كانت أنامل هذا الفنان الإسباني تعزف ببراعة مذهلة مقامات خماسية من موسيقى الفلامنكو، تحرك وجدان السامع وتدفعه إلى ارتياد آفاق جديدة. ظهر نبوغه الموسيقي باكراً، فقد ترعرع وسط أسرة موسيقية في الأندلس، وتعلَّم العزف على القيثارة من والده الذي كان عاملاً فقيراً، يشتغل في أحد المصانع نهاراً، وفي الليل يعزف على القيثارة في المطاعم. وفي سن التاسعة، غادر باكو المدرسة ليخصص وقته لتعلم العزف على القيثارة، التي كان يجبره والده على تعلمها.
يقول باكو في كتابه “باكو دي لوسيا” عن طفولته: “لو أنني لم أولد في بيت والدي لكنت اليوم لا شيئ. لا أؤمن بالعبقرية العفوية. فقد أجبرني والدي على عزف القيثارة عندما كنت صغيراً “.
كان يعزف أكثر من عشر ساعات يومياً وهذا الكد الموسيقي أعطى أكُله سريعاً. فبعدما أتيحت له الفرصة لتقديم عرض في الإذاعة المحلية لمدينة “الجزيرة الخضراء” عام 1958، أي في سن الحادية عشرة، خلف عرضه المفعم بالرقة والعاطفة صدى طيباً. وسنة بعد ذلك، أصبح مرافقاً أساسياً لوالده. وخلال مسابقة كيرتامين الفلامينكو بجيريس، اكتشف الجمهور موسيقياً واعداً بحيث حصل على جائزة “الإلدويندي”. كانت هذه الجائزة المخصصة أساساً للفنانين الشباب الصاعدين بمثابة أجنحة للتحليق في عالم القيثارة والفلامنكو.
من معطف زرياب خرج فن الفلامنكو
قبل أن يصل الفلامنكو إلى العالمية في القرن التاسع عشر، حين أصبحت موسيقاه تمتلك مجموعة متكاملة من الأساليب الموسيقية الأساسية التي تسمى “بالوس”، كان هذا الفن قد رسخ وجوده في منطقة الأندلس منذ أواخر القرن الثامن عشر كوسيلة للتعبير الفني. وتُعدُّ مقاطعة “أندلسيا” في جنوب إسبانيا مهد الفلامنكو وموسيقييه ومغنييه وراقصيه البارزين. وقد أُدرج في عام 2010 على قائمة اليونيسكو للتراث الثقافي العالمي غير المادي.
يقول البعض إن كلمة “الفلامينكو” مصدرها كلمة “فلاح مونغو”، ويقصد بها الفلاحون الموريسكيون من دون أرض. وكان الوجود العربي الذي امتد في إسبانيا لثمانية قرون خلت قد أثر في كل مجالات الحياة عند سكان الجنوب الإسباني. وترك الثراء الموسيقي العربي آثاراً عميقة وجلية في موسيقى الفلامنكو، وما زال بعض مقاطع البالوس، مثل “الزامبرا”، يشهد على ذلك.
يمكن للمرء أن يلتقط بسهولة أصداء الموسيقى المغربية والشرقية في مقامات وغناء الفلامنكو التي تعود أصولها إلى ما أسسه زرياب من أصول موسيقية أندلسية تداخلت مع الفلكلور الموسيقي الإسباني بتلويناته المتنوعة وترسبت في طبوعه ومقاماته.
“لو أنني لم أولد في بيت والدي لكنت اليوم لا شيئ. لا أؤمن بالعبقرية العفوية. فقد أجبرني والدي على عزف القيثارة عندما كنت صغيراً”.
باكو يطير بالفلامينكو من الأندلس إلى العالمية
كان الطفل فرانسيسكو سانشيز غوميز الملقب بـ “باكو دي لوسيا” يتحين الفرصة للعزف بمفرده، وما إن أتيح له ذلك، أدهش أسرته أولاً ومن ثم الجمهور.
لم تكن طريقته في العزف تشبه غيرها. وسرعان ما توسعت خبرته، ونجاحه، وتزايد جمهوره الذي كان يتابعه بشغف وهو يترك أصابعه تتلاعب بروحه بها.
ليس هناك ما هو أسهل من العزف اعتماداً على الموهبة والإرث الغجري. لكن باكو دي لوسيا رفض التقليد ومحاكاة الماضي. كان يَعُدُّ أن أصابعه لم تخلق للتصنع والمحاكاة، بل للإبداع والارتجال والمغامرة، فتركها تداعب أوتار القيثارة بلطف تارة وبعنف تارة أخرى. أحب “الجاز” بجنون، واندمج مع جون ماكلولين وآل دي ميولا في ثلاثي موسيقي فريد اعتمد الارتجال في أغلب حفلاتهم التي امتدت ما بين 1969 و1977، وأسفرت عن تسجيل تسع أسطوانات غيرت أسلوب العزف على القيثارة، ليس في إسبانيا وأمريكا الجنوبية بل في العالم بأسره، إذ امتزج فيها الفلامنكو بالموسيقى الهندية، والسالسا، والبوسا نوفا، والموسيقى العربية.
بعد الحفل الذي قدَّمه عام 1975 في المسرح الملكي بمدريد، أسس فرقة مع أخويه، المغني بيبي دي لوسيا وعازف القيثارة رامون، معتمداً على آلات وإيقاعات مستلهمة من أمريكا الجنوبية والبيرو بالتحديد. وتكللت هذه التجربة بألبومين لقيا نجاحاً كبيراً الأول في عام 1981 والثاني عام 1984.
لكن أعظم ثورة موسيقية حققها باكو تتمثل في الثنائي الذي شكله مع المغني خوسيه مونغ كروز الشهير بـ “كماريون”، وأخرج الفلامنكو من القاعات الصغيرة والمقاهي والنوادي الليلية إلى المسارح الكبيرة في عواصم العالم بأسره، من طوكيو إلى لوس أنجلس.
بعد موت رفيقه كماريون، راح باكو يعزف وحيداً على خشبات المسرح، مستلهماً زياراته حول العالم ومصغياً لموسيقى الشعوب. في البيرو، استفاد من الفلامنكو “الكاجون”، وفي البرازيل من “الروبم دانتاس”. والتزم باكو بهذه التقنية لمدة عشرين سنة.
هذا التنويع والتكثيف الموسيقي دفعه إلى استعادة إرث موسيقي باذخ للملحن الاسباني مانويل دي فالا. وبعد سنوات قليلة، سجل أهم عمل للموسيقار الإسباني الكبير خواكين رودريغو (1901-1999) وهو “كونشيرتو أرانخويث”. وفي عام 1998، ولأول مرة، أفسح لحنجرته المجال، لتصدح، بصوتها الشجي والسحيق محدثاً بلبلة لدى الجمهور، الذي لم يكن يتوقع هذه المفاجأة. غنى باكو لأجل تكريم أمه وتكريماً لشريكه وصديقه كماريون، الذي كان قد توفي قبل ست سنوات. وقاده حدسه الفني إلى إبداع نوع جديد من الفلامنكو، نوع من “الموسيقى العالمة” إذا صح التعبير. ثم حصل على دكتوراة فخرية من جامعة قادش ومدرسة بيركلي للموسيقى، كما نال جائزة أمير أستورياس للفنون عام 2004. موسيقى باكو دي لوسيا تخطت الحدود الإسبانية، لتصبح موسيقى كونية. انطلاقاً من آلة القيثارة والفلامنكو وتراث الأندلس.
فلأكثر من ثلاثين عاماً، لم يتوقف باكو دي لوسيا لحظة عن استكشاف أوتار قيثارته والدفع بها إلى حدود مستحيلة. أصابعه الماهرة ترجمت حلمه إلى موسيقى حديثة مبنية أساساً على الحوار والمواجهة والارتجال بين الإرث الكلاسيكي المحفور بدماء سلالة زرياب المغامر والمطور، ودماء سلالة حديثة تمزج بين تراث موسيقى أمريكا الجنوبية وموسيقى الجاز. وفي خضم هذا السخاء الفني والدفق السحري فاجأ العالم بألبومه ما قبل الأخير “الحكايات الجميلة” حيث جدَّد الإيقاعات والأنغام والتقنية، وتُوِّج عزفه الباهر بجائزة غرامي العالمية.
كان عطاء باكو الموسيقي يفوق قدراته الجسدية، وهذا عادة ما يحدث مع المبدعين. فخلال جولة فنية في المكسيك، توفي باكو بأزمة قلبية عام 2014، وحينها، أحس العالم المفتون بموسيقى الفلامنكو باليتم، لأن الموت غيب فناناً أسطورياً، لكن إرثه الموسيقي سيبقى مرجعاً موسيقياً أساسياً وخالداً تستلهمه الأجيال.
اترك تعليقاً