يطلق المؤرِّخون أسماء المواد، التي استخدمها الإنسان في أدواته على العصور التاريخية المختلفة. وهي العصر الحجري، الذي امتد حتى 3000 ق.م.؛ ثم العصر البرونزي من 3000 ق.م. وحتى 1000 ق.م.؛ والعصر الحديدي من 1000 ق.م. حتى يومنا هذا. ويسمى هذا التصنيف أحياناً: “نظام العصور الثلاثة” الذي صاغه أمين المتحف الدانماركي كريستيان تومسون في العام 1816م، ولا يزال يستخدم في الأوساط الأكاديمية حتى الآن.
لكن، ألم تصبح تسمية عصرنا بالحديدي قديمة؟
احتلَّت المعادن منذ وقت طويل المكانة المهيمنة باعتبارها أهم المواد الهندسية. وكان الفولاذ هو الأهم على مدى القرون القليلة الماضية. لكن حديثاً، وعلى نحو متزايد في عديد من المجالات، تواجه مكانة الفولاذ تحدياً من قبل مواد أخرى غير معدنية، مثل البلاستيك والسيراميك والمواد المركبة.
ومع التطور الحديث والواسع في علوم وهندسة المواد، التي دمجت علم الفلزات مع علوم البوليمرات والكيمياء الفيزيائية وغير العضوية، وعلم المعادن، وتكنولوجيا الزجاج والسيراميك وفيزياء الجوامد، وغير ذلك لتشمل جميع المواد الهيكلية والوظيفية، أصبح علم المواد واحداً من أوسع التخصصات الدراسية. وأسهم ذلك في تصميم مواد جديدة تحتاجها تقنيات وصناعات حديثة، أو في تعديل تركيب مواد موجودة لتناسب أخرى جديدة، مما عزَّز استخدام المواد اللامعدنية على حساب المواد المعدنية التقليدية.
العناصر في الطبيعة
تنقسم العناصر الـ 118، التي تشكِّل اللبنات الأساسية لكل شيء من حولنا، حياً كان أو غير حي، إلى قسمين: العناصر المعدنية، وهي غالبيتها، والعناصر اللامعدنية، التي لا تقل أهمية عن العناصر المعدنية. وقد تم تسجيل وتصنيف هذه العناصر فى ما يُعرف بـ “الجدول الدوري للعناصر”. والعنصر هو ما لا يمكن تجزئته بالعمليات الكيميائية والفيزيائية العادية. ويتألف عادة من نوع واحد من الذرات المعينة أو نظائرها. أما “المادة”، أو “المواد”، فيمكن أن تحتوي على عنصر واحد من هذه العناصر، أو مركّب من اثنين مختلفين أو أكثر منها. ويمكن تصنيف المواد بدورها إلى قسمين:
01
المواد المعدنية التي تتصف جميعها باستثناء الزئبق، بالصلابة عند درجة حرارة الغرفة، كالحديد والنحاس والفضة والبلاتين وغيرها؛ كما تتصف بالتوصيل الكهربائي والحراري والبريق واللمعان، وغيرها من خواص المعادن المعروفة.
02
المواد اللامعدنية التي يمكن أن تأتي على شكل غاز أو سائل أو صلب. كما تأتي على هيئة مواد طبيعية كالخشب والرمل والطين والغازات، وعناصر أخرى مثل الكربون وغيرها، وكذلك كمواد اصطناعية مثل البوليمرات المستخلصة من النفط والغاز. كما تشمل هذه الفئة الغازات النبيلة، التي لا تتفاعل مع غيرها من العناصر؛ والهالوجينات المنتجة للملح عند تفاعلها مع المعادن، وعناصر الكربون والأكسجين والنتروجين والفسفور والكبريت والسيلينيوم. وتتميز المواد اللامعدنية بمقاومتها العالية للتآكل الكيميائي.
تصنيف وخواص المواد اللامعدنية
يوضِّح الشكل التالي تصنيف المواد اللامعدنية
تتميز المواد اللامعدنية بمقاومتها العالية للتآكل الكيميائي. ويوضِّح الجدول التالي أهم خواص تلك المواد مقارنة بالمواد المعدنية:
أهميتها في التقنيات الحديثة
يتزايد يوماً بعد يوم استخدام المواد اللامعدنية بدلاً من المواد المعدنية في معظم المجالات، بسبب الخصائص التي تميِّزها، بدءاً من الأدوات المنزلية إلى أنابيب النفط والغاز. وفيما يأتي بعض أبرز هذه المجالات:
صناعة الأنابيب
استخدمت المواد اللامعدنية منذ القدم في الأنابيب، واستمر استخدامها مع المواد المعدنية لفترة طويلة. لكننا نشهد حديثاً عودة قوية لها في شبكات الأبنية والصرف الصحي والمياه وغيرها. وذلك للخصائص المهمة التي تمتاز بها عن الأنابيب المعدنية وأهمها: مقاومتها العالية للتآكل من داخل الأنابيب وخارجها؛ ومقاومتها للصدأ والعفن؛ وخفة وزنها؛ وسهولة توصيلها.
الأجهزة الإلكترونية
يدخل السيليكون المشتق من الرمل في صلب كافة الأجهزة الإلكترونية، ولا يوجد بديل اقتصادي عنه حتى الآن. وبحسب آخر إحصاء لمؤسسة “ستاتيستا”، 2019م، فإن بعض المواد اللامعدنية التي تدخل في تركيب الهاتف الذكي هي:
السيليكون | %24.8 | وهو مادة لامعدنية
البلاستيك | %22.9 | وهو مادة لامعدنية
الطائرات
يقول موقع “فلايت ميكانيكس”، إن استخدام الألومنيوم تقلَّص بشكل كبير، من %80 من هياكل الطائرات في عام 1950م إلى حوالي %15 من اليوم، بعدما تم استبدال الألومنيوم بأخرى لامعدنية، مثل البلاستيك المقوى أو مواد مركّبة متطورة (مثل ألياف الكربون وغيرها).
ومن المعروف أن ألياف الكربون هي صلبة أكثر من الفولاذ بعدَّة أضعاف وأخف منه بعدَّة أضعاف أيضاً. وتُعدُّ هذه الخاصية حيوية جداً للطائرات، وقد أحدثت بالفعل ثورة في صناعتها.
وتستخدم المواد البلاستيكية الشفَّافة في ستائر الطائرات، والزجاج الأمامي، والنوافذ ومختلف الأماكن داخل الطائرات.
وتأتي أهمية البلاستيك الشفاف في الطائرات من الميزات المهمة لبعض أصنافه إزاء تفاعله مع الحرارة. فهناك صنف “اللدائن الحرارية”، التي تلين بالحرارة وتتصلب عند تبريدها، من دون تغيير كيميائي لها حتى عند تكرار ذلك عدَّة مرَّات. وهناك أيضاً صنف “اللدائن الصلبة بالحرارة”، التي تتصلب بالحرارة كلما ارتفعت مهما كان شكل الحرارة؛ حرارة الغرفة، أو التفاعل الكيميائي، أو الإشعاع.
السيارات
تدخل المواد اللامعدنية في صناعة السيارات بسرعة غير مسبوقة. ففي إحصاء لموقع “لاب ثينك”، تبيَّن أن متوسط استهلاك المواد اللامعدنية لكل سيارة ازداد من 68.4 كجم في عام 1981م إلى 150 إلى 180 كيلوجراماً حالياً.
ومع الدراسات البيئية التي تظهر وجود علاقة بين المركبات ذات الوزن المنخفض وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون المنخفضة، هناك زخم كبير لمتابعة اتجاه الوزن الخفيف في السيارات.
والخيار الواضح وشبه الوحيد هو ألياف الكربون. إذ يقول موقع “أكسفورد أدفانس سيرفيسيز”: “إن ألياف الكربون أقوى عشر مرَّات من الفولاذ وثماني مرات من الألومنيوم، وهي أخف بكثير من كلا المعدنين”. وبالفعل، بدأت بعض صناعات السيارات بإدخال هذه المادة في سياراتها.
فقد اعتمدت “الفورميلا وان” ألياف الكربون في خطوط الإنتاج الخاصة بسيارات هذا السباق. وعلى الرغم من أسعارها الحالية المرتفعة؛ فإن خصائصها تفوق نسبياً هذه التكلفة. وفي عام 2013م، أطلقت شركة “بي أم دبليو” سلسلة سياراتها الكهربائية بجسم مصنوع من ألياف الكربون المركبة، وهي “1602e”. كما عرضت شركة صناعة السيارات الكورية “هيونداي” نموذجاً لسيارة في عام 2014م في معرض جنيف للسيارات “إنترادو”، تعمل بخلايا وقود الهيدروجين مع جسم من ألياف الكربون.
ويبدو واضحاً أن مبدأ السيارات والمركبات المصنوعة من ألياف الكربون هو المستقبل. ولكن من أجل رؤية ألياف الكربون في سيارات الجميع قريباً، يجب بذل جهد لتقليل كلفتها.
دور أرامكو السعودية في تعزيز صناعة المواد اللامعدنية
إدراكاً من أرامكو السعودية لأهمية صناعة المواد اللامعدنية وتطبيقاتها على صناعة النفط والغاز وغيرها من مختلف الصناعات الأخرى في المملكة، اهتمت مبكراً بتعزيز صناعة هذه المواد. فعقدت الندوات والمعارض وأقامت الشراكات مع الشركات المحلية والعالمية، وشاركت في المؤتمرات العربية والعالمية لتعزيز هذه الصناعة. وقد تجدَّد هذا الاهتمام مع انطلاقة رؤية 2030، واكتسب منحى عملياً واسعاً لتوطين هذه الصناعة في المملكة.
إن استخدام المواد والمنتجات اللامعدنية ليس بالأمر الجديد على أرامكو السعودية، فقد تم توظيفها على نطاق أضيق في السابق، أما التوجه الحالي والمستقبلي فيرجح كفتها في المشاريع التي تقوم الشركة بتنفيذها.فتحت عنوان “المواد اللامعدنية، الحل الأمثل للتآكل”، نظّمت الشركة “المنتدى والمعرض التقني للمواد اللامعدنية”، وذلك في مدينة الأحساء عام 2013م.
ونجحت الشركة في تركيب أول أنبوب من اللدائن الحرارية المدعمة، وهي مواد لامعدنية، في خريص عام 2015م. وكان هناك تعاون وثيق من جانب فريق العمل المختص بالمنتجات اللامعدنية التابع لإدارة الخدمات الاستشارية فى أرامكو، مع عدد من الموردين لتوسيع نطاق تشغيل أنابيب اللدائن الحرارية المدعمة لاستخدامها في تطبيقات الضغط العالي، ودرجات الحرارة المرتفعة مثل حقن المياه.
وبهدف تعزيز هذه الصناعة وإكسابها بعداً عالمياً، وقّعت أرامكو السعودية في يوليو 2019م في الظهران، مذكرة تفاهم مع شركة بيكر هيوز، التابعة لشركة جنرال إلكتريك، لتأسيس مشروع مشترك في المملكة لتصنيع المواد اللامعدنية المستخدمة في مختلف المجالات الصناعية. وستُعزّز هذه الشراكة استراتيجية أرامكو السعودية من خلال أداء دور ريادي في نشر تطبيقات المواد اللامعدنية عالمياً. وللمناسبة، قال النائب الأعلى للرئيس للخدمات الفنية في أرامكو السعودية، الأستاذ أحمد عبدالرحمن السعدي: “تُعد هذه الشراكة مع بيكر هيوز خطوة إضافية في مسيرة أرامكو السعودية نحو التوسّع في توظيف التطبيقات الجديدة للمواد اللامعدنية في مختلف مجالات أعمالها. وقد أثبتت أرامكو السعودية نجاحها من خلال مد خطوط أنابيب يصل طولها إلى أكثر من 5,000 كيلومتر مصنّعة من مواد غير معدنية، أسهمت بشكل كبير في زيادة كفاءة التشغيل وتقليل تكاليف الصيانة. وسيتيح توطين هذه الصناعة فرصاً استثمارية للمنتجين المحليين وسيسهم في نقل المعرفة للمملكة”.
كما أكدت أرامكو السعودية التزامها المستمر بتبنّي أحدث التقنيات وتطوير الشراكات العالمية بافتتاح المرافق البحثية لشركة بيكر هيوز جنرال إلكتريك في وادي الظهران للتقنية، التي من شأنها إحداث تحولات جذرية في أعمال قطاع التنقيب والإنتاج.
وسيُسهم المركز الجديد من خلال تقنياته المتقدّمة في تحسين قدرات أرامكو السعودية في مجال إدارة المشاريع، وتصميم وتصنيع وتشغيل الأجهزة والبرمجيات المتعلقة بمجال صناعة أجهزة التحكم والمراقبة. وتتطلع الشركة إلى تصدير هذه التقنيات عالمياً.
الجدير بالذكر أن أرامكو السعودية أسست، مؤخراً، مركز ابتكار المواد اللامعدنية (NIC) في كامبريدج بالمملكة المتحدة، بالتعاون مع معهد اللِّحام ومركز الأبحاث الإنشائية الوطني، وذلك لغرض تطوير حلول تقاوم من خلالها المواد اللامعدنية درجة الحرارة العالية. ويتعاون المركز مع شركاء من الأوساط الأكاديمية والصناعية
بهدف تسريع تطوير المنتجات واختبارها وتسويقها.
الخلايا والألواح الشمسية
المكوّن الأساسي للخلايا الشمسية هو السيليكون النقي، الذي لا يكون نقياً عادة في حالته الطبيعية. وهو مُستمد من ثاني أكسيد السيليكون مثل حصى الكوارتزيت (أنقى السيليكا) أو الكوارتز المسحوق. ثم يتم معالجته بالفوسفور والبورون لإنتاج فائض من الإلكترونات ثم نقص منها على التوالي، لجعل أشباه الموصلات قادرة على توصيل الكهرباء.
أما الألواح الشمسية، وتسمى أحياناً ألواح السيليكون الشمسية، فمصنوعة كلياً تقريباً من رقائق السيليكون. هذه الرقائق هي عملياً حديثة، لم تكن صناعتها بدقة ممكنة من دون التقنيات الحديثة.
البطاريات
عندما ينظر المرء إلى التقدُّم الهائل في معظم التقنيات الحديثة، يتعجب للتخلف الحاصل في تقنية البطاريات. وقد بدأ هذا التخلف يعيق التقدُّم في باقي الحقول. وهو أحد الأسباب التي تجعل السيارات الكهربائية غير موجودة في كل مكان. إن التقدُّم في مجال تخزين الطاقة، خاصة بطاريات الليثيوم أيون، لم يواكب بقية الابتكارات كما يحدث في الصناعات الأخرى.
وتركز الحلول المقترحة من كثير من المراكز البحثية على مواد لامعدنية بديلاً عن الليثيوم في البطاريات.
من هذه المقترحات الحديثة ما توصلت إليه مجموعة من الباحثين في “جامعة أوبسالا” في السويد. ومفاده أن نوعاً معيناً من الطحالب ينتج نوعاً فريداً من السليلوز، ويمكن استخدامها في تصنيع مواد غير مكلفة وغير سامة وبسيطة، لاستعمالها في بطاريات مرنة، رقيقة، متينة الصنع، أفضل بكثير من البطاريات الحالية.
كما توصل كيميائيون في “جامعة ألبرتا” في كندا إلى تقنية جديدة تتيح إنشاء جيل جديد من بطاريات الليثيوم أيون المستندة إلى السيليكون، بقدرة شحن تبلغ 10 أضعاف طاقة البطاريات الحالية.
وكشفت في الآونة الأخيرة شركة ناشئة تتخذ من واشنطن مقراً لها أنها توصلت إلى صنع بطارية سيليكون “مسامية”، أكثر أماناً للاستخدام، وذات طاقة تبلغ أربعة أضعاف طاقة بطاريات الليثيوم أيون، وبتكاليف تصنيع أقل، وستكون جاهزة للتسويق في العام الجاري 2020م.
باختصار، يبدو أن عصرنا بات بالفعل عصر المواد اللامعدنية. فقد أصبحت صناعتها ركناً أساسياً للتقدُّم الاقتصادي. وعلى هذا الأساس، وتماشياً مع رؤية السعودية 2030 للانتقال بالاقتصاد السعودي ليكون اقتصاداً عصرياً ضمن المراكز الخمسة عشر الأولى لأفضل اقتصادات العالم، تبنَّت أرامكو السعودية، بالتعاون مع مؤسساتٍ وشركات سعودية وعالمية، مشاريع لإنتاج المواد اللامعدنية، التي تسهم في تطوير عدد من الصناعات الأخرى، وعلى رأسها صناعة النفط والغاز، ولتشكِّل مستقبل عديد من الصناعات المختلفة؛ فهي أقل تكلفة، ويمكن تركيبها بسهولة، وتدوم طويلاً مقارنة بالمواد المعدنية، وتقلل تكاليف الدورة الإنتاجية، كما تقلل من انبعاثات الكربون.
اترك تعليقاً