من أشهر الصور التي احتلَّت الذاكرة صورة الاجتماع الكبير الذي جمع مسؤولي إحدى المؤسسات في قاعة ضخمة، وكان عنوان اجتماعهم: “مناقشة واقع المرأة”، ولم يكن بينهم في مدرجات القاعة أية امرأة. وهنا تنفجر الأسئلة المتنّوعة، مثل: هل تركت المرأة قضاياها، فتولاها أو استولى عليها الرجل؟ وهل الرجل هو الأعلم بها؟ وكيف تتفاوت رؤى الرجال والنساء حول واقع المرأة بحسب ثقافتهم؟ وكيف نعيد التساؤل المستمر عن اختلاف الرؤى بحسب اختلاف الجغرافيا داخل الوطن وخارجه؟ وما أثر الاقتصاد في نمو المواقف تجاه المرأة؟
لا تدّعي هذه المقالة استيفاء هذه الأسئلة وإجاباتها، فضلاً عن الإلمام بزوايا موضوع تمكين المرأة من أطرافه، ولكنها تحاول أن تربط بين حدثين مهمين وهما، تعليم المرأة وقيادتها للسيارة في بعض الزوايا. فقد توفرت لي فرصة التوثيق والدراسة العامة لمرحلة تعليم البنات، وصدرت في العام 2009 في كتابي (فتنة القول بتعليم البنات)، وقد لاحظت تشابهاً في مناحٍ ثلاثة مهمة.
المنحى الأول، هو إخراج القضية من سياقها التنموي المهم، ومن سيرورتها الحقوقية العامة، إلى مستوى الخصومة بين التيارات، المعارضة لتمكين المرأة أو الداعمة لها. وهذا ما ينقل القضية من سلمها التصاعدي الطبيعي، أي تأكيد حقوق المرأة، إلى مجال آخر، أي الاحتشاد والتحشيد في سبيل تأكيد هذا الموقف أو ذاك، ورفض المرجعية الأخرى، وهذا ما جعل من قضايا المرأة وتمكينها ميداناً للخصومة، وليس قضية تناقش وتدرس فيها الخيارات… وهو ما يفسر الصورة المشار إليها في مطلع المقالة. فبدلاً من الوصول إلى نتائج حقيقية يصير الهدف نزع فتيل السجال بين طرفين، بدلاً من دعم خيار التمكين انطلاقاً من بوابة الحقوق والإمكانات، وإتاحة الفرص وفق مبادئ النهضة المجتمعية، لنحمي مسيرة التمكين، ولنتيح للسيدات المجال الأوسع لينطلقن في التصاعد بعيداً عن التصنيف وخوف الواحدة منهن أن تجازف باسمها أو عائلتها.
وأما المنحى الثاني، وهو نتيجة ما سبق، فيتمثل في صناعة الفزع والتخوف وقلق المآلات، وربط ذلك بالمرجعية الدينية، من دون دراسات أو استطلاعات، حتى تتصاعد في هذا الخطاب سمات الرفض والتأويل لأي موقف مخالف، مع نسيان أن الحقوق الطبيعية لا تمنع أو تمنح بناءً على نتائج حدثت للآخرين أياً كانوا، وإنما هي استحقاقات يجب أن تتاح من حيث المبدأ…
وهذه الاستراتيجيات الممانعة سرعان ما تنهار بعد إقرار الموقف النهضوي المعاكس من قِبل السلطة، فتجد من يعلّل مواقفه السابقة أو يشرحها أو يتهرب منها أو يدّعي أنه لم يمانع أو يتبرأ منها، وربما وجدنا من يشرح نضاله في سبيل القضية، وكأن مواقفه السابقة لم تسجلها الذاكرة. فمن يصدق مثلاً، أن أحد موظفي جهاز رئاسة تعليم البنات عند بداياته كان أحد الممانعين ورافضي تعليم البنات، ولكنه وجد وظيفة فيها فنسي ممانعته، أو زالت الخرافة من رأسه.
وأما المنحى الثالث، فهو دوران التمكين وما يحفُّه من مواقف مع الاقتصاد وتذبذبه، ففي لحظات الوفرة نجد التحوّل يمتد إلى جميع المفردات، ومنها على سبيل المثال: ابتكار فكرة الباب الخاص بالنساء، والمجلس الخاص، وغير ذلك حسبما يتيحه الاقتصاد، وهذا يتشابه بنحوٍ ما مع مناقشة تمكين المرأة وارتباطه بالعائد الاقتصادي. ولكن تمكينها ينبثق من حقوقها التي يكفلها لها الشرع والوطن والإنسانية. ولئن تعيَّن علينا جميعاً أن نبادر إلى تنمية الاقتصاد والحرص عليه، فإن الواجب الأعلى هو الاستمرار في تنمية الوعي وترقيته بخصوص تمكين المرأة، وذلك لأننا في هذا العصر الحديث وما يمتلئ به من انفتاح كبير يخترق كل الخصوصيات، يصبح التمكين من الوسائل الكبرى للمحافظة على الوطن وأمنه وتنميته. وهو ما أعتقد أن الرؤية السياسية قد خططت له بدقة، فقادت المجتمع، وتجاوزت قلقه، ومهدت لنقلته الناجحة في تعليم المرأة، وها هي تحقق ذلك في المجالات الأخرى.
اترك تعليقاً