عن بُعد، ومن قلب المدن العربية لكن بعيداً عنها، نرى مدننا من فوق، من الأعلى، تعانق الشمس وتتلألأ تحت الأضواء. نرى مدننا العربية من السماء، من دون حدود، ولا سدود، ومن دون أبواب ولا حواجز، مدنٌ مفتوحة على فضاء غارق في السكون والفراغ، بعيداً عن صخب الأرض وتعقيدات العيش فيها.
من هذا المدى الشاسع، من رئة الأرض العالية، نكتشف عبر التصوير الجوّي، خريطةً جديدة للبلاد العربية، إنها رؤوس مدننا الشامخة والسامية، مدننا العربية المُجتمعة والمتجاورة، لبنان والعراق وليبيا والجزائر والكويت والسودان وعُمان والبحرين.
منذ أن بدأ الإنسان يخترع ألعابه، ظهرت لديه شهوة عارمة للطيران. فابتكر الطائرات الورقية أوّلاً، ثم الأجنحة الكرتونية، وصولاً إلى بساط الريح وقائده المغامر سندباد. وعَبر التاريخ، بقيت عمليات التصوير الجوّي من الأعلى عملاً محصوراً بالأغراض العسكرية وأهداف الأمن والرقابة، وتوسّعت لاحقاً كي تُستخدم في الإنتاج التلفزيوني والسينمائي، ولكن بواسطة طائرات مختصّة بهذا النوع من التصوير، إلى أن ظهرت الطائرات الصغيرة.
جاءت هذه الطائرات كحلّ عملي مقدورٍ عليه مادّياً وعملياً، لمساعدة المهتمّين على رؤية العالَم من زوايا عدّة، إذ فتحت هذه التقنية أفقاً جديداً للمصوّرين المحترفين والهواة معاً، الراغبين في إنتاج نوعٍ جديد من الصور والفيديوهات، وتوسّع استخدامها لاحقاً في الإنتاجات السينمائية العالَمية.
التصوير الجوّي عبر التاريخ
لم تخرج أول صورة جوّية إلى العالَم قبل سنة 1858م، وذلك بفضل المصوّر الصحافي الفرنسي نادار أو غاسبارد فلكس تورناشو، وهو أوّل مصوّر جوّي في التاريخ، إذ لولاه لما كنا رأينا كيف تبدو عليه باريس من الأعلى في القرن التاسع عشر، وهو اشتهر بالصورة التي التقطها لمدينة باريس من فوق في العام 1858م. وبعده بنحو ثلاثة عقود، تمكن أرتور باتوت من التقاط صورة لروما عبر استعمال طائرة ورقية في العام 1888م، قبل أن يتمكّن من تسجيل أول فِلْم جوّي صامت لمدينة روما مدته 3 دقائق ونصف الدقيقة في العام 1909م.
ومعلومٌ أنّ الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العُظمى، التي استمرت 4 سنوات بدءاً من العام 1914م وحتى 1918م، عزّزت من أهمية التصوير الجوي والحاجة إليه. وبحسب المراجع التاريخية، فقد جرى خلالها استعمال آلة التصوير الجوي نصف الأوتوماتيكية التي صممها المهندس العسكري الروسي الكولونيل بوت في العام 1911م.
مهندسو الأعالي
بقي التصوير من الأعلى حكراً على مجالاتٍ معيّنة، حتى ظهرت قبل حوالي 5 سنوات طائرات “الدرون”، أو “نظرة الطائر بعين الطائر” كما يسمونها، وهي طائرة من دون طيّار، وتعني باللغة الإنجليزية “ذَكَر النحل”، ويبدو أنّ التسمية تناسب الصوت الرنّان الذي يصدر عنها عندما تنطلق في الأجواء. وبسرعة، تمّ توظيف “الدرون” على أوسع نطاق، إذ نشهد حالياً طفرة في الصور الجوية عبر هذه التقنية، التي أصبحنا نرى من خلالها أبعاداً عدّة للأماكن التي اعتدنا على رؤيتها من زاوية واحدة.
يوضح المصوّر العراقي المحترف محمد علاء الدين لـ “القافلة”، أنّ كاميرا “الدرون” غيّرت من رؤيتنا الفنية للأسطح الخاصة بأعالي المدن والبحار والمناطق الزراعية، معتبراً أنّ الصور من الأعلى تُبرز تكوين المدينة وهندستها المعمارية، وتعكس اللمسة الفنية التي وضعها المهندسون الذين صمموا هذه المدن، في حين لا يمكن للصور المُلتقطة من الأسفل أن تُظهر هذه التفاصيل مجتمعةً.
ويرى المصوّر السوداني إيراهيم سائحون أن الدرون حقّقت جزءاً من حُلم الإنسان بالتحليق، فقد أصبح يحلّق عبرها وهو ثابت في أرضه، موجّهاً عيونها نحو الهدف المطلوب. ولفت إلى أنّ حمّى “الدرون” سادت قبل 3 سنوات في السودان. لكنّ التحدّي يبقى في عدم تكرار الأعمال وتشابهها، إذ يبقى الأساس هو تميّز كل شخص برؤيته الخاصة، كي لا تصبح المشاهد مجرد لقطات مكرَّرة من الأعلى.
وفي صور الفوتوغرافي السوداني سحرٌ يشعّ من جزيرة “سواكن” الواقعة في البحر الأحمر شرقي السودان، أو جزيرة “سواجن” نسبةً إلى اسمها القديم “سجن الجنّ”.
أمّا “الخضراء”، فهي قلب الخرطوم النابض، وهي تضمّ القصر الجمهوري أو سرايا الحاكم العام، وهو صرح تاريخي أُطلق عليه بداية اسم سرايا الحكمدار في العام 1830م، وبعد استقلال السودان في العام 1956م أصبح يُعرف باسم القصر الجمهوري على غرار التسميات السائدة لقصور الرؤساء في العالم. ويتميّز القصر بتصاميمه الهندسية التي راجت في أوروبا في القرن السابع عشر، فضلاً عن إضافات معمارية عربية ورومانية تظهر في الأبواب والنوافذ المقوسة والشرفات.
أما المصوّر البحريني خالد المحرقي فيَعُدّ أن ميزة التصوير من الأعلى تكمن في إعطاء نتيجة مُغايرة عن المألوف، أو مشهداً لا تتوقعه العين، لا بل إن الأحجام تختلف جذرياً، فنرى البيوت والمدن والطرقات صغيرة مثل قطع الألعاب المنثورة على الأرض. كما أن الإضاءة الطبيعية بفعل الشمس، تلعب دوراً مهماً في إعطاء مسحة فنية وجمالية للصور. ولفت المحرقي إلى أن الصور تختلف باختلاف الوقت من الصباح وحتى زوال الشمس، لكن يبقى الأساس في الإحساس، إذ تعطي حرية الحركة في الجو المصورَ متعةً عاليةً، وكأنه يحلق بجسده فوق العالم.
في صور المحرقي تبدو الجزر السكنية في البحرين، الدولة الأرخبيلية المكوّنة من 33 جزيرة طبيعية، مثل حيتان ضخمة تستقرّ في محيطٍ هادئ، تحدّها الأراضي والسهول الواسعة.
وبيروت العاصمة اللبنانية البهيّة تبدو في صور الفنان المحترف رامي رزق تحفة من الخيال، بطرازها المعماري العريق، وأبنيتها الأنيقة، ومعالمها الدينية التي تعكس روح التعايش بين 18 طائفة استقرّت في هذا البلد منذ قديم الزمان.
ويعُدّ المصوّر اللبناني أن التصوير بواسطة “الدرون” من الأعلى يسمح برؤية العالم من منظارٍ آخر لم نعرفه من قبل، ولا يمكننا رؤيته بالعين المجردة؛ إنّها الزاوية غير الاعتيادية التي ميزت هذه التقنية عن التصوير التقليدي، مع العلم أنها تخضع لقواعد التصوير المعروفة نفسها.
أما دار الأوبرا السلطانية في مسقط فتبدو في صور محمد الغافري مثل حلمِ ألف ليلةٍ وليلة، والدار العُمانية هي أوّل دار أوبرا في منطقة الخليج العربي، وقد استمرّت أعمال البناء فيها مدّة أربع سنوات منذ العام 2007م وحتى العام 2011م، وباتت من أشهر المعالم العمرانية في مسقط.
وجسر ملاح سليمان في الجزائر، مَعْلَمٌ مميّز بحسب خُبيب كوّاس المصوّر وصانع الأفلام الجزائري، الذي يجوب العالَم من أجل العودة بصور باهرة وعالية القيمة. والجسر الذي اختاره كوّاس، هو عبارة عن ممرّ حديدي يبلغ طوله حوالى 125 متراً، يصل بين السكّة الحديدية ووسط المدينة. وتُعرف مدينة قسنطينة بمدينة الجسور المعلّقة، إذ تضمّ 8 جسورٍ ضخمة، وهي من أكبر مدن الجزائر، ومن أقدم المدن في العالم، وأكثر ما يميزها هو موقعها على صخرةٍ كلسية هائلة وصلبة.
اترك تعليقاً