يبقى الزمن من أكثر المعضلات التي حاول الإنسان فهمها وتفكيكها وجعله أكثر قابلية للترويض، لكن الأمر بقي عصياً عليه، فلَمْ يستطع رغم كل تقدُّمه العودة دقيقة واحدة إلى الوراء لإصلاح الماضي، ولا أن يتقدَّم دقيقة أخرى إلى الأمام لإشباع فضول المعرفة البشري. ويأتي الفِلْم السعودي القصير “حرق” كحالة أخرى لهذا الوهم المستحيل.
حصل فِلْم “حرق” على ثلاث جوائز في مهرجان أفلام السعودية 2019 عن فئة أفلام الطلبة (النخلة الذهبية، وأفضل إخراج، وأفضل ممثل).
حصل فِلْم “حرق” على ثلاث جوائز في مهرجان أفلام السعودية 2019 عن فئة أفلام الطلبة (النخلة الذهبية، وأفضل إخراج، وأفضل ممثل). وهذا الفلم الذي تبلغ مدّته 15 دقيقة يبدو وكأنه عينان مفتوحتان حتى أقصاهما، كل واحدة منهما تطالع في مسار مختلف. الأولى عين يحركها الأمل، الوهم، التلصص على بهجة متخيلة قريبة؛ فتحدق باتساع يكاد يكون ساخراً. أما الأخرى فعين خائفة، متوجسة، بطيئة، تراقب ذاتها أمامها، بياضها تملؤه تجاعيد القلق الحمراء، تتسع بصمت متوحش لا يؤذي سوى نفسه.
هكذا هما “صالح وصالح”، شخصيتا الفلم اللتان يتقاطع مسارهما الزمني في لحظة ما في مكان هو المستشفى حيث ينتظر كلاهما مولوده. لوهلة، نظن بأن المخرج علي الحسين تركنا نتساءل: هل هما شخص واحد في زمنين مختلفين؟ أم هما شخصيتان مختلفتان تتشابهان في المصير؟ لا شيء أكيد سوى أن صالح العبدالله في الستين من عمره (يلعب دوره الممثل السعودي راشد الورثان) وصالح العبدالله في الثلاثين (يجسِّده الممثل السعودي فيصل الدوخي)، ويبدأ صالح الستيني بملاحظة صالح الثلاثيني الذي يذكِّره بنفسه عندما كان شاباً بذات السحنة القروية السمراء، وذات الحلم الأبله حول المستقبل. بينما يحاول صالح الثلاثيني تجاهل كل المقاربات التي تبدو جلية وواضحة، وكانه يصطنع الهرب، لذلك تراه يبتعد عن الحقيقة، يقارب الإغفاء؛ ليواري خوفاً تحمله أي نفس بشرية مما يخبئه لها المستقبل.
تدور أحدث الفلم في بداية التسعينيات 1992-1996م، بمدلولات منثورة في الفلم، كصورة الملك فهد، رحمه الله، واستخدام جهاز البيجر. والمستشفى، المكان الوحيد الذي تدور فيه الأحداث يبدو خاوياً تقريباً من سواهما، وكأنه مسبح الرحم الذي يظل فيه الإنسان -الطفل- يتخبط في ظلمته بأحاسيس غامرة لا يمكنه فهمها على وجه الدقة. فيبدو الفراغ لصيقاً بالوقت، ما لم يملؤه الناس بقصصهم وتجاربهم.
هل هذا ما كان يدعو إليه كريس سكرتشفيلد عندما قال “كن فضولياً مع نفسك”؟ بالطبع لم يكن يقصد ذلك، بقدر ما كان يدعو إلى خوض التجارب ومحاولة إنجاز أمور غير اعتيادية، حيث من شأن كل هذه الأشياء أن تسهم في اكتشافنا لأنفسنا ومعرفة قدراتنا، ولكن ليس بالضرورة مصيرنا!
يطرح الفلم تساؤلات فلسفية، وتظهر أولها عن فكرة الفلم الأساسية، بالإضافة إلى السؤال الأكثر إلحاحاً ما هو الزمن؟ وهل ثَمَّة إمكانية لتغيير المصائر المكتوبة والمقدّرة؟ أم إن القادم قادم ولا يحتمل التأجيل أو التبديل؟
حرق التكهن بالآتي لاحقاً؟
يستأنف صالح الشاب إلحاحه لمعرفة مصير أحلامه وبالأخص ابنه القادم؛ ليتفاجأ بتخمينات مؤلمة جعلت عينيه تتسعان لتبتلعا كل خيبات الكون وترميها في روح سحيقة تناضل لرفض تصديق ما يدور حولها. وهذا ما جعل المخرج وكاتب الفلم يختار اسم “حرق” بمعنى هذه الكلمة المستخدم بين متابعي قصص الأفلام والمسلسلات، حيث تشير إلى الإفصاح عن أحداث مرتقبة في العمل، إذ عدم معرفة الأحداث يشعر المتفرجين بالصدمة والاضطراب الممتع، وهذه المتعة تختفي تماماً عند معرفة الأحداث الصادمة مُسبقاً. وهذا ما أشار له صالح الستيني في حواره عندما قال: إذا صرت تتابع مسلسل ترضى أحد يحرقه عليك؟!
تساؤلات تبقى من دون أجوبة
يطرح الفلم تساؤلات فلسفية، وتظهر أولها عن فكرة الفلم الأساسية، بالإضافة إلى السؤال الأكثر إلحاحاً: ما هو الزمن؟ وهل ثَمَّة إمكانية لتغيير المصائر المكتوبة والمقدّرة؟ أم إن القادم قادم ولا يحتمل التأجيل أو التبديل؟
ومن المفارقات التي يطرحها الفلم تباين الإنسان في تطلعه إلى المستقبل وترقبه ورغبته في العودة للماضي. وهذا ما حاول المخرج الحسين أن يمرِّره في الفلم عندما نشاهد صالح الثلاثيني يفر عبر الدرج إلى سطح المستشفى، ويلحقه الستيني، وكأننا نشهد على من يحاول ملاحقة ماضيه واصطياده، وكأنه شيء يمكن تعديله وصياغته من جديد! ليعود بنا مرَّة أخرى ويطلعنا على جولة ملاحقة جديدة، ولكن بشكل عكسي، حيث ينزل صالح الستيني الدرج ويلحق به الثلاثيني، يقترب منه، ويلح عليه في الأسئلة كمن يقصد عرّافاً ويقبل بأي إجابة، حتى ولو كانت ملوّنة بالخداع، فقط كي يهدأ من نوبة الهلع من المستقبل.
ولعل المخرج لجأ إلى حيلة انتظارهما للمولود لفرض مساحة من الخيال الحر الذي لم يعرف الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، مساحة اللازمان واللامكان، مسار جديد قابل لكل الاحتمالات، يضيف معنى آخر لمفهوم الزمن لم تدركه البشرية بعد.
اترك تعليقاً