الخرسانة واحدة من أكثر المواد استخداماً بعد المياه، وتؤدِّي دوراً أساسياً لا غنى عنه في الحضارة الحديثة. فقد استُخدمت على نطاق واسع في تشييد المباني والسدود والموانئ البحرية، والطرق والجسور والأنفاق، وغيرها من الهياكل الأساسية. غير أن عوامل طبيعية عديدة تؤدي إلى ظهور تشققات في الخرسانة، تتيح للغبار والماء والهواء الانسلال إلى داخلها، فيبدأ حديد التسليح، الذي يعزِّز كل هيكل خرساني تقريباً، بالتآكل نتيجة الرطوبة والصدأ. ويؤدِّي ذلك، بعد فترة، إلى تداعي وتمزق الهيكل القوي، وفي النهاية ينهار.
وبدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين، تفاوتت محاولات معالجة هذه التشققات، بين تطوير مواد كيميائية لاصقة ومواد ذكية على اختلافها من دون أن تسجِّل نجاحاً ملحوظاً.
لكنَّ تطوراً علمياً جديداً، يستخدم الكائنات الحية الدقيقة من ضمن مكونات الخرسانة، يجعلها ترمم ذاتها، ويوفِّر الطاقة، ويمتص ثاني أكسيد الكربون من الجو، يبدو أنه واعد جداً.
تتكوَّن الخرسانة أساساً من مزيج من الماء، والرمل، والحصى، والإسمنت. وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، أُضيف الحديد إلى هذا المزيج ليصبح اسمه الخرسانة المسلحة. والإسمنت هو الجزء الأهم في المواد الخرسانية؛ لأنه يربط هذه المكونات بعضها بالبعض الآخر ويجعلها متماسكة، ويملأ الفراغات بين الجزيئات الخشنة والدقيقة.
يعود تاريخ الخرسانة في جذوره إلى ما لا يقل عن 6500 سنة قبل الميلاد عندما استخدم سكان وادي السند نوعاً من الخرسانة الطينية لبناء الهياكل التي بقي بعض آثارها حتى يومنا هذا. كما استخدم الآشوريون والبابليون، منذ حوالي 2000 قبل الميلاد، الطين، الذي يشبه الإسمنت كمادة للتماسك.
أحدث استخدام الخرسانة الطينية كمادة بناء تحولاً في مفاهيم الهندسة المعمارية في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية القديمة، فمكّن من تشييد هياكل وتصاميم جديدة، لم يكن بناؤها ممكناً باستخدام الحجر وحده، كما كان سائداً قبل ذلك. وفجأة، توسَّع الطموح الجمالي، وتطوَّر الأفق الفني كما تمثل، بشكل رئيس في الكتاب الشهير للمعماري الروماني الشهير ماركوس فيتروفيوس “دي أركيتكتورا” في القرن الأول قبل الميلاد. وبدأت تظهر معالم عمرانية كبرى مثل الحمامات والكولوسيوم والبانثيون التي تزينها الأقواس وغيرها.
الخطوة المهمة التالية في تطور الخرسانة ظهرت عندما قام المهندس البريطاني جون سميتون في عام 1756م، بصنع أول إسمنت حديث، الإسمنت الهيدروليكي الذي نعرفه اليوم، والذي يتصلَّب عند مزجه بالماء. وفي عام 1853م استخدم الصناعي الفرنسي فرانسوا كوانيي أول خرسانة مسلَّحة بإضافة قضبان من الحديد إلى مكوِّناتها، وأصبح هذا المزيج سائداً ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر واستمر حتى يومنا هذا.
قضية تشقّقها
رغم كل مزاياها وفوائدها، فإن الخرسانة الحديثة المستندة إلى الجير، هي ذات عمر افتراضي قصير نسبياً، بسبب تشكّل التشققات التي تقصر عمر الأبنية. وقد جرت محاولات وأبحاث عديدة، منذ فترة طويلة، لحل هذه المشكلة من دون نجاح حاسم. فقد طُوِّر عديد من المواد، تفاوت بين مواد لزجة لاصقة متعدِّدة، إلى مواد ذكية تُدمج في الخرسانة لتقوم بوظيفة معيَّنة عند التشقق. لكنها جميعاً، وعلى الرغم من بعض النجاحات المؤقتة، لم تشكِّل حلاً مستداماً لمعالجة هذه الشقوق على المدى الطويل.
كبسولات لاصقة
ظهرت أولى المحاولات لتطوير معالجة ذاتية لقضية التشقق عام 1994م. واعتمدت على فكرة تغليف لاصق معيَّن، داخل كبسولة صغيرة، أو في ألياف قصيرة أو في أنابيب أطول، ووضعها مع مكوّنات الخرسانة. وعندما تتشقق الخرسانة، تنكسر الكبسولات الصغيرة، فينطلق اللاصق ويسد الشقوق. ومع أن الآليات الأكثر فاعلية وضعها لاحقاً باحثون من جامعة كارديف في المملكة المتحدة وجامعة كامبريدج وجامعة باث والمعهد الكوري للبناء، لكنها لم تشهد نجاحات ملموسة.
اللدائن متذكرة الشكل
ومن الأمثلة على المواد الذكية الجديدة، التي يحاول الباحثون استخدامها، بوليمرات ذكية قادرة على تذكر شكلها السابق. فعند حصول تشوّه أو تغيير معيَّن، تستطيع هذه البوليمرات العودة إلى شكلها السابق. وتعمل هذه الآلية على مبدأين، الأول مبدأ الاستعانة بعناصر “ذاتية”، والثاني الاستعانة بعناصر “غيرية”. والهدف الخاص لاستخدامها في الخرسانة التي تصلح ذاتها هي زيادة عنصر الاستعانة الذاتية لسد الشقوق.
فهذه البوليمرات هي شبه بلورية، ذات شكل محدَّد مسبقاً يُحفظ في بنيتها، ويساعدها لاحقاً على العودة إلى حالتها الأصلية. وعند حدوث تشقق، يتغير شكل اللدائن، عند ذلك يُشغل النظام بواسطة التدفئة على شكل حرارة مباشرة، أو تيار كهربائي. وبمجرد تنشيطه، يعود الشكل الحالي إلى شكله الأصلي، وبسبب طبيعة الوتر المكبوتة داخل البوليمر، تنشأ قوة شدّ، مما يجعل الشق يغلق على نفسه. لكن نقطة ضعف هذا النظام، كما لاحظنا، هي حاجته إلى تدخل خارجي لحاجته إلى الحرارة عند التشقق.
الخرسانة الحيوية
ثبت أن معظم طرق معالجة تشققات الخرسانة الموصوفة أعلاه، وخاصة استخدام المواد الكيميائية والبوليمرات، هي مصادر لمخاطر صحية وبيئية. والأهم من ذلك، أنها فعالة فقط في المدى القصير. وبالتالي، ارتفع الطلب على طرق علاجية بديلة، وصديقة للبيئة، ومستدامة.
ظهرت فكرة الخرسانة الحيوية لأول مرَّة عام 2006م، عندما سأل أحد خبراء التقنية عالم الأحياء المجهرية هانك جونكرز، من جامعة دلفت في هولندا، عما إذا كان من الممكن استخدام البكتيريا في صناعة خرسانة تصلح ذاتها من الشقوق.
قضى البروفيسور جونكرز، بعد هذه الملاحظة التي لفتت نظره، عدة سنوات في البحث عن هذه البكتيريا المختلفة حتى وجد واحدة يمكنها البقاء على قيد الحياة في بيئة الخرسانة. فالخرسانة مادة جافة جداً تشبه الأحجار، لذلك كانت هناك حاجة إلى نوع معيَّن من السلالة البكتيرية.
وفي بداية عام 2016م، استخدم جونكرز بكتيريا “العصوية” (Bacillus)، الحميدة وغير المؤذية للبشر، وهي سلالة تزدهر في الظروف القلوية، تتفاعل بشدة مع العناصر الحمضية، مثل تلك الموجودة في الخرسانة. كما أنها تنتج الأَبواغ (مفرد بَوغ) (spores)، وهي خلايا تتكاثر بمفردها، وتمكّن البكتيريـا من التعامل مع الظروف المحيطة.
كما أن هذه البكتيريا “الشافية”، يجب أن تنتظر لعدة سنوات وهي كامنة قبل أن يتم تنشيطها بالماء. وقد اختار جونكرز البكتيريا العصوية لهذا الهدف بالذات، لأنها تزدهر في الظروف القلوية وتنتج جراثيم يمكنها البقاء لعقود من دون طعام أو أكسجين.
ويقول جونكرز: “لم يكن التحدي التالي فقط أن تكون البكتيريا نشطة في الخرسانة، ولكن أيضاً جعلها تنتج مواد إصلاح للخرسانة”.
ظهرت فكرة الخرسانة الحيويَّة لأول مرَّة عام 2006م، عندما سأل أحد خبراء التقنية عالِم الأحياء المجهرية هانك جونكرز، من جامعة دلفت في هولندا، عما إذا كان من الممكن استخدام البكتيريا في صناعة خرسانة تُصلح ذاتها من الشقوق.
فعلى الرغم من أن هذه البكتيريا كانت بمثابة تقدُّم كبير لجونكرز وفريقه، إلا أنهم بقوا بحاجة إلى تزويدها بمصدر للغذاء لتنتج المادة المطلوبة، وذلك قبل توليدها للجراثيم. كان السكر أحد الخيارات، لكن إضافة السكر إلى المزيج من شأنه أن يخلق خرسانة ناعمة وضعيفة. لذلك قرروا استخدام لاكتات الكالسيوم، الذي هو أحد مكونات الحليب. ثم وُضعت البكتيريا والكالسيوم في كبسولات قابلة للتحلل، وخُلطت مع الخرسانة الرطبة.
حينما تتشقق الخرسانة، يدخل الماء إلى هيكلها الداخلي، فتُفكك الرطوبة قشرة الكبسولات البلاستيكية القابلة للتحلل الحيوي، والتي تغلف لاكتات الكالسيوم. ثم يوقظ لاكتات الكالسيوم البكتيريا التي تستهلكه، وبذلك تقوم بدمج الكالسيوم مع أيونات الكربونات لتشكيل الكالسيت (معدن يتشكَّل من كربونات الكالسيوم)، وهذا هو الحجر الجيري المطلوب.
عند حدوث هذه العملية البكتيرية، يمتد الحجر الجيري، الذي تكون من جديد، ليملأ الشقوق الناتجة عن الماء، وبالتالي يعيد بناء الهيكل من الداخل إلى الخارج، ويسد تماماً النقطة الأولية التي بدأ فيها التصدع.
وتشبه طريقة إعداد الخرسانة الحيوية تماماً خلط مكونات الخرسانة العادية، ولكن مع عنصر إضافي هو “عامل الشفاء الذاتي”، أي البكتيريا وغذاؤها، الذي يظل سليماً أثناء الخلط، لكنه يتفكك لاحقاً عندما تدخل المياه إليه من خلال الشقوق.
وفقاً لجونكرز: “في المختبر، تمكنَّا من إصلاح الشقوق بعرض 0.5 مم، والآن نعمل على تطوير ذلك. علينا أن ننتج ذلك بكميات ضخمة، لذلك بدأنا بإجراء اختبارات في الهواء الطلق، وننظر في كيفية استعمالها في المنشآت المختلفة، وفي أنواع مختلفة من الخرسانة، لمعرفة ما إذا كان هذا المفهوم يعمل حقاً في الواقع”.
وأمل جونكرز، في حينه، أن تكون الخرسانة الخاصة به بداية عصر جديد من المباني البيولوجية، فيقول: “إنها تجمع الطبيعة مع مواد البناء. الطبيعة توفِّر لنا كثيراً من الوظائف مجاناً، وفي هذه الحالة، البكتيريا المنتجة للحجر الجيري. فإذا استطعنا إدخالها في المواد، يمكننا الاستفادة منها فعلاً. لذلك أعتقد أنه مثال رائع على ربط الطبيعة والبيئات المبنية معاً في مفهوم واحد جديد”.
تطور إضافي مهم
الخطوة النوعية التالية جاءت حديثاً من جامعة كولورادو بولدر، ونُشرت نتائج أبحاثها في مجلة “ماتر” في 15 يناير 2020م. ولخص مضمونها ويل سوروبار، الأستاذ المساعد في قسم الهندسة المدنية والبيئية والهندسة المعمارية في الجامعة المذكورة، على الشكل التالي: “نحن نستخدم بالفعل مواد بيولوجية في مبانينا، مثل الخشب، لكن هذه المواد لم تعد حية. نحن نسأل: “لماذا لا يمكننا أن نبقيها على قيد الحياة وأن نجعل هذه البيولوجيا تفعل شيئاً مفيداً أيضاً؟”.
طريقة إعدادها
استخدم سوروبار وزملاؤه نوعاً مختلفاً عن البكتيريا التي استخدمها قبله جونكرز. فاختار المتعاقبة الحبيبية، (Synechococcus)، لإنشاء كتل بناء في مجموعة متنوِّعة من الأشكال.
01
تخلط مواد غير عضوية، مثل الرمل والحصى والكالسيوم والجيلاتين، مع بكتيريا المتعاقبة الحبيبية
02
ينتج عن خلطها بالماء مواد بناء عضوية. والخطوة التالية تتوالد هذه القطع إلى قطع أخرى لا تحصى بعد تعرضها للشمس والرطوبة
03
تجفف هذه القطع قبل استعمالها. والقطع غير المستعملة وغيرها يمكن إعادة تدويرها كمصدر جديد للمواد نفسها
دمج الباحثون البكتيريا مع الجيلاتين والرمل ومواد مغذية في خليط سائل، ثم وضعوها في قالب. وبفعل الحرارة وأشعة الشمس، أنتجت البكتيريا بلورات من كربونات الكالسيوم حول جزيئات الرمل، في عملية مماثلة لكيفية تشكّل الصدف في المحيط. وعند تبريده، عزَّز الجيلاتين الخليط وأصبح على شكل جل.
وقام الفريق بمحاكاة التمثيل الضوئي في الطبيعة، حيث تمتص هذه الكائنات الدقيقة أشعة الشمس وثاني أكسيد الكربون كمغذيات، وتلفظ كربونات الكالسيوم. وهكذا فإن لهذه العملية القدرة على الانتقال من إنتاج خرسانة يعتمد على الطاقة التقليدية الكثيفة، لإنتاج الإسمنت، إلى إنتاج يعتمد على الطاقة المتجدِّدة تكون أكثر ملاءمة للبيئة بسبب اعتمادها على التمثيل الضوئي.
ودمج الباحثون البكتيريا مع الجيلاتين والرمل ومواد مغذية في خليط سائل، ثم وضعوها في قالب. وبفعل الحرارة وأشعة الشمس، أنتجت البكتيريا بلورات من كربونات الكالسيوم حول جزيئات الرمل، في عملية مماثلة لكيفية تشكل الصدف في المحيط. وعند تبريده، عزز الجيلاتين الخليط وأصبح على شكل جل. ثم قام الفريق بتجفيف الهلام لتشديده، حيث تستغرق العملية برمتها عدة ساعات.
تتمثل ميزة استخدام البكتيريا في إنتاج الخرسانة في أنه إذا لم يتم تجفيفها بالكامل، فإنها تستمر في النمو تلقائياً، تماماً كما تتمدَّد عند التشقق لسد الفراغات. وقد أظهرت الاختبارات أن قطعة واحدة من القرميد تتكاثر إلى ثمانية من دون إضافة أية مواد أخرى. وهكذا يمكن التحكم بالنمو من عدمه في أي وقت عن طريق إدخال الرطوبة إلى المكون. كل ذلك قبل الاستخدام في الأبنية والمنشآت. لكن هذه الديناميكية تعود إلى العمل عند حصول التشقق لاحقاً في المستقبل.
اقتصادية وصديقة للبيئة
تقول المهندسة الميكانيكية لينا غونزاليس، التي تعمل حالياً في هيئة التدريس بجامعة ماساتشوستس لويل: “أعتقد أن فكرة استخدام البكتيريا الزرقاء (cyanobacteria) لصنع هذه المواد فكرة جيدة حقاً”، وهي تلاحظ أن البكتيريا الزرقاء تمتص ثاني أكسيد الكربون. وذلك بعكس ما تفعل العملية التقليديـة لصنع الإسمنت، التي تتطلب حرارة كبيرة، تأتي عادة من حرق الوقود الأحفوري. إذ تشير بعض التقديرات إلى أن صناعـة الإسمنت تتسبَّب بنحو %7 من إجمالي انبعاثات الكربون في جميع أنحاء العالم.
وإضافة إلى أنه عند استخدامها في بناء الجسور والأنفاق والطرق، يمكن للخرسانة الحيوية توفير المليارات من تكاليف الصيانة السنوية. ففي الوقت الحالي، يعمل سوروبار على تقليل تكلفة المواد للاستخدام في المشاريع الكبيرة. إذ يبلغ سعر المتر المكعب للخرسانة البيولوجية حالياً نحو 239 دولاراً. ويأمل الباحثون أن يؤدِّي أسلوبهم الجديد في تغليف البكتيريا ولاكتات الكالسيوم، إلى تخفيض تكلفة الخرسانة الحيوية بنسبة تصل إلى %50، مما يجعل المادة أغلى قليلاً فقط من الخرسانة التقليدية.
ويقول سوروبار، إن الاحتمالات في المستقبل كبيرة. ستباع أكياس مليئة بقطع مجففة لصنع مواد البناء الحية. فقط أضف الماء، وستنمو هذه القطع إلى أضعافها ويمكن للأشخاص في الموقع البدء في تشكيل منازلهم الميكروبية. “لقد حددت الطبيعة كيفية القيام بكثير من الأشياء بطريقة ذكية وفعَّالة. نحن بحاجة فقط إلى إيلاء مزيد من الاهتمام”.
شكراجزيلاعلي المعلومات القيمه