مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2023

باربي في إطلالتها السينمائية

جدلٌ كبير وإيرادات أكبر


عصام زكريا

سينمائيًا، سوف يُذكر عام 2023م مرتبطًا بظاهرة فِلم “باربي”، الذي ضرب الأرقام القياسية في شباك التذاكر بشكل لم يكن يتوقعه حتى أكثر المتفائلين بنجاحه. كما تحوَّل إلى ظـاهرة ثقافية واجتماعية وسياسية غير مسبوقة. وكـلٌ من النجاح التجاري والأثر الثقافي يحملان دلالات مهمة، وسوف يتوقف أمامها المحللون كثيرًا.

من ناحية الإيرادات، حقّق فِلم “باربي” حتى وقت قريب 1.435 مليار دولار، منها حوالي 634 مليونًا من السوق المحلية في أمريكا وكندا، وما يزيد على 800 مليون من الأسواق العالمية، ليصبح أكثر الأفلام تحقيقًا للإيرادات خلال العام بلا منافس، سوى فِلم الأطفال “الإخوة سوبر ماريو”، الذي حقق 1.361 مليار. ومع تبقي عدة أسابيع على نهاية العام، فمن المستحيل تقريبًا أن يظهر فِلم آخر يقترب من هذه الأرقام.

بهذه الإيرادات يصبح “باربي” أنجح فِلم أنتجته شركة “وارنر براذرز”، التي يمتد تاريخها إلى قرن من الزمان، كما يحتل المرتبة الرابعة عشرة في قائمة الأفلام الأكثر تحقيقًا للإيرادات على مر التاريخ!

تكتسب هذه الإيرادات أهمية أكبر حين نفكر في أنه أيضًا أنجح فِلم أخرجته امرأة، هي “جريتا جيرويج”، وهو أمر حين نضعه في سياق “ظواهر” نسائية أخرى، منها مثلًا موضوع الفِلم نفسه، ندرك أننا في خضمّ حملة “جندرية” كبيرة، على الأقل في مجال السينما والثقافة.

أهمية أخرى تبرزها إيرادات “باربي”، لا سيما حين نضعها بجوار إيرادات العام كله، الذي شهد أيضًا نجاح أفلام أخرى مثل: “سوبر ماريو” و”أوبنهايمر” و”حراس المجرة 3″ وغيرها. فهناك ما يُشير إلى أن صناعة السينما الهوليوودية تتعافى من انتكاستها المستمرة منذ سنوات، بسبب الوضع الاقتصادي العالمي ووباء “كورونا” وانتشار المنصات والقرصنة وأسباب أخرى. لكن اللافت للنظر أن “باربي” و”أوبنهايمر” تحديدًا لا ينتميان إلى فئات الأفلام التي عادة ما تحقّق أعلى الإيرادات.

ظاهرةباربينهايمر

تزامن عرض “باربي” مع فِلم “أوبنهايمر”، أحدث أفلام المخرج والمؤلف كريستوفر نولان، الذي يحظى بشعبية لدى قطاع كبير من المشاهدين بفضل أفلامه “التجريبية” على مستوى الأفكار والسرد والتقنيات الفنية. يروي فِلم “باربي” قصة خيالية كوميدية عن دمية تتحول إلى بشرية. بينما يتناول “أوبنهايمر” حياة أحد أبرز شخصيات القرن العشرين، وهو عالم الفيزياء يوليوس روبرت أوبنهايمر، مخترع القنبلة الذرية، وهو فِلم جاد كئيب الموضوع والأسئلة. لكن دعاية كل من “باربي” و”أوبنهايمر” اعتمدت على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل أساس، وهي دعاية غير مسبوقة في حجمها وأساليبها، ما يضعنا أمام ظاهرة أخرى يُتوقع أن تسيطر خلال السنوات المقبلة.

الطريف أن “شعب السوشيال ميديا”، إذا جاز التعبير، سرعان ما التقطوا الدعاية المكثفة لكل من الفِلمين ودمجوها في “هاشتاج” واحد هو “باربينهايمر” (Barbenheimer). ورغم الاختلاف الهائل بين الفِلمين، والمنافسة التي يُفترض أن تكون بينهما، أصبحت دعاية كل منهما مفيدة للعمل الآخر. حتى إن أعدادًا هائلة من المشاهدين ذهبوا لمشاهدة الفِلمين، غالبًا في اليوم نفسه، بالرغم من أنهم في الأحوال العادية لم يكونوا ليهتموا إلا بأحد الفِلمين. وهو حدث آخر ربما يكون غير مسبوق!

هذا النجاح لـ”باربي” متعدد الصُّعُد له أسباب بالقطع، من بينها واحد فقط يتعلق بالمستوى الفني للفِلم، وبعضها يتعلق بموضوع وصنّاع الفِلم، والبعض بأشياء خارج الفِلم.

حقّق فِلم “باربي” أكثر من 1.4 مليار دولار، ليُصبح الأكثر تحقيقًا للإيرادات خلال العام، والرابع عشر بين الأفلام على مر التاريخ.

فِلم جيد.. ولكن

الفِلم جيد، ولولا هذه الجودة لما كانت هناك جدوى لكل العوامل الأخرى، مهما كانت الدعاية. فقد رأينا أمثلة كثيرة على إمكانية تبخرها بين ليلة وضحاها إذا صُدم الجمهور بمستوى العمل فنيًّا.

و”باربي” فِلم جيد كتابة وإخراجًا، ولكنه ليس تحفة فنية أو عملًا استثنائـيًّا متكامل الأوصاف. وفي الحقيقة هو يعاني نقاط ضعف، بعضها ساهم في نجاحه، وهي من العجائب التي تحدث أحيانًا؛ أن تكون بعض عيوب العمل من أسباب نجاحه. ومن نقاط الضعف هذه تعدد الرسائل والمعاني التي يحملها الفِلم وتشوشها وتضاربها. ولعل أفضل ما يعبر عن ذلك الجملة الترويجية لحملة دعاية الفِلم التي تقول: “إذا كنت تحب باربي، فهذا الفِلم لأجلك، وإذا كنت تكره باربي، فهذا الفِلم لأجلك”!

من أسباب نجاح “باربي”، بجانب مستواه الفني الجيد، أنه فِلم هوليوودي “فاخر” على مستوى الإنتاج وفريق العمل. وصلت تكلفة الفِلم إلى 145 مليون دولار، وهذا المال يتبدى في كل عناصر العمل من الديكورات للمؤثرات للملابس، وبالطبع فريق الممثلين. ويضم العمل عددًا كبيرًا من النجوم المحبوبين، على رأسهم الأسترالية مارجوت روبي، التي لم تكتفِ ببطولة الفِلم، ولكنها شاركت في إنتاجه منذ أن كان فكرة على الورق، بجانب الكندي رايان جوسلنج وبقية أسماء المشاركين فيه.

بين الأنوثة والنسوية

من أسباب نجاح “باربي”، بجانب مستواه الفني الجيد، أنه فِلم هوليوودي “فاخر” على مستوى الإنتاج وفريق العمل. وصلت تكلفة الفِلم إلى 145 مليون دولار، وهذا المال يتبدى في كل عناصر العمل من الديكورات للمؤثرات للملابس، وبالطبع فريق الممثلين. ويضم العمل عددًا كبيرًا من النجوم المحبوبين، على رأسهم الأسترالية مارجوت روبي، التي لم تكتفِ ببطولة الفِلم، ولكنها شاركت في إنتاجه منذ أن كان فكرة على الورق، بجانب الكندي رايان جوسلنج وبقية أسماء المشاركين فيه.

ومن ناحية أخرى، اُتهِمت باربي بترويج صورة بيضاء عنصرية للجمال الأوروبي، ما دفع شركة “ماتيل” المنتجة للدمية إلى إصدار نسخ متعاقبة بمقاييس أنثوية وعرقية مختلفة. ويمتد الجدل حول باربي إلى نموذج المرأة الذي تقدمه وهل هو نموذج تقليدي رجعي للمرأة الخاضعة، كما يتخيلها ويريدها الرجال، أم أنها تقدم صورة عصرية “نسوية”. وقد حرصت “ماتيل” أيضًا على مواكبة التطورات باستمرار وإصدار نسخ تقدمية من باربي كطبيبة ورائدة فضاء ورياضية، بل حتى كصاحبة حرفة مثل الميكانيكا والنجارة وغيرها، بهدف أن تكون نموذجًا ملهمًا للفتيات.

بالطبع، “ماتيل” على استعداد لجعل باربي “شيطانة” إذا كان ذلك يعني بيع مزيد من الدمى. والفِلم أكبر دليل على ذلك.

خلطة جيرويج

فكرة صنع الفِلم جاءت بالأساس من “ماتيل”، ووصل العمل في النهاية إلى مارجوت روبي، ومنها إلى جريتا جيرويج، التي اشترطت إعادة كتابة العمل من جديد مع شريكها نوا باومباخ.

وجيرويج ، التي كانت ممثلة وتحولت إلى مخرجة وكاتبة ومنتجة، عُرفت بجانب مهارتها الفذة كمخرجة باهتمامها النسوي الواضح كما يظهر في فِلميها “ليدي بيرد” و”نساء صغيرات”، ولم يكن من المنطقي أن يُعهد إليها بإخراج فِلم صيفي تجاري مثل “باربي”.

ولكن ما حدث أن مارجوت روبي، وهي ممثلة تتمتع بالثقافة الجدية رغم جمالها “البارباوي”، اختارت جيرويج ووافقت على شرطها بإعادة الكتابة. والكتابة الجديدة لم تعجب شركة “ماتيل” بالطبع، ليس فقط لأنها تنتقد الشركة والرأسمالية بشكل عام، ولكن أيضًا للنبرة الفلسفية والتحليلية التي يمكن أن تُنفِّر جمهور باربي من الفِلم. ومع ذلك، وبعد مفاوضات طويلة، وافقت الشركة على السيناريو الذي كتبته جيرويج.

وهكذا خرج فِلم من إنتاج “ماتيل” ينتقد تسليع “ماتيل” للنساء، وبالنهاية يتحول إلى سلعة من منتجات “ماتيل”، وينتقد الهوس بباربي لكنه يحتفي بقوتها وشجاعتها، وفعليًا يتحول إلى أكبر هوس بالدمية.

يتكون “باربي” من مقاطع متفرقة. في البداية نرى نسخًا متنوعة من باربي وكين يعيشان في عالم الدمى الخيالي والمثالي، وهو عالم يتسم بالبراءة والمثالية تسوده النساء بينما يشغل الرجال أدوار “الكومبارس”. لكن باربي الرئيسة تنتابها بعض العوارض الطارئة جسديًا وذهنيًا، التي تستدعي منها الذهاب إلى العالم الواقعي لتعرف سبب ما حدث وتصلحه. وفي العالم الواقعي تكتشف أن “المدينة الفاضلة”، التي كانت تعيش فيها لا توجد على أرض الواقع، بينما يكتشف كين أن الرجال هم المسيطرون هنا. ويعود الاثنان إلى عالمهما محملين بالتجربة، ويتداخل عالما الخيال والدمى في صراع يحتاج إلى تصالح ينتهي به الفِلم.. تصالح يأتي على يد شركة “ماتيل” التي تعد بأنها ستضع مشكلة التفاوت بين العالَمين في حسبانها لاحقًا!

ومن خلال هذه الفقرات، يمكن أن يجد عشاق باربي أنفسهم، كما يمكن لخصومها وكارهيها أن يسمعوا أصواتهم، ويمكن للباحثين عن الضحك والنكات فقط أن يجدوا متعتهم. كما يمكن للباحثين عن فلسفة ما، أو قضية تتعلق بالبطريركية والنسوية، أن يفسروا بعض المشاهد والعبارات.. ويكمن ذكاء الفِلم وجوهر نجاحه في طبخ هذه الخلطة المتناقضة العجيبة بمقادير دقيقة جدًّا، تنتج في النهاية عملًا مستساغًا لكل الأذواق!


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “باربي في إطلالتها السينمائية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *