مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2023

رأي ثقافي

انفتاح المملكة على الفكر الفلسفي


عبد السلام بن عبدالعالي
أكاديمي وكاتب مغربي

لن نعطي الأسبقية هنا، كما جرت العادة، للتساؤل عما إذا كانت المملكة قد أخذت تعرف فلاسفة بالمعنى التّقني للكلمة؛ إذ إن هذا النوع من التساؤلات، الذي اعتدنا أن نطرحه فيما يخص العالم العربي في مجمله عندما نسأل: هل هناك فلاسفة عرب معاصرون؟ لم يكن ليفضي إلى أجوبة، وغالبًا ما تتولّد عنه أسئلة أخرى أشدّ تعقيدًا. إلا أنّ أكثر الأسباب أهمية لاستبعاد هذا التساؤل في نظرنا، هو أن الفلسفة نفسها لم تعد مجرد أسماء أعلام، ولربّما ليست هي أساسًا أسماء أعلام، ولا حتى مجرد فرع من فروع المعرفة، ولا دراسة من الدراسات، بقدر ما هي “مناخ” فكري. فقد تكون هناك فلسفة من غير أن يوجد فلاسفة بالمعنى التقليدي للكلمة. ولعل هذه هي السمة الأشد بروزًا حتى في المجتمعات الغربية المعاصرة؛ حيث لم تعد الفلسفة “تحضر” بالكيفية المعهودة، وإنّما صارت تعيش في “هوامشها”. دليل ذلك أن معظم المفكرين المعاصرين لا يقدّمون أنفسهم كفلاسفة حتى إن كانت الفلسفة المعاصرة لم تعرف حياةً فعلية إلا عندهم. وإذا حصرنا أنفسنا في السياق الفرنسي، فلنا في فوكو وبارت وليفي ستروس وبورديو أمثلة دالة على ذلك. فإن كان هؤلاء أقرب إلى التاريخ أو النقد الأدبي أو علم الإناسة وعلم الاجتماع؛ فإننا لا نستطيع أن ننكر، مع ذلك، أن “الانتعاشة” التي عرفتها الفلسفة المعاصرة، وما زالت تعرفها، لم تأتِ إلا على أيديهم، وليس أبدًا على يد من عهدنا تصنيفهم تقليديًا ضمن الفلاسفة. الفلسفة اليوم تعيش من هوامشها أو فيها، وهي لا تترعرع في فضاءات الفلسفة المعهودة، وإنّما تنبثق من المقاهي الثقافية والنوادي، وعند أهل الفن ونقاد السينما والصباغة، ولنا في بلانشو وأرطو وباتاي وغودار أمثلة دالة على ذلك.

انتعاشة مثيرة للانتباه أخذت تعرفها الفلسفة في المملكة بعد أن كانت، شأنها عند كثير من أقطار العالم العربي، تعاني التهميش والنبذ والإهمال. لا ينبغي أن ننسى أنها لم تكن تُدرّس تقريبًا في بعض الأقطار، كما أنها كانت، في أخرى، تدرّس في التعليم العالي من غير أن تدخل المدارس الثانوية. وحتى في الأقطار التي كان يُسمح لها فيها بالحياة، كنا نلاحظ أن الحصص المقررة لها في التدريس في اتجاه نحو التقلّص، وأن كثيرًا من الجامعات لا تخصّص لها أقسامًا خاصّة، هذا إن لم تتخلَّ عنها بالمرة. والغريب أنها، وإن وجدت كمبحث للتدريس، فهي لم تكن تحضر باسمها، وغالبًا ما كانت تتقنع تحت أسماء غريبة في بعض الأحيان.

بصيص أمل أَطلَّ خلال العقد الذي نودّعه، وخصوصًا في عدة منابر في المملكة. أمارته الأولى أن لفظ “فلسفة” لم يعد في حاجة إلى تستّر. فكثير من المجلات والملاحق الأسبوعية صار يفتح الأبواب لمقالات في الفلسفة وعنها. بل إن منها ما خصّص أعدادًا لهذا المبحث الذي كان منبوذًا حتى وقت قريب، أو كان يظهر من خلف ستار. وقد لا حظنا في الأخير ظهور أكثر من مجلة متخصصة في الفلسفة.

الأمارة الثانية على انفتاح المملكة على الفلسفة هي إقامة مؤتمرات فلسفية غالبًا ما كانت تتخذ طابعًا دوليًا، وتطرح قضايا فكرية وأخلاقية تضاهي مثيلاتها في باقي أنحاء العالم.

الأمارة الثالثة هي أن كتبًا بكاملها في الفلسفة الغربية تُنقل اليوم إلى لغة الضّاد، وهي تُنشر حسب إيقاع يبعث على الدهشة. صحيح أن بعض الترجمات قد تحتاج إلى نضج، وأن اتجاهات فلسفية بعينها هي التي تحظى بالعناية في هذا المضمار، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن الاهتمام بالفلسفة، سواء لدى القرّاء أو عند المترجمين، في تزايد مستمر، وهو يحاول أن يغطي مجالات الفكر الفلسفي جميعها.

لكن أهمّ من كل ذلك، هو ما أصبحنا نلحظه من تفتح على الفلسفة واهتمام بها وحديث متزايد عن الرغبة في إدراجها في أسلاك التعليم جميعها، وعيًا من الساهرين على تسيير شؤون المملكة بأنّ غرْس الفكر النقدي ينبغي أن يتأصل وأن يتم تدريجيًا وعبر مراحل نمو التلميذ وتفتّح آفاقه.

لا عجب إذًا أن تأخذ ثمرات كل هذه المجهودات في الظهور. ونحن نلمسها أساسًا في التمهيد لإرساء ذلك المناخ الذي أومأنا إليه. يتجلى ذلك أساسًا في انفتاح الذهنيات على الهزات الفكرية المعاصرة، وعلى مختلف أشكال الخلخلة التي أعادت النظر في المفهومات الكبرى التي قام عليها التقليد الفلسفي كمفهوم الزمان التاريخي، ومفهوم الذات الفاعلة، ومفهوم القيمة الأخلاقية. نلمس ذلك، في الندوات الفكرية والأدبية التي تقيمها المملكة، كما نقرؤه على صفحات المجلات الفلسفية والأدبية التي يمكن أن نعد بعضها من أكثر المجلات العربيـة أهمية، شكلًا ومضمونًا. ويكفي، في هذا السياق أن نذكر المراجعات التي قامت بها تلك المجلات لمفهوم القراءة، ومفهوم النص، ومفهوم اللغة، ومفهوم المعنى، ومفهوم المؤلف والذات الفاعلة؛ وهي مفهومات كانت، حتى وقت جدّ قريب، تجتر ما رسّخه النقد التقليدي، كما كانت سجينة التخصص الأدبي المنغلق على نفسه.

ها نحن نلمس إرهاصات ما دعوناه مناخًا فلسفيًا يأخذ مكانه شيئًا فشيئًا في المملكة. غير أننا نعتقد أن الاستفادة من “الدرس” الفلسفي المعاصر تعني كذلك انفتاح الدراسات الأدبية والتاريخية والنفسية واللغوية والاجتماعية والتربوية على الفلسفة، أي على الثورات الفكرية المعاصرة كما تمّت عند أصحاب التفكيكية والبنيوية والفلسفة التحليلية. الأمر الذي من شأنه أن يحقق غرضين اثنين: متابعة فعلية للحداثة الفلسفية، وفتح النوافذ لخلق مناخ فلسفي فعلي.


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “انفتاح المملكة على الفكر الفلسفي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *