بشكل صريح التغيرات والتطورات التي يشهدها المجتمع السعودي اليوم.
وسوف يجد القارئ الإسباني والأمريكي اللاتيني في هذا الأدب مواضيع ومقاربات وأساليب تعبيرية تخالف الأقوال والقوالب النمطية المعهودة السائدة عن المجتمع السعودي. وسيُفاجأ من دون شك بما يعتمر فيها من حيوية وتنوع وانفتاح. وسيجد إلى جانب الروائيين والقاصين المعترف بهم، نخبة من المبدعين والمبدعات ممن يثيرون الانتباه. ومن المفيد أن نشير هنا إلى أسماء لنساء مبدعات كفاطمة عبدالحميد وولاء الحربي وأمينة الحسن وسمية السيد ووفاء الراجح؛ إذ يسير هؤلاء في ركاب المجددين في تسعينيات القرن الماضي. كما يحسن بنا أن نشير، على صعيد الأصوات النسائية الرائدة، إلى ليلى الجهني وروايتها “الفردوس اليباب”، التي نرى فيها موقفًا معارضًا لما قاسته المرأة السعودية من تهميش وإقصاء في المجتمع المحلي التقليدي. وظاهرة “تهميش المرأة” بدورها بدأت بالتحول التدريجي، وإن لم تكن بالوتيرة المرجوة لدى الإصلاحيين الأكثر حماسة، كما نستشفّه من خلال قراءتنا لأعمال كاتبات متمكنات، مثل بدرية البشر في “هند والعسكري”، وقماشة العليان في “أنثى العنكبوت”، وعائشة الحشر في “سَقَر”، وكذلك أمل الفاران في “غواصو الأحقاف”، التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة الشيخ زايد للكتاب 2019م. تمسّك هؤلاء بنهجهم التجديدي في الشكل والمضمون، وانضم إليهم مثقفون ومثقفات من أمثال سعد الدوسري في “الرياض – نوفمبر 90″، وصبا الحرز في “الآخرون”، ومقبول العلوي في “البدوي الصغير”، وعبدالعزيز الصقعبي في “حالة كذب”، وأيضًا عبدالله ثابت في معالجته لآفة التطرف الديني المدمر في “الإرهابي 20″، إذ طرح عدة أسئلة واستفسارات تختزل حالة الحيرة والتذبذب التي أدت ببعض الناس إلى حضيض الكراهية والعنف.
المشهد الشعري
أما المشهد الشعري التجديدي في المملكة، فلا بد من إعارته ما يستأهله من الاهتمام، وهو الزاخر بأسماء مثل إبراهيم الحسين ومحمد الدميني وأحمد الملا وعلي العمري ومحمد عبيد الحربي، ولعلهم أكثر تأثرًا بتركة محمد العلي منهم بنموذج غازي القصيبي. ومرة أخرى نجد في الفضاء الشعري نشاطًا نسائيًّا قويًا، بعد أن اقتفت شاعرات كثيرات آثار الرائدة فوزية أبو خالد، من أمثال هدى الدغفق، وقد تُرجمت بعض قصائدها من مجموعة “سهرت إلى قدري 2006م” إلى الإسبانية، وقُرئت أشعارها في مهرجانات عدة في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، إلى جانب خديجة العمري وغيداء المنفي وثريا العريض وأشجان هندي وغيرهن الكثيرات.
تتراءى لنا هنا فرصة ثمينة للتعرف على هذا الأدب المعطاء الذي قد يغري القراء الناطقين بالإسبانية إذا وجدنا طريقًا إليه، ونأمل ألا نتأخر كثيرًا. فإن كانت أول رواية سعودية تشهد النور بالإسبانية هي “خاتم” لرجاء عالم في عام 2007م، فإننا لا ينبغي أن ندع هذا القطار السريع يمر من أمامنا دون ركوبه، مثلما حدث لنا مع الأدب العربي، الحديث منه والقديم على حد سواء، تكرارًا ومرارًا وفي مناسبات عديدة.
٣- الترجمة السعودية
معادلة متوازنة
أحمد عبداللطيف
كاتب ومترجم مصري
منذ العصور القديمة، كانت الترجمة علامة على نهضة عصر وانحطاط عصر آخر، ونهضة مدينة وتراجع أخرى، كما كانت منتجًا ثقافيًا يفتح الأفق في بلد، ويغيب مطلقًا في بلد آخر. هكذا كان الأمر في عصر الخلافة العباسية، وتحديدًا في مدينة بغداد لدى هارون الرشيد وابنه المأمون. وهكذا كان مفهوم الترجمة في دولة الموحدين، وفي مدينة قرطبة ومراكش، ولدى أبي يعقوب يوسف وابنه المنصور.
لقد أدرك الحكام المثقفون ما قاله أفلاطون عن أن “المدينة المثالية هي المدينة التي يحكمها الفلاسفة”، فإذا لم يكن بوسع الفلاسفة أن يبلغوا الحكم، إما لأنهم لم يستطيعوا أو لم يطمحوا إليه، فواجب الحاكم السياسي أن يكون فيلسوفًا، أو محاطًا بالفلاسفة. وهو وصف اتسع ليشمل الحكماء والمفكرين. لذلك اتسمت عصور النهضة في الحضارة الإسلامية بقرب الفلاسفة من الحكام، ليس بغرض تحسين صورة السلطة، وإنما للاستفادة الحقيقية منهم. هذا ما حدث مع ابن رشد في دولة الموحدين، وابن طفيل في دولة المرابطين.
الإسهام السعودي
تاريخيًا، بدأت المملكة أولًا في خوض تجربة الترجمة الصحافية، منذ أربعينيات القرن الماضي. وبحسب مكتبة الملك فهد الوطنية، وفق ما أوردته أماني العطاس في مقال لها بجريدة الوطن بتاريخ 18 يونيو 2022م: “صدر في المملكة 2200 كتابًا مترجمًا” منذ عام 1966م حتى 2007م. ومع العقد الثاني من الألفية الجديدة، كان الالتفات أكبر لأهمية الترجمة، والانفتاح أوسع على عالم الأدب والنقد والفكر.
لقد ساهمت هيئات ودور نشر، مثل الفيصل ومكتبة العبيكان ودارة الملك عبدالعزيز وغيرها، في إثراء المكتبة العربية بالعديد من الترجمات الهامة. كما ساهم مترجمون سعوديون أكفاء، مؤخرًا، في اختيار وترجمة أعمال لافتة، أمثال خالد الغنامي الذي ترجم لراسل وكريستي براون وإليوت كوهين، وأحمد العلي الذي ترجم لبول أوستر ومارجريت أتوود وآيان مكيوان، وسعد البازعي وترجمته لزيغمونت باومان ووا ثيونغو، وأبو بكر بن أحمد باقادر الذي ترجم لفلاديمير بروب ويورغن أوستر هامل، ومحمد البقاعي الذي ترجم لرولان بارت وجان بروفو وجاك روسو وميشال أريفيه، بالإضافة إلى علي المجنوني الذي ترجم لكارسن ماكالرز ودكترو، وكذلك راضي النماصي، الذي يساهم بترجمات صحفية بالإضافة إلى ترجمة الكتب. هذه الأسماء نماذج قليلة من بين مترجمين تنوّعوا في منتجهم الترجمي بين الأدبي والفكري والفلسفي.
ربما حققت الترجمة السعودية معادلة متوازنة في اختيار الكتب المترجمة، ورغم انتصار الرواية المترجمة في أغلب دور النشر العربية، خاصةً الدور الخاصة، فإن حضور الكتب الفكرية والفلسفية، علاوة على الكتب التي تتناول الحضارة الإسلامية في لغات أخرى، تُعد إضافة لافتة وثراءً معرفيًا للقارئ ساهمت به الدور السعودية، تكاملًا مع دور عربية أخرى.
علاوة على إسهام دور النشر والمترجمين، ثمة إسهام آخر في مجال الترجمة. أشير بالتحديد إلى مجلة “الفيصل”، وهي مجلة ثقافية مفتوحة على العالمين العربي والغربي، وتسلط الضوء على الأدب الأجنبي والكُتّاب الغربيين؛ لتعطي صورة عن المنتج الثقافي الحالي في أرجاء العالم. وهناك منصة “معنى”، وهي منصة ثرية بموادها الثقافية التي لا تغيب عنها المواد المترجمة. وأعتقد أنها إحدى أهم المنصات العربية التي تقدم المحتوى سواء عربيًا أم مترجمًا.
في النهاية، أود الإشارة إلى هيئة الأدب والنشر والترجمة، التي تأسست عام 2020م. ففي فترة وجيزة ظهر نشاطها ملحوظًا، وتضمَّن دعم مشروعات الترجمة المقدمة إلى دور النشر الخاصة والمترجمين. وثمرة هذا الجهد كان ترجمة لـ336 كتابًا في العام الماضي 2022م؛ إذ بتخفيف عبء تكلفة طباعة الكتب وأجور المترجمين عن دور النشر، تمهدت الأرض لمزيد من التوسع الثقافي واستغلال كفاءة المترجمين. بهذه الوتيرة، سيكون مشروع الهيئة أحد أهم المشروعات الثقافية العربية المعاصرة.
أخيرًا، كل هذا النهر المعرفي سيصب في بحر الثقافة العربية ككل. هذا ما يمكن أن نسميه بالتكامل بين الأقطار العربية ومد الجسور الثقافية، ليس فقط مع الغرب، وإنما أيضًا مع دول الجوار. بشكل مباشر، الترجمة علامة النهضة. وبشكل غير مباشر، هي الرابط الثقافي بين مواطنين يعيشون في أقطار مختلفة.
4- عربة الموسيقى في قطار التنمية
د. عصام الجودر
مؤلف وأكاديمي موسيقي
شهدت دول منطقة الخليج في العقود الثلاثة الأخيرة طفرة ثقافية، وقد توجتها المملكة العربية السعودية خلال العقد المنصرم بقفزة كبيرة، ليست ثقافية فحسب، بل علمية ورياضية واجتماعية واقتصادية، وهو ما يعكس الوعي السياسي في المنطقة بأهمية الثقافة في الدول لما تشكِّله من هوية وطنية.
وسنركّز هنا على الجانب الموسيقي في المملكة كتجربة حديثة وثرية. فالمناخ الموسيقي الحضاري لا يقتصر على تقديم فعاليات موسيقية أو غنائية إلّا بضمان الأداء الاحترافي. ومن هنا حرصت الهيئة العامة للترفيه على الاستعانة بكبار الموسيقيين والمغنين لتقديم عروضهم على مسارح المملكة الحديثة والمزودة بآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا من أجهزة صوتية وضوئية، وبإشراف فنيين على قدر كافٍ من القدرة والاحتراف. ومن الملاحظ أن حجم هذه الطفرة الموسيقية في المملكة كبير نسبةً إلى الزمن الذي قدمت فيه الفعاليات الموسيقية. الأمر الآخر هو التنوع في البرامج الذي يشتمل على الفنون الشعبية والأغاني المحلية والعربية. واللافت أن كثيرًا من الحفلات التي يُحييها النجوم العرب لا تخلو من مشاركة فناني المملكة، وهو توجه واعٍ وناضج يحرص فيه القائمون على هذه الفعاليات على جذب الجمهور وإحياء الفنون العربية دون أن يكون ذلك على حساب الفنان الوطني.
لا شكَّ أن المملكة العربية السعودية تعمل ضمن خطّة إستراتيجية للنهوض بالثقافة والفنون، وبالتوازي مع المشاريع التنموية الأخرى الاقتصادية والسياسية والعلمية والفكرية والرياضية وفق رؤية 2030. فعلى الصعيد الموسيقيّ، خطّطت ونفذت مشاريع تنموية موسيقية في وقت قياسي وبشكل متسارع لكنه مدروس. ومنها برنامج “طروق السعودية”، الذي يتبع هيئة الموسيقى وبالتعاون مع هيئة المسرح والفنون الأدائية بهدف حفظ الموروث الموسيقي والأدائي وصونه؛ ما يعكس الفخر بالتراث الوطني والحرص على استمراره عبر الأجيال. إذًا، فالجانب المستجد في الجزيرة العربية ليس هو الاكتفاء بتقديم العروض الفنية، بل السعي لتوثيق التراث الشعبي وحفظه كهوية وطنية ومادة للاستلهام من قبل الفنانين السعوديين.
ولا تقتصر النهضة الموسيقية على الأنشطة والفعاليات الرسمية، بل تتجلّى في حجم مشاركة الجمهور ضمن هذه البرامج وإقباله عليها بنهم مهما بعدت المسافة أو ارتفعت التكلفة، ما يعكس حب الموسيقى والشغف بها لدى شريحة كبيرة من المجتمع. ومن أبرز الحفلات الموسيقية والغنائية هو حفل الملحن الراحل محمد الموجي، الذي قُدِّم بشكل حضاري ومميَّز شارك فيه أهم المغنين العرب والسعوديين، وأبرز العازفين المحترفين، كما حضره جمع غفير من الجمهور، وتابعه فضائـيًا محبو الموسيقى العربية في المملكة والوطن العربي.
ومن أجمل شواهد حب السعوديين للموسيقى والغناء أن ارتباطهم بهما لا يقتصر على الحضور، بل يشمل المشاركة بالعزف والأداء. فمنذ صدور قرار الهيئة العامة للترفيه في يناير 2019م بإصدار تصاريح لإقامة العروض الحيّة وعزف الموسيقى والأغاني، خرجت إلى الساحة الكثير من المواهب السعودية في العزف والغناء لتمارس شغفها في العزف في المقاهي والمطاعم المنتشرة في أنحاء المملكة، ما أتاح للجمهور الاستمتاع بفنهم وإبداعهم.
ولا يمكن أن تنهض أي حركة موسيقية في بلاد ما من دون تأسيس معاهد موسيقية علمية ورسمية تستقطب المواهب منذ سن مبكرة، لتتمرس بالعزف على الآلات الموسيقية المختلفة إلى مستوى احترافي قد يصل بها في يومٍ ما إلى المنافسة العالمية. وهذا ما حقّقه قرار وزارة الثقافة بإنشاء أكاديميتين للفنون، تختص الأولى بالتراث الشعبي والفنون التقليدية، بينما تهتم الثانية بتعليم الموسيقى متمثلةً في المركز السعودي للموسيقى. وجديرٌ بالذكر أنّ المعهد لم يُفتتح في مدينة واحدة في العاصمة، كما دأبت على ذلك كثير من الدول العربية مهملة باقي المدن، بل الجميل في هذا المشروع العلمي الموسيقي الطموح هو افتتاحه في عدّة مدن تغطي أنحاء المملكة هي الرياض وجدّة والخُبر. مرة أخرى، نلحظ العمل المتوازي الذي يعكس الروح الحضارية للمملكة والرؤية الإستراتيجية التي ترسم خطاها للتنمية، تتجسد في افتتاح عدة فروع للمعهد في فترة واحدة.
وممّا يُحسب لحراك الوعي الثقافي والفني لدى المجتمع السعودي هو محاكاته للحركة الثقافية الموسيقية، بالشروع في تأسيس المعاهد الخاصة لفتح المجال لتعلم الموسيقى، ليس بالضرورة للمحترفين ولكن للهواة أيضًا، مثل معهد البيت الموسيقي العالي للتدريب، وأكاديمية جدّة لتعليم البيانو والباليه، وبيت الموسيقى في الرياض. والرائع أن تدريس الموسيقى لا يقتصر على الرجال، بل يشمل النساء أيضًا، وهو ما نلاحظه في دور العازفة عُلا الدوسري التي تقوم بتعليم العزف على آلة العود.
إن الطفرة الموسيقية في المملكة مثال كبير يكشف كيف أن الإرادة السياسية تستطيع أن تعجّل النهضة الثقافية وتضعها في المكانة اللائقة في سماء الفن والموسيقى على المستوى العربي، بل تتعداه أيضًا للمستوى الدولي.
اترك تعليقاً