مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2023

الرياضة في عصر الهولوغرام والميتافيرس


محمد سناجلة

يشهد العالم اليوم تحولاً كبيرًا في مجال التكنولوجيا نتيجة تطورات الذكاء الاصطناعي والتطـور النوعي في شبكة الإنترنت. فالإنترنت التي غيرت مجرى حياتنا في العقود الثلاثة الماضية، بدأت تُخلي الساحة لجيلٍ جديدٍ، تمامًا كما أخلت آلة الطباعة الساحة لشاشة الكمبيوتر. وكما يقول الرئيس التنفيذي لمنصة ميتا، مارك زوكربرغ، لم تكن الإنترنت سوى تقنيةٍ خارجيّةٍ ننظر إليها على شاشات هواتفنا وأجهزتنا الأخرى، أما الإنترنت القادمة فـ”نحن جزءٌ منها وهي جزءٌ منا، أو يمكن أن نكون بداخلها”. وعالَم الرياضة هو في صلب هذا التحول، إنه يتهيأ لانعطافة كبيرة بدخول “الهولوغرام” و”الميتافيرس” إلى معظم نشاطاته، بما فيها الرياضات الإلكترونية، التي كانت محور الحديث في مؤتمر الرياضة العالمية الجديدة الذي استضافته مؤخرًا مدينة الرياض.

نعيش اليوم مرحلة شبيهة ببداية الثورة الرقمية التي غيرت حياتنا منذ منتصف التسعينيات. فشبكة الإنترنت ظهرت قبل ذلك بعقود، لكنها لم تتمكن من إحداث التغيير الجذري بمفردها إلا بعد أن تراكمت مجموعة من الاكتشافات والتقنيات الجديدة عند نقطة التحول تلك.

كذلك “الهولوغرام” و “الميتافيرس” اللذان سيطبعان المرحلة القادمة، بما فيها عالم الرياضة، ظهرا قبل عقود لكن لم تتوفر لهما البيئة التكنولوجية المناسبة لإحداث الطفرة التي بدأنا نشهد بداياتها المتفرقة اليوم.

البيئة الافتراضية

مارك زوكربرغ.

تتكون كلمة ميتافيرس من “ميتا” وتعني “ما بعد”، و”فيرس” أي العالم، ليصبح معناها ما بعد العالم الواقعي، أي العوالم الافتراضية، وقد يشير إلى الإنترنت بشكلٍ عام. واستُخدم المصطلح أول مرة في فيلم الخيال العلمي “انهيار الثلوج” (1992م)، وكان أبطاله شخصيات خيالية “أفاتار”. ومن المثير للاهتمام أن يكون من أول من شخَّص وصوَّر الميتافيرس، دون تسميته بهذا المصطلح، هو الشاعر الفرنسي السوريالي أنطونين أرتو. لكنه استَخدم وصاغ أول مرَّة تعبير “العالم الافتراضي” في مجموعة من المقالات نشرها لاحقًا في كتاب عنوانه “المسرح وقرينه”، (1938م)، وفيه يرسم رؤية لكيفية تنسيق الشخصيات والأشياء والصور لإنشاء عوالم افتراضية غنية ومنغمسة.

ويعرِّف الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا”، مارك زوكربرغ، الميتافيرس بأنه “بيئة افتراضية انغماسية، يشعر فيها المرء بأنه حاضرٌ جسديًا في بيئة غير مادية، حيث يمكنك الوجود بالفعل مع الناس في البيئة الرقمية والمجتمع الرقمي. يمكننا التفكير فيه على أنه إنترنت متجسد، توجد فيه فعليًا بدلًا من مجرد النظر إليه كما يحدث الآن”. ويعتبر زوكربرغ أن الميتافيرس هو الجيل القادم من الإنترنت، ويقول عنه: “بدلًا من أن تكون شبكة الإنترنت شاشة خارجية ننظر إليها على هواتفنا المحمولة أو شاشات الحاسوب، ستصبح جزءًا منا ونحن جزءًا منها… إنترنت المستقبل هو شيء يمكننا أن نكون في داخله”.

لم يعد مارك زوكربرغ وشركته ميتا وحدهما في السباق نحو عالم الميتافيرس، بل هناك شركات تكنولوجيا أخرى بدأت أبحاثها بهدف التحول نحو عالم الميتافيرس، لأنها تنظر إليه باعتباره جسرًا تقنيًا للربط بين الهواتف والأجهزة الذكية مع العوالم الافتراضية، حيث يوجد مليارات البشر للعمل واللعب والتواصل في المجتمع الرقمي.

ويصف المؤسس المشارك لشركة “سكابك” الهندية للواقع المعزز، ساي كريشنا، الميتافيرس بأنه “التطور الثوري للإنترنت، حيث المساحات ثلاثية الأبعاد، والبيئات الافتراضية الانغماسية، والاتصالات المتطورة، فضلًا عن نقلة نوعية في التجارة والترفيه”. إن الميتافيرس في نظره ومنظور الكثيرين غيره، هو الخطوة المنطقية التالية لما بعد مرحلة الهواتف الذكية، وشبكة الإنترنت التقليدية التي نعرفها الآن.

ثنائية الميتافيرس والهولوغرام

والميتافيرس كما يتضح مما سبق هو بيئة افتراضية منغمسة، حيث يمكنك الوجود بالفعل مع الناس في البيئة الرقمية والمجتمع الرقمي. ولكننا نحتاج لأداة ثالثة للوجود فيه، مثل نظارات خاصة للواقع الافتراضي الجديد كنظارات “أوكلوس في آر” (Oculus VR). كما نحتاج إلى تنزيل تطبيقات خاصة مثل تطبيق “غرف عمل هورايزن” (Horizon workrooms)، التي تستخدمها شركة ميتا كي ننغمس في عوالم الميتافيرس. ورغم أن الميتافيرس شُخص في أواخر الثلاثينيات، فقد احتاج إلى التطورات التي طرأت في الذكاء الاصطناعي، والواقع المعزز والمختلط، وإنترنت الأشياء، والبلوك تشين وما إلى ذلك، حتى أصبح محور التغيير اليوم. 

أما الهولوغرام فاكتُشف أول مرَّة في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، ولكن لم يجري تطويره بالشكل الذي نعرفه اليوم إلا بعد اكتشاف الليزر في الستينيات.

وبدوره احتاج الليزر إلى مدة طويلة من الأبحاث والاكتشافات ليصبح بمقدور المستهلكين تحمل تكلفته العالية. واحتاج الهولوغرام كذلك إلى التكنولوجيا الرقمية والجيل الخامس من الإنترنت ووسائل الاتصال ليصبح استخدامه في الرياضة وغيرها متاحًا على نطاقٍ واسع.

الهولوغرام في الرياضة والتدريب

والهولوغرام هو صورةٌ مجسمةٌ ثلاثية الأبعاد تُنشأ بواسطة الضوء والصوت، بحيث تبدو الكائنات المصورة وكأنها كائنات حقيقية. يتكون الهولوغرام من حزمة من الموجات الضوئية التي تصطدم بالجسم المراد تصويره، فتقوم بتخطيطه ورسم أبعاده ونقل صورة مجسمة طبق الأصل عنه من خلال إطلاق أشعة مضيئة؛ ليظهر الجسم المنقول واضح المعالم دون القدرة على لمسه. ويمكن أن تستجيب الصور المجسمة لنظرتك وإيماءاتك وأوامرك الصوتية، كما يمكنها أيضًا التفاعل مع أسطح العالم الحقيقي من حولك.

وقد بدأت التطبيقات الأولى لتقنية الهولوغرام في تغيير شكل الألعاب الرياضة على أكثر من صعيد، مثل التدريب والمشاهدة التفاعلية وطرق اللعب التي بدأت بالفعل تُغيّر وجه الرياضة. فإذا كنت تحلم بالحصول على دروس متخصصة في رياضة التنس، من أحد أعظم لاعبي التنس في العالم الذي يبعد عنك آلاف الأميال، فبإمكانك اليوم تحقيق حلمك فعلًا بواسطة هذه التقنية.

ففي أبريل 2023م، تدرب لاعبا تنس شابان من الإنجليز، وهما سام كلاج ودايموند بيزلي، مع النجمة العالمية البريطانية إيما رادوكانو باستخدام تقنية الهولوغرام. حضر اللاعبان الشابان في مركز التنس المجتمعي التابع لنادي “عموم إنجلترا” في لندن، بينما كانت المدربة في مدينة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة. خلال الدرس، ظهرت صورة مجسمة لرادوكانو وهي تغذي الكرات للاعبين، كما لو كانت معهم فعليًا في نفس الملعب. كما كانت تقدم تعليقات حية على تسديداتهم، وتصوب أخطاءهم، وتوجههم نحو التعامل السليم مع الكرة من مثل: “كان ذلك سريعًا جدًا، عليك أن تبطئ قليلًا من سرعتك”، أو “هناك الكثير من الدوران العلوي للكرة أثناء الإرسال وعليك أن تقلل من هذا الدوران عند إرسال الكرة” وهكذا.

لقد كانت واقعية التدريب عالية جدًّا، حتى إن سام اعتقد أن المدربة معه في نفس الملعب وتتحدث إليه بشكل مباشر. بدورها قالت رادوكانو: “إن الجيل القادم من لاعبي التنس في العالم يبدأ الآن”. وأضافت: “إن تدريب سام ودايموند، في أول درس ثلاثي الأبعاد على الإطلاق في العالم باستخدام تقنية الهولوغرام، ليس سوى البداية لتغيير عالم التدريب الرياضي، ونأمل أن يتم تدريب بطل

ثورة في عالم التشجيع

كريستوفر لي.

يقول المهندس المعماري في شركة “بابيولوس” (Populous)، كريستوفر لي: “كان للتكنولوجيا تأثير كبير على كيفية تصور الملاعب الرياضية وبنائها منذ عشرين عامًا. ففي الماضي، كنا نضع الشاشات في الملاعب، ولكن اليوم أصبح لدينا أجهزة كمبيوتر قوية في جيوبنا. وهذا يفتح آفاقًا جديدة لدمجها مع الواقعين المعزز والافتراضي لإنشاء تجربة مشاهدة أكثر تفاعلية، بدءًا من رؤية زوايا الكاميرا المختلفة في مقعدك، وتتبع معدل ضربات القلب والسرعة وحركة اللاعبين الذين يرتدون ملابس ذكية على أرض الملعب”. ويعتقد كريستوفر لي أن الهولوغرام سيخلق الحدود الكبيرة التالية في المستقبل غير البعيد، مضيفًا: “يمكنك أن تتخيل مشجعي ريال مدريد في ساو باولو بالبرازيل وهم يشاهدون المباراة في ملعبهم في نفس الوقت الذي يشاهدها فيه المشجعون في إسبانيا… الأمر كله يتعلق بالاجتماع معًا من أجل تجربة جماعية غنية”.

ومن الطرق المثيرة التي يمكن من خلالها استخدام تقنية الهولوغرام ثلاثية الأبعاد في الألعاب الرياضية، هي عرض نسخ افتراضية للاعبين وهم في الملعب. هذا يمنح المشجعين رؤيةً شخصيةً قريبةً للرياضيين المفضلين لديهم، ويسمح لهم برؤية حركاتهم ومهاراتهم بطريقة مستحيلة من زاوية الكاميرات القياسية العادية. ويمكن أن يوفر للمدربين واللاعبين رؤى قيمة حول أدائهم؛ مما يساعدهم على تحسين مستواهم وتطوير إمكاناتهم.

يمكن أيضًا استخدام شاشات العرض ثلاثية الأبعاد لإنشاء عروض مرئية مذهلة بين أشواط المباراة، مما ينقل المشجعين إلى مستوى جديد مثير ومختلف تمامًا عما اعتادوه في السابق.

ولعل الأمر الأكثر إثارة، في عروض الهولوغرام ثلاثية الأبعاد في عالم الرياضة، هو أن هذه التكنولوجيا لا تزال في مراحلها الأولى، وهناك احتمالات لا حصر لها للابتكارات المستقبلية. ومع استمرار تطور هذه التكنولوجيا، يمكننا أن نتوقع رؤية تجارب غامرة وأكثر إثارة للجماهير، إضافة إلى توقع طرقٍ جديدةٍ للمدربين واللاعبين لتحليل مستواهم وتحسين أدائهم وتطويره.

 مستقبل الرياضة بالميتافيرس

إن الثورة القادمة للعوالم الافتراضية، التي توفرها تقنية الميتافيرس، ستغير الطريقة التي يمارس بها الناس الرياضة، وترفع مستوى مشاركة المشجعين وتفاعلهم إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. سيصنع الميتافيرس تجربة رياضية مختلفة ومتميزة لم توجد من قبل، وتختلف بشكل جذري عن تجربة مشاهدي التلفزيون عن بُعد اليوم حين يظلون عالقين بقوة على أرائكهم. سيكون وجود منغمس تمامًا يسمح للجماهير بالمشاركة بشكل كامل، والتفاعل مع لاعبيهم المفضلين بطرق لم تكن ممكنة في الماضي. كما سيكون لهذه التكنولوجيا المتقدمة تأثير أساس في طرق التدريب الرياضي وأساليبه، ويمنح الأندية الرياضية طرقًا جديدة وغير مسبوقة لتحقيق الدخل والأموال من ممتلكاتها الرقمية.

الهولوغرام والميتافيرس ينقلان الجماهير إلى الملعب بصورة ثلاثية الأبعاد.

كما سيضمن الميتافيرس ذوبان الحواجز الجغرافية في الخلفية، مما يسمح للجماهير من جميع أنحاء العالم بالالتقاء معًا للاستمتاع بالحدث قبل المباراة وفي أثنائها وبعدها. وعلى سبيل المثال، يمكن للمشجعين مقابلة لاعبي كرة القدم المفضلين لديهم، أو مدرب الفريق، والتقاط الصور الشخصية معهم، أو الحضور في مقهى افتراضي حيث يمكنهم مناقشة اللعبة مع المشجعين الآخرين.

أما خلال المباريات الفعلية، فسيتمكن المشجعون من الاستمتاع بمنظر بانورامي مذهل للحدث، مع فرصة التكبير للحصول على زاوية رؤية أكثر ملاءمة. وستكون تجربة ممتعة مع تفاصيل أكبر بكثير مما هو ممكن من خلال التلفزيون التقليدي أو حتى الحضور الشخصي. وسيُعزَّز ذلك من خلال كاميرات متعددة الرؤية تتيح إمكانية الدخول إلى الملعب الافتراضي بحيث يشعر المشاهد كما لو كان في قلب الحدث. كما يمكنهم الانضمام إلى المشجعين داخل الملعب أو خارجه، أو الجلوس مع المدرب في دكة اللاعبين البدلاء، أو ببساطة المشاهدة من بُعد مع مجموعة من الأصدقاء.

بداية فعلية

قد يبدو الأمر وكأنه سيناريو خيالي بعيد ومستقبلي، لكن الملاعب الافتراضية أصبحت موجودة بالفعل. فمنذ وقت قصير، أطلقت منظمة الرياضات الإلكترونية الاحترافية “صنع في البرازيل” أول ملعب للرياضات الإلكترونية في منطقة بالميتافيرس يطلق عليها اسم “إم آي بي آر أرينا” (MIBR Arena)، وهي توفر تجربة حصرية لمحبي الرياضات الإلكترونية. وبُني الملعب بالشراكة مع شركة البنية التحتية “ميتافيرس إفري ريالم” (Metaverse Everyrealim)، وهو مصمم لخلق فرص للجماهير واللاعبين للتفاعل والتحدث بعضهم مع بعض. وقد صُممت هذه الساحة على غرار ساحة ملاعب الرياضات البدنية. وهي تقع داخل مدينة ميتافيرس مستوحاة من مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، حيث يقع مقرها. ويمكن للزوار تجربة جميع المعالم السياحية الشهيرة في المدينة، ومنها متنزه كوباكابانا وتمثال يسوع المسيح في قمة جبل كوركوفادو. كما يوجد داخل الملعب منطقة لكبار الشخصيات، حيث يمكن للناس أن يجتمعوا معًا للتحدث وتبادل الآراء والتفاعل فيما بينهم دون حواجز.

“إم آي بي آر أرينا”، ملعب للرياضات الإلكترونية في تقنية الميتافيرس.

قمة جبل الجليد

ما زلنا في الأيام الأولى للتحول، وكل ما رأيناه حتى الآن هو في الحقيقة مجرد قمة جبل الجليد. أما فيما يتعلق بما يمكن أن يعنيه هذا التحول في الرياضة، فلا تزال تقنيتا الهولوغرام والميتافيرس في بداياتهما الأولى، ولا تزال الكثير من الشركات في مختلف أنحاء العالم تصنع نسخها الخاصة منهما.

مع هذه التطورات الخيالية التي بدأنا نعيشها، والتي يندمج فيها الإنسان بالتكنولوجيا، ألا يصبح حينئذٍ السؤال القلق عن دور الإنسان الذي ينتمي إلى مرحلة انقضت، مقابل الذكاء الاصطناعي، خارج السياق؟


مقالات ذات صلة

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.

اكتشاف الإلكترونات في القرن العشرين أحدث ثورة في فهمنا، مما أدى إلى تطوير تقنيات مسرِّعات الجسيمات وكشف أسرار مذهلة عن عالم الذرة والمادة.


0 تعليقات على “الرياضة في عصر الهولوغرام والميتافيرس”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *