البركان هو أكثر ما في الطبيعــة إثارة للرهبة.
فقد طوّع الإنسان كثيراً من عناصر الطبيعة، وتمكَّن من تغيير مجاري الأنهار، وأقام السدود في وجه البحار، ووصل بعض البحــار ببعضها، وأزال غابات، واخترق الجبال بالأنفاق، ولكنه بقي أمام البراكين مكتوف اليدين، وبلا تصرُّف أمام ثوراتها سوى الابتعـاد عنها، درءاً لغضبها.
وعلى الرغم من أن العلم عرف كثيراً عن البراكين، فإن جبروتها من الضخامة بحيث يبقيها تحاكي الخيال والمشاعر أكثر مما تحاكي العقل. ولا غرابة في ذلك أمام قوى تتولَّد عنها جبال، وترفع جزراً فوق البحار، وتعيد تشكيل خرائط العالم.
وعلى الرغم من كونها أقدم مصدر لخوف الإنسان، ورمزاً للدمار والموت، تعود البراكين وتجتذب الناس إلى العيش عند سفوحها الخصبة، متغاضين عن تجدُّد غضبها المحتمل.
في هذا العدد يستطلع فريق القافلة عَالَم البراكين من خلال جولة على عدد من أبرزها وأشهرها تاريخياً، ويقرأ ما تركته ثوراتها من آثار لا تقتصر على الدمار والموت، بل تتعدّى ذلك إلى التراث الشعبي والآداب والفنون.
قبل مليارات السنين، “تجشّأَت” البراكين صُهارةَ الصخور والرّماد الملتهب والغازات عالياً في الغلاف الجوي، لتصنع بها هذه القمم الرهيبة. فمنذ أن تكوّنت الأرض، كانت البراكين، ولا تزال، “المهندس المعماري” الذي يشكّل القارات والبلدان والجزر في المحيطات. ويقول علماء الجيولوجيا إن البراكين مسؤولة عن تكوين أكثر من %80 من سطح كوكبنا، وأكثر من ذلك، إنها أسَّست الأرضيّة التي سمحت للحياة أن تزدهر بما تحويه حُمَمُها من موادّ حيوية للبيولوجيا، أي أشكال الحياة التي نعرفها.
ينهض كثير من الجبال بقوة البراكين، وتنشأ الفوهات الهائلة، التي تقذف الحمم، حين يكون البركان لا يزال نشطاً. وتنساب على جنبات الجبال البركانيّة أنهار الحمم أو اللابة من الصخور المصهورة التي خرجت لتوّها من باطن الأرض، حيث يُوجَد المِرجَل المشتعل. وهذا المرجل المشتعل بحرارة رهيبة، هو دثار الأرض السائل، الذي تعوم على سطحه صفائح القارات، المسمّاة: الصفائح التِّكتونيّة.
بعض البراكين يثور وينفجر عدَّة مرَّات، وبعضها الآخر يثور مرَّة واحدة وينطفئ نهائياً، وبعضها يتحوَّل بعد انفجاره إلى “غلاية بركانية”.
وبمرور آلاف وملايين السنين، تؤدّي عوامل المناخ الجوي والرياح والأمطار، إلى تَشقُّق وتَفسُّخ وتَفَتُّت أنهار اللابة المتجمّدة، وحَرَّات الصخور البركانية، فتتحرّر مغذّيات النبات من داخل سجونها الصخرية، وتنشأ بذلك حقول مدهشةٌ في خِصبها، سمحت للحضارات الزراعية والحياة البشرية والحيوانية بأن تزدهر على كوكبنا النابض اليوم بالحياة.
إذاً، البراكين هي شقوق في الصفائح التِّكتونيّة، يخرج منها ما في داخل الكرة الأرضية من صُهارة الصخور. وأما الصفائح التِّكتونيّة، فقد كانت في بداية تكوّن الكرة الأرضية شديدة الحرارة، سائلة ومصهورة لشدة سخونتها، إلا أنها ابتردت بمرور ملايين السنين، وكوّنت ما نراه اليوم على خرائط الجغرافيا. ولذا، يمكن أن يقال إن البراكين هي من المظاهر الباقية على اشتعالها الشديد في أرضنا التي بردت قشرتها الخارجية. ولولا ذلك التحوّل، لظلت الأرض كرة نار مستعرة، تغلي بالصخور الذائبة.
تنتشر البراكين اليوم في جميع القارات، حتى في القارة المتجمّدة القطبيّة الجنوبيّة.
وفي البحث عن عدد البراكين في العالم، تطالعنا على المواقع العلمية أرقام مختلفة جداً تتراوح بين 500 و1500 بركان. وتعود هذه الاختلافات إلى أن بعض المراجع يحصر العدد بالبراكين الناشطة حالياً أو نشطت منذ وقت قريب، (علماً أن عام 2018م شهد ثوران 6 براكين فقط حول العالم)، في حين أن مراجع أخرى تضم إلى القائمة البراكين التي ثارت قبل عدة قرون من الزمن. وتتركَّز غالبية براكين العالم الكبرى في ثلاث مجموعات رئيسة هي: “حزام النار” الذي يبلغ طوله نحو 25,000 كيلومتر ويلف المحيط الهادئ، ويحتوي على %80 من براكين العالم تقريباً، فيما ينتشر ما تبقى منها بشكل خاص في منطقة البحر المتوسط التي تشمل كل المنطقة العربية وآسيا الصغرى، ومنطقة الأخدود الإفريقي.
والبراكين ليست متشابهة في تركيبها الجيولوجي ونشاطها الحُمَمي. فبعضها ينفجر قاذفاً الحُمم عالياً في الفضاء، مثل الانفجار الهائل الذي أحدثه بركان “بيناتوبو” في الفلبين عام 1991م، فيما تنساب الحمم الذائبة ببطء من براكين أخرى في ما يشبه الأنهار الحارقة لكل ما يعترض سبيلها، مثل بركان كيلاوِيا في هاواي، ونشاطه عام 2018م.
أما سبب هذا التباين في نشاط البراكين، فهو الاختلاف الجيولوجي والكيميائي في تكوّنها في باطن الأرض. ذلك أن البراكين التي تسيل من فوهاتها أنهار اللابة هي تلك التي تكون مادة حممها قليلة اللزوجة، أو أكثر سيلاناً، فيتيح هذا السيلان للغازات المضغوطة بأن تتسرب إلى الفضاء فيما تنساب الحُمم في أنهارها على سفوح البركان وفي المناطق المحيطة. أما البراكين المتفجّرة التي تقذف حُممها عالياً في الفضاء، على ارتفاع قد يصل أحياناً إلى آلاف الأمتار، والغازات حتى عشرات الكيلومترات، فإن شدة لزوجة حُممها، عندما تكـون في باطـن الأرض، لا تتيح للغازات أن تتسرّب خارجةً من الفوهة، فتزداد الغــازات ضغطاً، وتُحدِث ذلك الانفجار الذي يهابه البشر، ولا سيمــا في المناطق المجاورة.
التربة الغنية بالرماد البركاني هي من أخصب أنواع التربة. والدليل على ذلك أن البلدان التي تعرَّضت عبر العصور الجيولوجية لنشاط بركاني تتمتع بتربة خصبة للغاية، غنية بكل المعادن والعناصر اللازمة للنبات، مثل إندونيسيا واليمن وسيلان.
وإذا نظرنا إلى خريطة العالم، ومواقع البراكين عليها، فإننا نلاحظ أن معظم براكين الكرة الأرضية، تقع على طول الحدود بين الصفائح التِّكتونيّة التي تكوّن خريطة القارات الجيولوجيّة. وهذا الغلاف الصخري، لكوكبنا المشتعل في داخله يتحرّك باستمرار من أثر عوم الصفائح التكتونيّة على باطن الأرض السائل؛ وحين تتحرّك هذه الصفائح، “تتجشّأ” الأرض في هذه البراكين، حين تظهر الشقوق. وفي بعض الحالات، عند اصطدام صفيحتين جيولوجيّتين، تنزلق إحداها فوق الأخرى فيما يسميه العلماء: منطقة الاندساس، وهنا تكثر البراكين، التي تنفرد بقوّة فائقة.
أما سبب قوة تلك البراكين، فهي أن إحدى الصفائح التكتونيّة تقوى على الأخرى، وتدفعها عميقاً في داخل الأرض، فتنشأ حرارة احتكاك شديدة، تزيد من غليان الحمم، لتخرج إلى سطح الكــرة الأرضيّــة بقوّة هائلة.
لكن لا تنشأ كل البراكين بهذا التحوّل الجيولوجي. فثمة طريقة أخرى لنشوء ما يُعرف ببراكين النقط الساخنة “hotspot volcanism”، حيث يظهر البركان وسط صفيحة تكتونيّة لا على حدودها، في موقع تكون فيه الصفيحة رقيقة غير سميكة، فينبثق البركان من أثر الضغط في داخل الأرض.
وبعض البراكين يثور وينفجر عدَّة مرَّات، وبعضها الآخر يثور مرّة واحدة وينطفئ نهائياً، وبعضها يتحوَّل بعد انفجاره إلى “غلاية بركانية”، أي أرض تتخللها عدة فوهات صغيرة نسبياً ساخنة بشكل ملحوظ، تندفع منها الأبخرة والمياه الساخنة مثـل “غلاية يالوستـون” في الولايات المتحدة.
البراكين الأكثر تدميراً في التاريخ الحديث
الأعنف، الأقوى، الأكثر دموية، الأقدم، الأحدث.. وحسب أفعل التفضيل المستخدم تختلف قوائم المصادر العلمية في تعداد البراكين التي أثرت بثورانها على ما حولها. ولكننا لو حصرنا القائمة بالبراكين التي أوقعت أكبر قدر من الدمار خلال التاريخ الحديث، لكانت كما يأتي:
01
بركان تامبورا، إندونيسيا، 10 أبريل 1815م، 120 ألف قتيل.
02
بركان كراكاتوا، إندونيسيا، 27 أغسطس،1883م، 36 ألف قتيل وخسائر مادية قدرت بنحو 1,5 مليار دولار في وقتها. أعنف انفجار في التاريخ المدون، سُمع دويه في أستراليا على بُعد 3110 كيلومترات.
03
بركان لاكي، إيسلندا،1783م، أدى إلى مقتل 10 آلاف شخص في إيسلندا، و23 ألفاً في بريطانيا، وتسبب بمجاعة.
04
جبل بيليه، البحر الكاريبي، 8 مايو 1902م، لم ينجُ غير شخصين من كل سكان جزيرة سان بيار البالغ عدده 28 ألف نسمة.
05
جبل أونزن، اليابان، 1792م، دفن مدينة شيمابارا بأكملها، وقضى على 15 ألف نسمة، وتسبَّب بموجة تسونامي
ارتفاعها 57 متراً
06
نيفادو ديل رويز، كولومبيا، 1985م، قضى على 20 ألف نسمة، معظمهم غرقاً في الوحول الناجمة عن ذوبان الثلوج التي كانت تغطي القمة.
07
سانتا ماريا، غواتيمالا، 25 أكتوبر 1902م، أكثر من 5 آلاف قتيل.
حسنات تكشفها المساوئ
بسبب ما تتسبَّب به من كوارث وضحايا ودمار قد يصل إلى دفن مدن بكاملها وبمن فيها كما فعل بركان فيزوفيو بمدينة بومبايي الرومانية في عام 79م، ترتبط البراكين في الوجدان الإنساني بالدمار والموت. ولهذه الصورة ما يبررها في قائمة الكوارث البركانية.
وإضافة إلى الدمار المباشر والفوري، تنفث البراكين الثائرة كميات هائلة من الغازات والأبخرة السامة، مثل ثاني أكسيد الكربون والكلور وأكاسيد الكبريت وكلوريد الأمونيوم، إضافة إلى الغبار الذي يمكنه أن يرتفع حتى طبقات الجو العليا وينتشر عالمياً، مؤثراً بذلك على المناخ العالمي، كما حصل عند انفجار بركان كراكاتوا في عام 1883م، عندما تسبَّب الغبار المنبعث منه في تبريد المناخ العالمي لأكثر من سنة، وهطول نسب من الأمطار غير مألوفة في المقلب الآخر من الأرض، كما حصل في ولايتي كاليفورنيا ومكسيكو الأمريكيتين.
كما يعتقد العلماء أن بركان توبا في جزيرة سومطرة الإندونيسية حالياً، انفجر قبل 75 ألف عام مطلقاً كميات هائلة من الغاز والرماد البركاني في الهواء، أدّت إلى تغيير في المناخ وفي وجود الإنسان فوق وجه الأرض، وموجة صقيع أدت إلى انقراض حيوانات، وإلى تطور حيوانات أخرى بطرق مختلفة عما كانت عليها، كما أدى إلى نشوء سلاسل من الجزر والأرخبيلات لم تكن موجودة قبل ذلك. ناهيكبأن أكثر العلماء يحملون ثاني أكسيد الكربون المنبعث من البراكين جزءاً من المسؤولية عن الاحتباس الحراري الذي يُشغل العالم حالياً.
لكن للبراكين فوائد أيضاً… فاللابة البركانية غنية بالمعادن المفيدة للصناعة والزراعة، مثل: البوتاسيوم والحديد والنحاس والكبريت. وبات من المعروف أيضاً أن التربة الغنية بالرماد البركاني هي من أخصب أنواع التربة. والدليل على ذلك أن البلدان التي تعرَّضت عبر العصور الجيولوجية لنشاط بركاني تتمتع بتربة خصبة للغاية، غنية بكل المعادن والعناصر اللازمة للنبات، مثل إندونيسيا واليمن وسيلان.
وتستخدم المياه الحارة المنبثقة من جوانب البركان كمصدر للطاقة أحياناً. وقد استخدمت أيسلندا مثل هذه المياه في الأغراض الزراعية، وذلـك بإيصالها داخل أنابيب إلى مزارع خاصة مكيَّفة للحصول علـى النباتات الاستوائية، وأيضاً في توليد الكهرباء كما فعلت إيطاليا.
كما أن البراكين من عوامل تشكّل الأراضي. فمثلاً، كل الجزر المتناثرة في المحيط الأطلسي إنما هي من نواتج ثورات البراكين حسبما أفادت به نظرية “بنائية الألواح” التكتونية.
وفي ختام هذا الجانب من الملف، لا بد من الإشارة إلى أن علم البراكين الحديث الذي تأسس عام 1841م عندما أقيم أول مركز رصد على بركان فيزوفي في إيطاليا، حقق تقدُّماً على علم الزلازل لجهة توقع ثوران بركان مقابل توقع حصول زلزال. وإن كان لا يزال من الصعب الجزم بمواعيد ثوران البراكين قبل وقت طويل، فإن تقنيات عديدة باتت متوفرة لتوقع مجريات الثوران قبل أيام من حصوله، وتُستخدم في ذلك أجهزة الرصد الزلزالي التي باتت مزروعة حول كل براكين العالـم، وتحليل الأبخـرة الصاعــدة من الأرض البركانيــة، وحتى قياس التغير في ارتفاعها عبر الأقمار الاصطناعية التي تراقب اليوم كل براكين العالم.
براكين الجزيرة العربية
على امتداد المنطقة الغربية من الجزيرة العربية، من النفود شمالاً وحتى أقاصي جنوب اليمن، تنتشر سلسلة براكين نشأت بفعل انكسار الهضبة الإفريقة – العربية التي نجم عنها ظهور البحر الأحمر قبل نحو 30 مليون سنة. معظم هذه البراكين بات خامداً، غير أن بعضها، وخاصة في الجنوب اليمني لا يزال حياً وقد يثور عندما تؤدي ظروفه الجيولوجية إلى ذلك.
فالمملكة تقع فوق ألفي بركان خامد منذ آلاف السنين. وحين كانت هذه البراكين ناشطة شكلّت بانفجاراتها وحممها المتناثرة 13 حرة نتجت عن تدفقات بركانية عظيمة وقديمة.
وفي منطقة المدينة المنورة النسبة الأكبر من هذه الحرات والفوهات البركانية. وبحسب موقع هيئة المساحة الجيولوجية فإن الستة آلاف سنة الماضية شهدت 11 ثوراناً بركانياً في “حرة رهاط”، وحدها كان آخرها الثوران البركاني الشهير الذي وقع في عام 654هـ والذي استمر لأكثر من 52 يوماً.
ومن البراكين الشهيرة في المملكة جبل القدر الذي يقع في قلب حرة خيبر، وهو جبل بركاني خامد بارتفاع يصل إلى أكثر من 2000 متر عن سطح الأرض. وفوهة هذا الجبل عميقة جداً وفيها تجويفات كبيرة. ومن على فوهة جبل القدر يمكن للناظر أن يرى امتداد اللابة المتجمّدة لأكثر من 50 كلم في مشهد جيولوجي نادر. وفي المنطقة نفسها تقع فوهة بركان جبل الأبيض بلونه الغريب وتشكيلاته المتعدِّدة الذي يمكن اعتباره واحداً من المعالم الجيولوجيـة النادرة عالمياً.
وبالقرب من الطائف، وسط حرة كشب الشهيرة تقع فوهة “بركان الوعبة” أو ما يسمى “مقلع طمية”. وهي واحدة من أعمق الفوهات البركانية في المملكة، إذ يصل عمقها حتى 240 متراً، ويبلغ قطرها أكثر من 2500م.
أما البراكين في اليمن، التي يبلغ عددها 11 بركاناً، فإن خمسة منها ثارت خلال الألف وخمسمئة سنة الماضية، وهي حرة أرحب (عام 500م)، بير برهوت (905م)، حرة السواد (1253م)، حرة ذمار (1937م)، وكان آخرها بركان جبل الطير (2007م).
وللاطلاع على مزيد من التفاصيل والمعلومات الدقيقة حول براكين الجزيرة، يمكن زيارة موقع هيئة المساحة الجيولوجية السعودية Sgs.org.sa، التي هي أهم مرجع علمي متخصص في هذا الشأن.
————
البراكين في السينما | أناس عاديون في مواجهة حدث غير عادي
معظم الأفلام السينمائية التي تصوِّر قصص انفجارات وثورات بركانية تسير في بنائها للسيناريو على وتيرة واحدة: الحياة المألوفة العادية في مكان يعيش فيه الناس باطمئنان، ثم ظهور بعض الظواهر غير الطبيعية، مثل الهزات الأرضية، وتصاعد الأبخرة والغازات من الأرض، وشيئاً فشيئاً يدرك بعض هؤلاء أن خطراً ما يتهدَّدهم، ويترك مجالات ضيقة للنجاة. فمن سينجو ومن سيهلك؟
كان فِلْم “كراكاتوا شرقي جاواه” من باكورة هذه الأفلام، فقد ظهر في عام 1968م، وأخرجه برنارد كوالسكي، وشارك في التمثيل حشد من أشهر نجوم هوليود آنذاك. يروي هذا الفلم قصة مغامرة سفينة تجد نفسها قرب بركان كراكاتوا عند ثورته التاريخية. ومع العلم أن بعض مظاهر ثورات البراكين ظهرت في الفلم بشكل علمي، فإن أمانته التاريخية كانت نسبية، ومن أشهر المآخذ عليه أن كراكاتوا ليس شرقي جاوا، بل في جاوا نفسها. ولكن المنتجين الذين اكتشفوا هذا الخطأ خلال التصوير تمسكوا به من باب ترويج الاسم الرومنطيقي في الغرب. وفي عام 2008م، أعيد إخراج دراما تلفزيونية بالعنوان نفسه.
ومن الأفلام التي يطغى عليها الخيال العلمي أكثر من الحقائق العلمية “البركان” (1997م)، من إخراج ميك جاكسون، وقصة وسيناريو جيروم آرمسترونج، ويصور في 104 دقائق ما حدث عندما هزّ زلزال ضخم مدينة لوس أنجلوس، فاضطر رئيس قسم إدارة الطوارئ (الممثل تومي لي جونز) أن يعود من عطلته من أجل تقديم المساعدة، بعد أن حذَّرت دكتورة في الجيولوجيا (الممثلة آن هاش) من أن البركان قد يطلق العنان للحمم البركانية المتدفقة في أنفاق المدينة، الأمر الذي سيهدِّد بتدميرها بأكملها. ومع سير الصخور المنصهرة الملتهبة في الشوارع، يتحتم على رورك وبارنز معرفة كيفيـة تحويـل مسار الحمم.
قصة حقيقية لم تحصل بعد!
أما “بركان هائل” فهو فِلْمٌ وثائقي من أفلام الخيال العلمي، من إخراج بول أندرسون وتصوير جلان ماكفيرسن. عرض لأول مرَة عام 2005م على قناتي “بي بي سي” و”ديسكفري”، ويركِّز على تكهنات واحتمالية اندلاع “الكالديرا” أو البحيرات البركانية في حديقة يالوستون الوطنية، بولاية مونتانا الأمريكية، وهي إحدى الظواهر الجيومورفولوجية المصاحبة للبراكين، التي يعرفها العلماء على أنها تشكِّل أكبر بركان مدمر على سطح الأرض. يرصد الفلم بركاناً يمكنه أن يثور ليقذف أكثر من 1,000 كيلومتر مكعب من الحمم، ويكون بذلك أكبر آلاف المرات من معظم الثورات البركانية التاريخية. وملصقه الإعلاني يقول “قصة حقيقية لم تحصل بعد”.
يبدأ سرد أحداث هذا الفلم الوثائقي بقيام العالم المسؤول عن مرصد يلوستون للبركاين، بعقد مؤتمر صحافي مع زملائه لتقديم محاكي الصور الافتراضية “فيرجيل”، الذي يزعم إيلدريدج أنه سيساعد بشكل كبير في البحث عن إمكانية انفجار البركان الهائل.
تجرى الدراسات في نوع من التشويق، وتنقل الكاميرا التوتر المخيم على فريق البحث، وبالفعل بعد فترة ينفجر البركان، وبعد أسبوع واحد من بدء الثوران، تبدأ الأرض فوق حجرة الصهارة في السقوط في المساحة الفارغة التي خلفتها الصهارة المنبعثة، مما يشير إلى نهاية الانفجار. ومع ذلك، فإن الآثار الجوية العالقة تجعل العالم يبدو وكأنه في فصل شتاء بركاني. والنتيجة أن معظم أراضي الولايات المتحدة أصبحت غير صالحة للسكن. ولكن برنامج “المشي إلى الحياة” أنقذ 7.3 مليون شخص من بين 25 مليوناً محاصرين بسبب الرماد؛ أولئك الذين تمكَّنوا من الخروج من تحت الرماد.
زاد في جاذبية وإثارة الفلم أنه مصور بتقنية “ثلاثية الأبعاد”، وثَمَّة رسالة يريد الفلم أن يوصلها بطريقة أو بأخرى، وهي باختصار أن على الجنس البشري أن ينتبه إلى عدم تدمير نفسه بالحروب والظلم والاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا وتخريب البيئة، فإن الكوارث الطبيعية كفيلة بذلك.
البركان “العادل” وكارثة بومبايي
وفي عام 2014م، ظهر فِلْم “بومبايي” من إنتاج وإخراج بول أندرسون، وهو فِلْم درامي، ألماني، كندي أمريكي، مستوحى من ثوران بركان فيزوفيو عام 79م، الذي دمَّر مدينة بومبايي القديمة في الإمبراطورية الرومانية.
يبدأ الفلم برؤية البقايا المتحجرة لمواطني مدينة “بومبايي” القديمة، في أعقاب ثوران بركان فيزوفيو الواقع شرقي مدينة نابولي في جنوب إيطاليا. وعلى خلفية درامية تبدأ أحداثها عام 62م، وتصوِّر قسوة الجيش والسلطات الرومانية وفسادها والعبودية والانتقام، نصل إلى عام 79م، حين يضع البركان فيزوفيو حداً نهائياً لكل هذه التطورات والمساوئ قاضياً بالنار والحمم على كل الأشرار. وحدهم الأخيار ينجون.
ومجرد مسرح للمغامرات
وفي عام 2014م، أخرج جيمس كوندليك “طائرة في مواجهة بركان”، الذي يروي في 91 دقيقة قصة طائرة تجارية تُحاصر داخل حلقة من البراكين فوق جزر هاواي، فيتوجب على الركاب وطاقم الطائرة إيجاد طريقة للنجاة من دون الهبوط بالطائرة. وعندما تبدأ الحمــم بالخـروج من البراكين، يسيطر الخــوف على كل من في الطائــرة، وهنــا يتوجب عليهم بعد مقتل الطيار ومساعده، العمل معاً للبقــاء على قيد الحياة، وإلا فإنهم سيتعرضـون للحرق إما بنيران البركان أو بالمقذوفات.
صُور هذا الفلم الذي يغلب عليه التشويق بتقنية رقمية عالية الدقة؛ ما يضفي على صوره وضوحاً فائقاً. وكذلك المؤثرات الصوتية المختلفة نجدها غامرة بشكل جيِّد وقوي.
بحر الأفلام الوثائقية
أما الأفلام الوثائقية فهي أكثر من أن تُحصى. وأصبحت كثيرة في القنوات الفضائية، وإن كان كثير منها يرتبط بثوران بركان معيَّن في مناسبة محدَّدة ويغلب عليها الطابع الإخباري، فإن أفضلها هي التي تُنتَج للتثقيف العلمي. ومن هذه الفئة الأخيرة، نذكر على سبيل المثال “براكين إرتا آلي”، وهو فِلم تلفزيوني يصوِّر رحلة إلى صحراء “عفار”. الممساة “بوابة الجحيم” في إثيوبيا، وهي واحدة من أقدم الصحاري في العالم التي تكوَّنت فيها بحيرات الحمم البركانية النشطة بشكل مستمر، وتقع أكبرها في منطقة منخفض “الدناكل” في شمال شرق إثيوبيا على ارتفاع 125 متراً فوق مستوى سطح البحر، وتُعدُّ واحدة من أخطر وأجمل الأماكن في الوقت نفسه على مستوى العالم. وفيها توجد براكين “إرتا آلي” التي تتجاوز درجة حرارتها 1100 درجة مئوية، وهي دائمة الثوران.
وهناك أيضاً سلسلة الأفلام الوثائقية الفرنسية التي صوَّرها عالم البراكين الفرنسي جي دي سانسير وفريقه حول ثوران بركان جزيرة “وايت آيلاند”، الذي يُعدُّ من أنشط البراكين في نيوزيلندا، ومقصداً سياحياً بفضل المناظر الخلابة المحيطة به. ويصف بعض منظمي الرحلات السياحية هذه الجزيرة بأنها “عملاق جيولوجي مفعم بالحياة” و”أكثر بركان بحري نشط في العالم يمكن الوصول إليه”.
البراكين في الآداب الشعبية المحلية
عندما نضيف إلى الرهبة التي تثيرها البراكين في نفس من يعيش بقربها الغموض الذي يكتنف نشاطها، يمكننا أن ندرك الدور الكبير الذي يلعبه الخيال في التعامل مع البراكين تفسيراً وسرداً لما كان من أمرها.
عند شعب الإسكيمو:
في ألاسكا، حيث يوجد نحو 40 بركاناً ناشطاً، وتروي إحدى القصص التي تحوّلت إلى تراث شعبي في المنطقة، ما جرى عند انفجار بركان سكابتار جوكول، في أيسلندة عام 1783م، وقد حملت الرياح غمامة البركان الهائلة إلى شمال ألاسكا، فغمرت المنطقة في أول موسم الصيد، ولم ينجُ من الكارثة سوى عشر قرى. تقول الأسطورة إن جدّة وحفيدتها تعيشان في إحدى القرى، حين جاءت غمامة البركان القاتلة، وكان الفصل صيفاً، وليس لديهما من يصطاد لإطعامهما. فجمعت الجدّة ما أمكنها من طعام من أجل الشتاء الطويل، بتجفيف اللحم والسمك، والاحتفاظ بما لديها من زيت عجل البحر، وخزن النبات والثمار. ولما جاء الشتاء، أكلت الجدة والحفيدة مما ادّخرتاه، واكتشفتا بعد انقضاء الشتاء أن أحداً لم ينجُ في القرية من الجوع الذي تسببت به الغمامة السامة.
عند اليونانيين والرومان:
كان الرومان القدماء يؤمنون بأسطورة تحكي عن أسباب البراكين وقصّة الجبال النارية، ومفادها أن أحد آلهتهم الوثنية، ويدعى “فولكان” (مصدر تسمية البركان باللاتينية)، كان يعيش في جزيرة يُخفي في أعماقها ورشة حدادة يعمل فيها بلا كلل ولا ملل، فيصنع الأسلحة وسهام البرق لغيره من الآلهة، فتتأجّج في الورشة النيران ويرتفع الدخان واللهب فوق الجزيرة مما يسبِّب البراكين!
أما أساطير اليونانيين القدماء، فأشهر ما يتحدثون عنه في هذا المجال هو عن جزيرة أتلانتيس، التي كانت جزيرة مزدهرة وتؤوي حضارة متطوّرة، لكن بركاناً هائلاً دمرها وأغرقها في البحر. وثمَّة نظريتان في الموقع الذي كانت فيه أتلانتيس، إحداهما ترى أنه في المحيط الأطلسي، عند مضيق جبل طارق من ناحية الغرب؛ وأخرى ترى أن موقعها في مجموعة جزر سانتوريني اليونانيّة في بحر إيجه. وإذا صحّت هذه الأخيرة، فإن ما بقي من أتلانتيس التي غرقت، هو خمس جزر، بين اليونان وجزيرة كريت، تدعى جزر سانتوريني.
وكان أفلاطون هو أول من كتب عن سانتوريني، وقد سمع قصتها من شخص توارثها عن جدّه. وهو يقول إن أتلانتيس كانت مكاناً مزدهراً، تنعم بثروة كبيرة، ويعيش فيها الناس بسلام، قبل أن يدهمهم البركان.
أيسلندا:
يقال إن البراكين التي نفثت حممها منذ ملايين السنين، ربما تكون هي التي صنعت هذه الجزيرة الكبيرة الحافلة بالبراكين، والتي ألهمت الشعوب في أوروبا منذ القدم، أساطير وقصصاً يتوارثونها. ويؤمن الأوروبيون في الأجزاء الشمالية الغربية من قارتهم على الخصوص، بأن بركان “هيكلا” في أيسلندا، هو بوابة العالم السفلي، وأحد المَدخَلَين المعروفين إلى الجحيم أو المَطهَر. وحين يرى الناس الحمم الملتهبة والصخور الذائبة تتطاير في الفضاء من فوهة البركان، يقولون إن المقذوفات هي في الواقع أرواح المُعَذَّبين في الجحيم. ولما كانت الحمم والصخور الذائبة تنفجر في الهواء، بسبب برودة الجو، فترسل أصوات فرقعات قوية، يقول الناس إن هذه “الأرواح” تصرخ من شدة الألم. ولما كان “هيكلا” في معتقداتهم هو بوابة العالم السفلي، فإنه مكان تجمُّع الساحرات والسحرة، وسادة السحر الأسود!
لكن مع هذه المعتقدات السوداويّة، ثمَّة من يرى صورة أزهى لهذا البركان. وفي إحدى الروايات الشعبيّة الرائجة في إيسلندا نفسها، أن أحد السحرة لبس لبوس حوت وسبح إلى أيسلندا من أجل وضعها تحت سلطانه. ولكن من حسن حظ الأيسلنديّين أنه ارتعب أمام مشهد البركان وهو يقذف الحمم المشتعلة و”الأرواح” في مواجهته، فقرَّر الانسحاب بعدما اقتنع أن هذه الأرواح التي تقذفها البراكين في الجو، هي التي تحمي بشراسة هذه الأرض الجميلة، ولم يعاود الساحر الكرّة من جديد.
إندونيسيا:
يتحدث الكاتب بيتر تيرنر في قصة رحلته إلى جاوة، الجزيرة البركانيّة الإندونيسيّة عن الأسطورة التي تقول إن فوهة بركان “تنغر” الكبيرة، حُفِرَت بواسطة نصف قشرة جوزة هند، حفرها غول، كان مغرماً بشدة بإحدى الأميرات. وحين علم الملك بأن الغول قد يُتِم مهمّة الحفر التي أخذها على عاتقه، وهي أن يُنهي حفر الفوهة في ليلة واحدة، أمر خدمه بسحن الأرُزّ. ومع صدور صوت السحن، بدأت الدِّيَكة تصيح بذلك الصوت، حين ظنت أن الفجر قد حان. حينئذ رمى الغول قشرة جوز الهند بعيداً، فصارت فوهة للبركان اسمها غونونغ باتوك، وصارت الحفرة بحر رمال، فيما مـات الغــول من شدة التعب.
اليابان:
وفي جزر اليابان 109 براكين، متراوحة النشاط، لكن أكبرهـا وأعلاهـــا وأقدسها في نظر اليابانيين، هو بركان “فوجي” الهامد منذ آخر انفجار بركاني له عام 1707م.
يُعَدّ جبل فوجي، أو “فوجي سان”، أو “فوجي يام”، مقدّساً في التراث الشعبي، وحتى الديني الياباني، إذ على قمته التي ترتفع 3776 متراً توجد عدة معابد. وعلى الرغم من أن كثيراً من مظاهر التقديس انحسرت عن هذا الجبل في القرن التاسع عشر، إلا أن قمته لا تزال تستقبل في كل صيف نصف مليون “حاج”، بعدما تحوّل المعتقد الديني إلى ما يشبه التراث الوطني الثقافي. وقد أتيح الآن للنساء أن “تحجّ” إلى البركان بعدما كانت التقاليد تحظر ذلك في الماضي. ويعتقد “حجاج” سنغن، أن هذه الإلهة حين ترى شخصاً غير صالح بين زوار الجبل ترميه أرضاً.
وتروي قصة “ولادة” البركان، أن رجل غابات اسمه “فيزو” صحا في إحدى الليالي، بعدما سمع ضجيجاً من داخل الأرض. ظن الرجل أن في الأمر زلزالاً، لكن عند خروجه من الكوخ، وجد أن الأرض التي كانت مسطحة في الجوار صارت جبلاً! ومن شدة خوفه أمام جلال المشهد، سمّى الجبل “فوجي ياما”، أي الجبل الذي لا يموت أبداً. هذه هي الأسطورة، أما العلماء فيعتقدون أن الجبل نشأ من البركان قبل 10,500 عام.
المكسيك:
وفي المكسيك بركانان جاران هما بوبوكاتيبيتل (الجبل المدخِّن)، وإيزتاكيهواتل (السيّدة البيضاء)، يقعان عند الطرف الجنوبي من وادي مكسيكو. وكان شعب الأزتيك، شعب البلاد الأصلي، قبل وصول الأوروبيّين إلى القارة الأمريكيّة يعتقد أن البركانين عاشقان لا يحتملان رؤية أحدهما الآخر وهو بعيد عن المنال. ويبدو شكل البركان الثاني، إيزتاكيهواتل، مثل سيّدة مستلقية؛ بل إن الأسماء التي تُطلَق على نواحي الجبلين توحي بأنهما شخصان في هذه الأسطورة: كابيزا (رأس)، بيتشو (صدر)، روديلاس (رُكبة)، وبياس (أقدام).
نيوزيلندا:
وفي فولكلور الماوري، الشعب الأصلي في نيوزيلندا، أسطورة جميلة عن نشوء البراكين الكبيرة في هذه الدولة التي تتكوّن من أرخبيل من الجزر. فالبراكين الثلاثة، تونغاريرو وتاراناكي وروابيهو، كانت ثلاثة عمالقة، أنثى وذكران. وقد وقع تاراناكي وروابيهو في حُب تونغاريرو، فأخذا يتقاتلان من أجل الفوز بها. وفي أثناء القتال، رمى الأول نفسه على الثاني، لكن روابيهو صب عليه مياهاً ساخنة من بحيرته. وانتقاماً لهذا، صار تاراناكي يرمي الحجارة على خصمه الجبل الآخـر، فدمّر قمته التي كانت جميلة. ولكن روابيهو تمكّن من ابتلاع الصخور المدمَّرَة وأذابها، ثم بصقها على تاراناكي، فانسحب هذا على طول الساحل، حيث يستقر الآن، ويُعِدّ للثأر. وثمة قصة “غرام” أخرى لدى الماوري، بين البركانين المنطفئين، كاكيبوكو وكاوا. إذ تروي الأسطورة أن الأول قاتل أكثر من غريم من أجل الفوز بكاوا.
روسيا:
تعدّ شبه جزيرة كمتشاتكا في أقصى شرق سيبيريا الروسيّة، الموقع الأكثر كثافة بالبراكين في العالم. وهي في أي حال، على القمة الشمالية الغربية من “حزام النار البركاني”، ففيها أكثر من 130 بركاناً، منها 29 بركاناً ناشطاً. وتعتقد قبائل “كورياك”، السكان الأصليون في شبه الجزيرة البالغ طولها 1,250 كيلومتراً، أن الإله الذي كانوا يعبدونه، الغراب الأسود الكبير “كوتخ”، هو الذي أنشأ شبه الجزيرة، ثم أراد أن يعمرها بالسكان، فـ”خلق” البشر، ثم امرأة جميلة جداً، من أجل تناسل السكان وتكاثرهم. فتقاتل الرجال للفوز بعطف المرأة، وكانوا يموتون في هذا القتال، لكن النار في قلوبهم المليئة بالحب، ظلت مشتعلة، فظهرت من هذه النار البراكين التي تنتشر بكثرة في تلك البلاد.
وبشكل عام، يمكن القول إن حضور البراكين في الآداب الشعبية يبقى أقوى من حضوره في الآداب النخبوية وأكثر تنوعاً في صوره ومعانيه.
طغيان رمزيته إلى الغضب المتفجر
على الشعر والنثر
في الشعر العربي
نجد في الشعر العربي مقاربات للبراكين بمعناها الحرفي، أما حضور البركان في هذا الشعر فيغلب عليه استخدامه صورة للغضب المتفجر وتعبيراً عنه.
قد يكون الشاعر العماني سيف الرحبي، من أبرز الشعراء العرب في وصف البراكين وتشخيص حالتها ويقول في قصيدة:
“تتآخى البراكين في باطن الأرض
هادئة مسالمة كسول
تتثاءب على سرير غيمها الخاص
تداعب أطراف بعضها
لاهيةً تضحك وتحلم
حتى يحين موعد الحصاد الغامض
بدافع نشوةٍ أو انتقام
بهدوء ترمي البراكين شباكها في قعر المحيط
لتصطاد قِرش الطوفان الغاضب
ذاك القادم
من عصور الوحشيّة الحنون…
البراكين ليست احتكاك صفيحة بأخرى
إنها الحنين العارم للأرض إلى السماء
التفاتة الأم المذعورة
إلى أبنائها الجنود
ترجمان الأشواق
وعلّة الوجود الأولى”.
ويحضر البركان أيضاً بصورة لا تخلو من الرمزية في قصيدة الشاعرة الفلسطينية نعومي شهاب “مفاوضات مع بركان” حيث تقول:
“عساك تنام أخيراً
سنفرح إن نمت إلى الأبد
وننصرف إلى المنحدرات التي نزرعها
ونحن نغني تلك الأغنيات
التي علمتها لنا الجدات قبل أن نرث منهن الخوف”.
ولكن عندما كتب الشاعر السعودي خالد بن سعود الحليبي قصيدته “بركان”، لم يكن يتحدث عن أي بركان، بل يصف مشاعره أمام الحافلات التي كانت تقل أطفال البوسنة إلى أوروبا خلال محنتهم الكبرى. الأمر نفسه ينطبق على “بركان” الشاعر مروان المزيني للحديث عن مشاعر حزينة تختزن غضباً:
“قلبي تـفجر والمشاعر ترتمي
والعين تدمع من لهـيب مؤلم”
والديوان الشعري الذي صدر في عام 1957م بعنوان “البركان” للشاعر العراقي محمد مهدي البصير حفل بمجموعة من القصائد الوطنية ذات نفس تغييري، كانت وراء تلقيب صاحبها بشاعر ثورة العشرين لما قدَّمه من شعر في كل قضايا العراق الوطنية.
وفي الشعر العالمي
ونجد هذين الشكلين من حضور البركان في الشعر العالمي أيضاً. فقصيدة الشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون “ينبت العشب على بركاني” استوحت الصورة العامة للبركان:
“على بركاني نبت العشب
صار حيز تأمل
عش عصافير مشرع أمامها
على ما قد يظن الجميع
كم هي مضطرمة النيران أسفل صخر
كم هي غير آمنة هذه التربة
هل أفصحتُ أنها قد تسكن وحدتي بخشوع”.
أما عند الشاعر التركي سزائي قره قوج فلم يكن البركان أكثر من رمز عند حديثه عن تهور حبيبته:
“لو تركناك
لوضعت يدك حتى في البراكين،
ولقدمت المساء هدية على المائدة”.
وفي الرواية أيضاً
عندما نضع جانباً الروايات التي كُتبت للسينما والتي يغلب عليها حضور البركان بدلالاته الحقيقية، نجد أن ما سقناه على الشعر ينطبق أيضاً على الرواية لجهة حضور البركان في صيغتين.
ففي رواية “تحت البركان” الصادرة عام 1947م للإنجليزي مالكوم لاوري، والمصنفة في المرتبة الحادية عشرة في قائمة أفضل مئة رواية إنجليزية في القرن العشرين، البركان هو مجرد مسرح صامت.
فهذه الرواية هي شبه سيرة ذاتية، استعار فيها الكاتب مشاهد وأحداثاً وشخصيات من حياته الخاصة ليرسم من خلالها أحداثاً على مدى مئات الصفحات لكنها تدور أساساً خلال يوم واحد هو “يوم الموتى” الذي يحتفل فيه المكسيكيون وسط صخب مدهش بذكرى موتاهم. والشخصية المحورية في الرواية هي شخصية قنصل إنجليزي يتجوَّل في بلدة بركانية صغيرة تعيش الاحتفالات بشكل استثنائي. وهذا القنصل الذي هو في نهاية الأمر الكاتب نفسه، يعيش ذلك النهار وسط دوامة ذكرياته ورصده لفشله في حياته…أما “تحت البركان”، الذي هو عنوان الرواية فيعود إلى أن هذه القرية تقع عند سفحي البركانين بروكاتيبيتي وإزتاشيهوات في المكسيك، وقد يكون للإشارة الرمزية إلى أن الحياة وما فيها من تقلبات تبقى أصغر مما تكتنزه الطبيعة في باطنها ويشمخ عليها.
من جهة أخرى، نجد براكين كانت هي نفسها محور بعض الأعمال الروائية. منها على سبيل المثال رواية “البركان الذهبي” لرائد أدب الخيال العلمي الفرنسي جول فيرن. صدرت هذه الرواية عام 1906م، وتدور أحداثها حول بركان من الذهب الخالص، ورحلة الوصول إليه وجمع المعلومات عنه والمعاناة في سبيل الوصول إلى الكنز، بأسلوب أدبي شيق وسلس.
ويبدو أن فيرن كان مفتوناً بالبراكين وآلية تطورها واستمراريتها، فلم يكتفِ برواية “البركان الذهبي”، بل كتب لاحقاً “رحلة إلى مركز الأرض”، بأجواء مختلفة عن عمله الأول، وضمّنها كثيراً من المغامرات والبطولات للوصول إلى قعر البركان واستكشافه. وتدور أحداث القصة حين يجد أستاذ جيولوجيا ورقة صغيرة مشفّرة، وفيها “انزل من فوهة بركان يوكول سنيفل، الذي يمسه ظل سكارتاريس بنعومة قبل بداية شهر يوليو أيها المسافر الشجاع، وستصل إلى قلب الأرض كما فعلت أنا”. فتنطلق الرحلة الأسطورية صوب البركان في إيسلندا لاستكشاف قعره وما بعد القعر، ومن ثم المشي في باطن الأرض حتى الوصول إلى بلدة تطل على البحر المتوسط، والعودة للإخبار عن هذا الإنجاز العلمي.
نصٌّ مختار حول بركان إتنا
قد يكون ما كتبه الشاعر المغربي محمد بنيس لدى زيارته بركان إتنا في صقلية، من الأمتع والأكثر تعبيراً عن تجربة البركان عموماً، بدءاً من التحضير للرحلة، حتى الوقوف على فوهة البركان. ونورد منه ما يلي:
“لم أكن أتوقعُ شيئاً من تلك الدهشة، لأنني لم أكن أرى جبل البركان، ولا أعرف بالضبط حجمَه أوْ شكله. أبناء المدينة جميعاً تربّوا على الصعود إليه. دائماً يصعدون إلى الجبل، في الفصول كلها يصعدون. لكل فصل سحرُه المفضَّل. هكذا كانوا يعبّرون لي عن علاقتهم بإتنا. تنسى أنه المتمرد، شديدُ الجبروت. وفي كل مرَّة كنتُ أغبطهم على ما تعبّر عنه كلماتهم من أحاسيس متناقضة، فيها من الغبطة أكثر مما فيها من الرعب. فأنا أعرف فقط أنّ كُتاباً وفنانين أوروبيين جاؤوا إلى كاتانيا من أجل الصعود إلى إتنا، وأن للبركان مكانة في الأدب الأوروبي”.
ويتابع “هنا، في قمة البركان رأيتُ ما لم يكن لي من قبل أن أراه. إنه تكوين الأرض، عارياً من أي قدرة خارج الأرض نفسها. الأرض نفسها … التي تعيد التكوين سنة بعد سنة، وعهداً بعد عهد. مشهد التكوين يمكنني الآن أنْ أتخيّله وأنا أنظر إلى الفوهة البركانية في الأعلى، وفي وسطها الحمم النازلة من أحشاء الأرض إلى السطح الأرحب. كأن الأرض لم يكتمل تكوينها بعد، أو كأن تكوينها لا ينتهي. تكوينٌ من الأرض إلى الأرض. يحمومٌ ينبثق من ترعة الأرض، معه الرعود والزلازل المتسابقة، حتى تشتدّ حمرة الفوهة، ثم النيران تنقـذف إلى أعلى، في حالة منَ الخبَل تضيف إلى العلوّ علوّاً، والحمم تشرعُ في السيلان، جداول من جمر فاتك، طبقة فطبقة، حتى أن لا حاجز يقدر على إيقاف الجريان عبر المنحدرات”.
في الفن التشكيلي
فوجي وفيزوفيو يحتكران اهتمام الرسَّامين
من بين كل براكين العالم، احتكر اثنان معظم حضور البراكين في الفن التشكيلي، وهما: جبل فوجي في اليابان وبركان فيزوفيو القريب من مدينة الإيطالية.
جبل فوجي
لجبل فوجي مكانة خاصة في التراث الثقافي الياباني، تعود جذورها إلى “حكاية قاطع البامبو”، حين وضعت “الآلهة” إكسير الحياة على قمته. وبسبب طابع القدسية هذا الذي أسبغه اليابانيون على هذا البركان الذي ثار عدَّة مرَّات قديماً، وكان آخرها في عامي 1707 و1708م، وأيضاً بسبب أناقة شكله المخروطي الذي تعلوه الثلوج، إذ إنه يرتفع نحو 3,100 متر عن سطح البحر، حظي هذا الجبل البركاني بمكانة كبيرة جداً في تاريخ فن الرسم الياباني منذ نحو ألف سنة. وظهر في مئات اللفائف التاريخية، منها على سبيل المثال واحدة تعود إلى عام 1323م، وتُظهر الشكل الحقيقي للجبل المغطى بالثلوج والدخان يتصاعد من فوهته.
غير أن أشهر رسوم فوجي على الإطلاق، وأقربها إلينا، هي تلك الرسوم الستة والثلاثون التي رسمها هوكوزاي ما بين عامي 1830 و1832م، وكانت بعنوان جامع “ست وثلاثون رؤية لجبل فوجي”. ولأن هذه الرسوم كانت مُعدَّة للطباعة، وصلت بسرعة إلى أوروبا، حيث أشعلت الاهتمام العام بفنون الشرق الأقصـى، وخاصة الفن الياباني، وقلبت مفاهيم الفن رأساً على عقــب في حواضـر الفن الأوروبية، حتى إن كثيرين يردون إليها فضلاً كبيراً في نشوء التيار الانطباعي.
بركان فيزوفيو
حتى نهاية القرن السابع عشر في أوروبا، كان رسم الطبيعة كغاية بحد ذاتها يقتصر على المدرسة الهولندية، حيث لا براكين. أما في فنون جنوب القارة، فقد كانت الطبيعة مجرد خلفية لموضوع أدبي أو أسطوري. ولكن ما إن تغيرت هذه النظرة إلى الطبيعة، حتى اتسعت محترفات الفنانين لمشاهد البراكين، وكان في طليعتها بركان فيزفيو القريب من مدينة نابولي التي تأوي أو تستقبل عدداً ملحوظاً من الفنانين.
ما أثار الاهتمام ببركان فيزوفيو فلا يقتصر على نشاطه شبه الدائم، بل يعود بشكل رئيس إلى اكتشاف آثار مدينة بومبايي الرومانية عام 1748م التي دفنها هذا البركان في القرن الميلادي الأول.
من أشهر الفنانين الذين انبهروا بالبركان فيزيفيو الرسَّام البريطاني جوزيف رايت اوف ديربي (1734 – 1797م) الذي شهد بعينه ثورة هذا البركان فرسمه في ثلاثين لوحة مختلفة. والفرنسي بيار – جاك فولير (1729 – 1790م) الذي عاش شطراً كبيراً من حياته في نابولي، ورسم عشرات اللوحات لثوران فيزوفيو من مختلـف الزوايـا في النهار والليل.
وبدءاً من القرن التاسع عشر، أصبحت بومبايي والبركان من نقاط الجذب السياحي والثقافي. ومن زوارها الفنان الروسي كارل بريولوف الذي تفقَّد الحفريات الأثرية في المدينة الدارسة تحت الرماد البركاني، ورسم في عام 1830م لوحته الجميلة “آخر أيام بومبايي”، حيث نرى أناساً مذعورين في الشوارع، والأبنية تتهاوى عليهم تحت سماء تغطيها النيران والأدخنة السوداء. وظهر الموضوع نفسه عند الفنان الفرنسي هنري دي فالنسيان (1750 – 1819م)، في لوحة أعطت مساحة أكبر للبركان والأدخنة منها للمدينة المنهارة.
ويستمر الاهتمام ببركان فيزوفيو حتى يومنا هذا. وآخر كبار الفنانين الذين رسموه فنان البوب الأمريكي أندي وارهول، الذي أنجز في عام 1985م 365 لوحة طباعية تمثل هذا البركان ثائراً بتفعيلات لونية مختلفة في كل لوحة على حدة.
من إتنا إلى هاواي
وإذا شئنا أن نضيف إلى هذين البركانين غيرهما، يمكننا أن نضيف بركان إتنا في جزيرة صقلية الإيطالية الذي التفت إليه رسامو الطبيعة منذ مطلع القرن التاسع عشر، مثل الألماني كارل غوتارد غراس الذي رسام “شلالات كراشي عند سفح إتنا” في عام 1808م. ومن ثم تصاعدت موجة الاهتمام بإتنا في العصر الرومنطيقي، نظراً لما يمثله البركان من معاني الموت والحزن، وهذا ما يتجلى في لوحة الأمريكي توماس كول (1801 – 1848م) “جبل إتنا كما يبدو من تاورمينا” التي رسمها عام 1843م، وتحتل مقدِّمتها بعض الخرائب والأطلال الرومانية، ويعلوها في الخلف بركان إتنا تغطيه الثلوج.
وعلى الجهة الأخرى من الكرة الأرضية أثارت براكين هاواي بعض الاهتمام الفني. ومن الذين رسموها الأمريكي ليونيل والدن (1862 – 1933م)، والفرنسي جول تافيرني (1844 – 1889م)، في لوحات متشابهة إلى حدٍّ ما وتقتصر على التشكيلات الصخرية والنارية من دون أي بعد مدني أو إنساني.
شكرا استاذ خالد موضوع البركان لم اكن اعطيه اهتمام ولكن جدبتني القراءة عن اخطاره وثورانه نسأل الله العفو والعافية