لا يمكن تحديد مفهوم المسرح الوطني ودوره وآليات عمله وطبيعة العاملين فيه، بمعزل عن فهم بقية المسارح التي تم الاصطلاح على تسميتها بالمسارح الرديفة، والتي تتمثل في مسارح القطاع الخاص من جهة ومسارح المؤسسات الحكومية المعنية بفن المسرح كمسارح المدارس والجامعات والجمعيات والجماعات الثقافية المختلفة من جهة أخرى. ذلك أن العلاقة بين المسرح الوطني والمسارح الأخرى لا تتوقف عند حدود التكامل، وإنما تمضي لما هو أبعد من ذلك حين يتحدَّد المسرح الوطني باعتباره جهة رسمية ترعاها الدولة رعاية كاملة وتنيط بها رسالة واضحة تهدف إلى رفع درجة الوعي والسمو بالذائقة وتناول قضايا وهموم المجتمع في قالب فني رفيع، إلى جانب تجسير المسافة بين المسرح المحلي وفنون المسرح في الثقافات المختلفة باستلهام الأعمال المسرحية العظيمة، أو إعادة تقديمها في إطار مشروع متكامل للتواصل الثقافي والحضاري مع الأمم والثقافات الأخرى، تأكيداً لما هو إنساني مشترك مع تلك الثقافات، وتكريساً لقيم التعاون والتفاهم مع بقية شعوب الأرض وحضاراتها.
ولا يمكن للمسرح الوطني أن ينهض بأداء رسالته ما لم تكن له استراتيجية واضحة ودقيقة تعبِّر عن فلسفته وتقف وراء برامجه وتحدِّد آفاقه المستقبلية. وليس ذلك لتسهيل عمله وتفعيل أدائه فحسب، وإنما لحمايته من تقلب الاتجاهات واضطراب المفاهيم بتقلب آراء وتصورات الإدارات المختلفة التي تتولى الإشراف عليه.
فالمسرح الوطني يختلف عن المسارح الأخرى التي تكون موضعاً للتجريب حيناً والكشف عن المواهب حيناً آخر، ولا تجد ضيراً أن تكون للإضحاك وتقديم ضروب من المسرحيات والعروض التي لا تخرج عن كونها ضرباً من فن “الفارْس”، إذا جاز أن نطلق على مسرحيات “الفارْس” فناً، كما لا يمكن أن يكون المسرح الوطني مجرد خشبة يتم تقديم الفنون الشعبية عليها كما حدث في العرض الذي قدَّمه المسرح الوطني لدينا في حفل تدشينه، ذلك العرض الذي إن تقبلناه باعتباره تعبيراً عن الفرح بتأسيس المسرح الوطني فليس لنا أن نتجاهل أنه كان عرضاً يتنافى مع رسالة المسرح الوطني ومفهومه، التي تقتضي أن يكون حفل الافتتاح عملاً مسرحياً عظيماً يبقى في الذاكرة ويقدِّم النموذج الأمثل لما ينبغي أن يكون عليه المسرح.
والمسرح الوطني، لذلك كله، لا ينبغي أن يكون مسرحاً لا يتولى العمل فيه سوى الخبراء الذين أسستهم المعرفة وصقلتهم التجربة، سواء في الإدارة أو التمثيل أو كتابة النصوص أو الإخراج وبقية ما يحتاجه العمل المسرحي من أدوات وآليات لا يتحقق له الأداء الأمثل بغير توفّرها، المسرح الوطني لا يمكن له أن ينهض بحماس المجتهدين في الإدارة والمتحمسين في الإخراج والهواة في التمثيل، ولا يتحقق له النجاح بالنوايا الحسنة وحدها كذلك.
وإذا كنا حديثي عهد بإنشاء المسرح الوطني لدينا فإن لدينا من الخبرات المسرحية والتجارب التي حقَّقت حضوراً على المستويين المحلي والعربي ما يمكن أن يشكِّل ثروة للمسرح الوطني لا غنى له عن توظيفها فيما يعينه على أداء رسالته والنهوض بدوره.
وإذا كنا حديثي عهد بإنشاء المسرح الوطني فإن القائمين عليه ليسوا بحاجة إلى إعادة اختراع العجلة، وحسبهم الوقوف على تجارب المسارح الوطنية والقومية التي سبقتنا بعقود كثيرة في هذا المجال فاستقرت لهذا المسرح مفاهيمه وأهدافه وأليات عمله التي غدت تمثل محددات عالمية للمسرح الوطني تميزه عن غيره من بقية المسارح الرديفة.
مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل | 2020
المسرح الوطني.. المفهوم والرسالة
سعيد السريحي
مقالات ذات صلة
يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.
صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]
من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]
اترك تعليقاً