يُورِد ابن عبدربه في كتابه (العِقد) خبراً طريفاً لا يخلو من إشارات دالة، فقد روى أن الأصمعي ذكر رجلاً بالتصحيف، فقال: “كان يسمع، فيعِي غير ما يسمع، ويكتب غير ما وعى، ويقرأ في الكتاب غير ما هو فيه”. ومع أن حديث الأصمعي هنا جاء في سياق التعجُّب والتهكُّم؛ فإنّ التأمُّل المجرَّد فيه يجعلنا لا نملك في النهاية إلا أن نقول: إنه بمعنى من المعاني فإننا كلَّنا تقريباً نُشابه ذلك الرجل الذي انتقد الأصمعي عليه إسرافه في تصحيف الألفاظ، وكثرة أوهامه عند تلقي الدلالات وتقييد المعاني.
ومن مِنّا يستطيع أن يزعم أنه وعى حقاً كلَّ ما سمع، وكتب بالضبط ما يجول في وعيه من دلالات دون زيادة أو نُقصان، وأن (قراءته) للكتاب مطابقة تماماً لما دُوِّن فيه؟.. نحن نعلم ابتداءً أن الأصوات المسموعة التي نُصدِرها، والحروف المكتوبة التي نُدوّنها هي مجرد (ترجمة) صوتية أو بصرية للمعنى الذي نظنُّ أنه طاف بأذهاننا، أو نقدِّر أننا هجسنا به، أو بشيء مقارب له، هكذا يبدو المعنى محاصَراً بالتضييق والغياب من جهتيه: من جهة إنشائه الذي هو أقرب إلى الترجمة الغائمة منه إلى النقل المستوعب الدقيق، ومن جهة تلقِّيه الذي يخضع لقيود الفهم وآليات التأويل، ويتعرّض لعوامل التحوير والتحريف والإخلال والتزيُّد.
قال ميشيل فوكو مرة: “أن نفكر: مثل أن نرمي قطعة نرد”. وكذلك هو حالنا أيضاً مع القول، والواقع أن المفاجآت الفكرية المدهشة التي يقودنا إليها تأمُّل الأفكار التي تجول في أذهاننا، ومراقبة هذا الاندياح العظيم لتداعياتها وقرائنها وإلزاماتها واستدراكاتها داخل الوعي الفردي، كلّ هذا ليس أكثر إدهاشاً وغرابةً من الاندياح المماثل الذي يبدأ فور أن نتكلم، أي في نفس اللحظة التي تلفظ فيها قولك أمام المتلقين، وتُلقي بكلماتك وسط الخِضمّ المحيط بك، وأنت غير متأكد من حجم الدوائر التي ستصنعها، وطبيعة الأفهام التي ستؤوّلها، والقراءات المتنوعة التي ستحاورها أو تُنازعها، والنتيجة الأخيرة التي ستحصل عليها من كل ذلك.
هذه الطبيعة (النرديّة) غير المحسومة للأبعاد الدلالية التي تمتدُّ إليها أجنحة الكلمات هي ما يجعلنا نرى أن من العنت الكبير التقييد الاختزالي المتزمت للدلالات اللغوية المفترضَة للكلمات والتعبيرات الأسلوبية، وهاهنا بعض الأمثلة.
كثيراً ما يعطي التداول الظرفي المكرر لبعض الكلمات دلالات غير معجمية، وخذْ مثلاً: مادة (سفر) التي تعني في اللغة: الظهور والانكشاف، ولكنك حين تسمع في البيانات الصحفية قولهم: (هذا الاعتداء السافر) -مع التشديد الصوتي على حرفي: السين، والفاء- تُدرك أن المعنى يتجاوز وصف الاعتداء بالظهور، إلى معانٍ أخرى مستجِدَّة كالإدانة والتشنيع وإظهار الغضب.
ماذا يعني هذا ؟.. إنه يعني أن الاستعمال اللغوي للكلمات والأساليب أرحب وأعمق وأكثر تنوعاً من أن تقسره قسراً على معانٍ استعمالية محصورة وقوالب تركيبية محددة كُتبتْ في المعاجم اللغوية قبل مئات السنين، وأن الانزياح الدلالي من أهمّ سِمات اللغات الحية.
من هنا فإن بعض المصححين بحاجة إلى أن يصحِّحوا فهمهم للّغة وأن يوسّعوا رؤيتهم لاستعمالاتها الرحبة. ولا أعني هنا: التهاون مع الأخطاء النحوية في بناء الجملة، وإنما أعني: هذا التدقيق (غير الدقيق) حول دلالات محددة سلفاً للألفاظ، وكذلك الإصرار على حصر أساليب التعبير في قوالب لغوية محفوظة.
ومما يتصل بموضوع التطور الدلالي للألفاظ، وتأثره باختلاف طبيعة التلقي وتغيُّر توجُّهات المتلقّين: ما صنعه التلقي المعاصر لأبيات ابن الرومي الشهيرة:
ولي وطن آليتُ أنْ لا أبيعه
وأنْ لا أرى غيري له الدهرَ مالكا
فقد كان ابن الرومي يعني بالوطن: داره التي أجبره التاجر ابن أبي كامل على بيعها، فأنشأ هذه القصيدة يشكوه فيها إلى سليمان بن عبدالله بن طاهر. ثم حين تغيّر مفهوم الوطن في الحساسية المعاصرة، وصار له مكانة اعتبارية مرتبطة بشعور عام ومشترك بين مجموعة كبيرة من الناس أصبحنا نؤوّل أبيات ابن الرومي لتتواءم مع منظورنا المعاصر لهذا اللفظ.
ونستطيع أن نقيس على هذا التطور الدلالي قول المتنبي:
كأنّ كلَّ سؤالٍ في مسامعِهِ
قميصُ يوسفَ في أجفان يعقوبِ
أراد أبو الطيب بالسؤال: طلب العطاء؛ ولكنّ اللغة قادرة على تحرير الدلالة من هذا التخصيص، وهكذا صار بإمكاننا أن نتلقى هذا البيت ونستشهد به بوصفه: إشادة بالسؤال المعرفي وبالرغبة الدؤوبة في الاستزادة من الحوار العلمي الثريّ.
ومن شواهد التطوُّر الدلالي أيضاً: كلمة (رائع) التي نستعملها الآن لوصف الأشياء البديعة والمحببة، بينما أصل معناها في اللغة مأخوذ من مادة (ر و ع)، وهو ما يروع النفس ويُقلقها، وكأنما حدث انزياح دلالي للكلمة –بصيغتها هذه- من الدلالة على الشيء المفزِع، إلى الدلالة على الشيء الجميل؛ لأن الجمال إذا طغى، فكأنه يروع النفس ويُقلقها تعلُّقاً به، وعلى المعنى الأصلي للكلمة جاء قول جميل بُثينة متغزِّلاً:
إني لأحفظ غيبكم ويسرُّني
إذْ تُذكرين بصالحٍ.. أن تُذكري
لا تحسبي أني هجرتكِ طائعاً
حدَثٌ لعمرُكِ رائعٌ أن تُهجَري !
فكلمة: (رائع) في بيت جميل لا تعني أن هجرانه لمحبوبته أمر محبَّب له، بل العكس تماماً، فقد أراد جميل أن يقول: إنّ فراقه لها كان على كُرهٍ منه، وأنه حدثٌ جَلَل يروع النفس ويُقلقها؛ ولكنّ هذا الاستعمال الدلالي القديم لكلمة (رائع) لم يعد مألوفاً في التعبير المعاصر.
وعلى نحو مقارب نشهد الآن التطوُّر الدلالي الذي مسَّ كلمة (رهيب)، فصارت تدلُّ على التفضيل والاستحسان، لا على الخوف والفزع؛ كما هو مؤدَّى دلالتها الأصلية. وكذلك التطوُّر الدلالي الذي لحِق كلمة (مسؤول)، فغدتْ تدلُّ على الوجاهة والتصدُّر، وتراجعتْ الدلالة الأصلية لها، والتي تعني: خضوع صاحبها للمحاسبة والمساءلة.
وفي كلِّ ما تقدّم شواهد واضحة على الضمور الذي يصيب بعض الدلالات الأصلية للكلمات والصِّيَغ؛ لصالح الدلالات الاستعمالية المستجِدّة لها، وبعض هذه التحوّلات الدلالية عجيبة المسلك؛ وكأنما هي رمية نرد.
مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل | 2020
اللغة والتطور النرديّ للدلالات
د. سامي العجلان
مقالات ذات صلة
يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.
صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]
من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]
اترك تعليقاً