مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2023

أميرتان في بلاد تيمورلنك وجُحا

طشقند الأثيرة وسمرقند الساحرة


مصلح جميل

كانت الساعة التاسعة مساءً والشمس قد غربت توًّا في سمرقند، وتلوّنت السماء بزرقة داكنة أخّاذة. كنت حينها أجلس على إحدى عتبات ساحة ريجستان محاطًا بزخارفها البديعة ومآذنها السامقة. كانت الموسيقى الشعبية الأوزبكية تصدح في جنبات المكان بنغمة سكون ولمسة حزن، يرافقها عرض ألوان ساحر على واجهات المباني. وبالرغم من حركة السياح والباعة وعاملي رصف الساحة، مرّ وقت طويل شعرت فيه أنني انفصلت عن الزمان، وكأنني أعيش إحدى قصص ألف ليلة وليلة.

زيارتي لجمهورية أوزباكستان كانت دون تخطيط كبير، لا كما يحدث عادة في رحلاتي الأخرى. اكتفيت بتوصيات أصدقاء زاروها سابقًا، لأجد نفسي في مطار العاصمة طشقند. كان الوقت يقارب الثالثة قبيل الفجر، وبدت طشقند مدينة وادعة بالرغم من أنها من أكبر مدن آسيا الوسطى. وصلت الفندق مع لحظات انجلاء الليل وانبساط نور الصباح، فأخذت معالم المدينة تتضح؛ وجدتها خالية من ناطحات السحاب، مطرّزة بأشجار معمرة طويلة تزيّن شوارعها الفسيحة. وكما هو حال طقس أوزباكستان في مطلع شهر يوليو، كانت حرارة الجو معتدلة صباحًا، ولكن بقية النهار جاءت كما يليق ببلد صحراوي بعيد عن البحار، حرارةٌ وجفاف.

سلامٌعليك يا أوزباكستان

منذ الوصول لاحظت دفء أهل أوزباكستان، فهم طيبون ومرحبون. ويكفي أن يلقي الشخص كلمة “سلام” ليرد عليه أهلها بـ”سلام”. إنها الكلمة العربية الأكثر انتشارًا، وطريقة التحية لديهم، وهي تؤسس لعلاقة من الترحاب والأمان والثقة. والمسلمون يشكلون ما يقارب %90 من سكان أوزباكستان البالغ عددهم 36 مليون نسمة. ويمكن للزائر ملاحظة تعدد العرقيات في السكان، فبالرغم من أن الأكثرية تعود للعرقية الأوزبكية، تعود مجموعات أخرى لعرقيات منها الروسية والطاجكية والكازاخية وغيرها. مع ذلك فإن الترحاب عامل مشترك بين الجميع، ويزيد حين يُدرك الأوزبك أن الزائر من المملكة العربية السعودية، بلد مكة المكرمة والمدينة المنورة، التي يتوق الكثير منهم لزيارتها.

تنوُّع الأعراق واضح في ملامح أهل طشقند، لكن الترحاب سمة مشتركة بينهم، و”سلام” تحيّةٌ تدور على ألسنة الجميع.

أول ما أصابني بالدهشة هو روعة التخطيط المعماري لشوارع طشقند ومسارات المشاة والحدائق. احتلّت أرصفة المشاة مساحة كبيرة على جانبي كل شارع وطريق، وخُصصت أماكن كثيرة في المدينة للحدائق البهيجة ولمسارات تصريف الأمطار. لقد كانت دهشتي من روعة التخطيط عظيمة، ويرافقها نظافة عامة لم أشاهدها في أغلب مدن العالم التي زرتها. قادتني تلك الدهشة إلى البحث عن تاريخ تصميم مدن أوزباكستان، فهي تعود إلى فترات متفرقة من الفترة السوفيتية. ولذلك التخطيط الحضري فلسفة تُربط أحيانًا بجذور الفكرة الاشتراكية من ضرورة إتاحة مساحات عامة كبيرة. ولكن أيًا يكن تاريخ ذلك التخطيط وفلسفته فقد بدا لي مثالًا جديرًا بأن يُقتدى به.

ساحة ريجستان، وتظهر فيها المدارس الإسلامية الثلاث (من اليسار إلى اليمين): أولوغ بيك وتيلا قاري وشیردا، وهي تجسيدٌ لروعة العمارة الإسلامية. كانت الساحة تمثّل قلب مدينة سمرقند القديمة التابعة للإمبراطورية التيمورية. واسم ريجستان يعني “المكان الرملي” أو “الصحراء” باللغة الفارسية.

عمارة سوفيتية فريدة

بدأ اهتمامي بزيارة نماذج العمارة السوفيتية ومشاهدتها قبل عقد من الزمن، منذ أول زيارة لمدينة تبليسي عاصمة جورجيا. ولكن طشقند تُعتبر متحفًا مفتوحًا لما تبقى من وحشية العمارة السوفيتية وكتلها الإسمنتية. وللعمارة السوفيتية صفاتها وفلسفتها الخاصة، كما يظهر ذلك في العمارات السكنية التي بنتها الحكومة للعامة، فهي تتسم بصغر مساحات شققها وواجهاتها المسمطة أحيانًا والمزخرفة في أحيان أخرى، ولذلك أسبابه التي تفرضها فلسفة النظام الشيوعي.

العمارة السوفيتية تأسرك في طشقند. وفي سمرقند تتأمل بديع الزخرفة الإسلامية التي يضج بها المكان، فتتذكر تاريخ المدينة ورحلات طريق الحرير

لكن روعة العمارة السوفيتية، وتحديدًا في أوزباكستان، تكمن في محطات القطار التي تتميز كل محطة منها بتصميم فريد ومختلف. ثم يأتي بعد ذلك تصميم المباني الحكومية والعامة، وأبرزها فندق أوزباكستان في وسط طشقند، وهو أيقونة العمارة السوفيتية في العاصمة. فقد كان ضمن الفنادق الرسمية التي بنتها الحكومة السوفيتية في مدنها الكبيرة، وغُيّر مسماه بعد الاستقلال إلى فندق أوزباكستان. وما يميّز هذا الفندق أنه لا يزال مفتوحًا للسياح، سواء للسكن أم للفُرجة. وقد كانت زيارتي للطابق الأعلى منه لإلقاء نظرة على طشقند من الأعلى مع غروب الشمس تجربة لا تُنسى.

وتُعتبر السوق الشعبية “كورسو” أحد أبرز الأمثلة على العمارة السوفيتية في طشقند، فهي السوق الكُبرى على مستوى وسط آسيا. ورغم أنها تبدو من الخارج على شكل قبة صغيرة، فإن الدخول إليها تجربة لا يجب تفويتها، إذ تعج بالناس من المتسوقين وباعة الفواكه واللحوم والمكسرات من كل الأصناف والألوان.

فندق أوزباكستان، أيقونة العمارة الوحشية السوفيتية. اكتمل بناؤه في العام 1974م، ويُعتبر أكبر فندق في العاصمة طشقند. يضم 254 غرفة، ويبلغ ارتفاعه 17 طابقًا.

خيرات طشقند

لقد كنت محظوظًا بزيارة أوزباكستان في مطلع الصيف، حين جادت كثير من الأشجار بثمارها. ويمكن شراء ألذ الفواكه، من مشمش و”بُخار” (البرقوق) وتوت وكرز وغيرها، بأسعار زهيدة. وأرض أوزباكستان التي ترويها عدة أنهار تشتهر بفواكهها التي تُعد أبرز صادراتها، سواءً الطازجة منها أم المجففة.

وطعام أهل أوزباكستان هو من أطيب الطعام. ولعل أيقونة المطبخ الأوزبكي هو ما يُسمى بطبق “بلاف”، وهو ما وصل إلى الجزيرة العربية تحت مسمى “البخاري” مع تغييرات كثيرة على طريقة إعداده. والبلاف له عدة طرق للتحضير تختلف من مدينة أوزبكية إلى أخرى. ولكنه في المجمل عبارة عن أرز يُطبخ في قدر كبير مع اللحم والدهن المصنوع من شحوم الأغنام والأبقار، ويُقدم مع البيض وقطع من لحم الخيل. وتشتهر أوزباكستان، مثل كثير من دول آسيا الوسطى، بلحم الخيل وحليبها.

أما الخبز الأوزبكي فهو قصة أخرى من جودة الطعم وفرادة الثقافة. فالخبز عنصر رئيس في المائدة الأوزبكية، وهو يُباع على عربات متجولة في الشوارع أو داخل الأسواق والمخابز  الكثيرة. ويختلف الخبز الأوزبكي عن الجورجي كمثال، فهو خبز دائري الشكل يُزيَّن بزخارف بديعة وكأنه تحفة فنية. ويمكن لمن يتجول بين مدن هذه البلاد أن يشاهد المساحات المهولة لمزارع الفواكه والقمح والخضراوات، التي تمتد إلى ما لا نهاية، تسقيها روافد الأنهار التي تعبر الأراضي الأوزبكية ولعل أشهرها نهر سيحون.

تيمورلنك المجيد.. وجُحا الحكيم

يكن الأوزبكيون التقدير الكبير لتيمورلنك، وتنتشر المجسمات في مدن الجمهورية الأوزبكية، أما قبره في سمرقند فهو تحفة معمارية يزورها الكثير من السياح والسكان.

تعجّ كتب التاريخ بقصص الرعب التي كان بطلها تيمورلنك، حين غزا واستعبد وعاث بجيوشه في الأراضي العربية وغيرها من مناطق آسيا، وقتل كما يُقال ما يصل إلى مليون إنسان. ولكن الأوزبك لديهم نسختهم الخاصة من تاريخ قائدهم تيمورلنك، ويمكن بسهولة إدراك اعتزازهم وفخرهم به. فإن حدث وذكرت لأوزبكي “تيمورلنك”، فسيصحح لك بكل أدب قائلًا: “أمير تيمور”، وهو الاسم الذي يطلقونه على أميرهم الذي أسس المملكة التيمورية. وهو يُلقب بالأمير لأنه لم يحظَ بلقب ملك، بالرغم من دم جنكيز خان الذي جرى في عروقه.

سياح يلتقطون صورًا تذكارية أمام قبتي قبر يُنسب إلى قُثم بن العباس، رضي الله عنه، في سمرقند، إذ يُقال إنه شهد فتحها واستُشهد فيها.

ويُعبّر الأوزبك عن تقديرهم لتيمورلنك بتماثيله المنتشرة في الميادين، ولعل أبرزها ميدان خاص به في وسط طشقند، حيث تراه منتصبًا يمتطي صهوة حصانه رافعًا يمينه لتحية زوارها. وحول تمثاله المهيب مساحات خضراء وأماكن للجلوس مزينة بمسارات بديعة. هناك، عند ميدانه، وقفتُ مع أعداد كبيرة من السياح والأوزبك، الذين يلتقطون صورًا له ومعه.

أمّا ضيف تيمورلنك الظريف، جحا، الذي تطغى على سيرته ارتباطها بالفكاهة والحمق في الثقافة العربية، وتختلف الآراء حول موطنه ونسبه، فنجده حيًّا مُحتفًى به في الثقافة الأوزبكية. فالأوزبك يعتبرونه أوزبكيًا، ولا ينظرون إليه كأحمق، وإن كان يركب حماره في كثير من تماثيله في أوزباكستان. وهو معروف عندهم بنصر الدين خوجة، وهو عالمٌ يُحتفى به في الفنون والرسومات، وقد قاده طلب العلم إلى الترحال للبلاد العربية في فترات متفرقة.

بالقطار إلى أميرة الحرير

بعد ثلاثة أيام في طشقند، ركبت القطار غربًا إلى سمرقند. ورحلات القطار يومية بين المدينتين، كما تربطهما بباقي مدن أوزباكستان شبكة قطارات. أسعار تذاكر القطار مثل باقي أسعار وسائل المواصلات في أوزباكستان؛ رخيصة جدًا. أمضينا ما يقارب ثلاث ساعات ونصف في القطار، الذي عبر الأراضي الصحراوية لأوزباكستان مخترقًا مزارعها على سكة حديدية بُنيت منذ الحقبة السوفيتية؛ لنصل إلى محطة القطار ذات التصميم المميّز في سمرقند.

لسمرقند سحرها الخاص؛ إنها مدينة تحتضن تاريخًا يعود إلى عشرات القرون من الزمن. هنا، تستذكر تاريخ المدينة وروعتها، وما كتبه عنها ابن بطوطة الذي أوجز وصفها بقوله: “سافرتُ إلى مدينة سمرقند، وهي من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالًا، مبنية على شاطئ وادٍ يُعرف بوادي القصارين، عليه النواعير تسقي البساتين. وعنده يجتمع أهل البلدة، ولهم عليه مساطب ومجالس يقعدون عليها، ودكاكين تُباع بها الفاكهة وسائر المأكولات. وكانت على شاطئه قصور عظيمة وعمارة تنبئ عن علو هِمم أهلها”.

عشتُ خلال يومين قضيتهما هناك عظمة سمرقند، وسبرتُ تاريخ مؤسسها تيمورلنك ورحلات طريق الحرير من الصين إلى البندقية، وتمعّنتُ في روعة العمارة والفنون الإسلامية. تتميَّز سمرقند عن طشقند بكثرة الأضرحة، التي تحفل بعمارة إسلامية فريدة. وأبرزها ضريح لتيمورلنك، يضم قبره وقبر عدد من أفراد أسرته، يقصده الأوزبك بأعداد كبيرة فيمضون أوقاتهم هناك.

وبعد ذلك، يأتي قبر يُنسب إلى قُثم بن العباس، ابن عم النبي (صلى الله عليه وسلم)، الذي شهد فتح سمرقند واستُشهد ودُفن بها. يقع القبر على تلة مرتفعة يمكن للزائر أن يختلس منها نظرة على معالم سمرقند، وأبرزها وأروعها ساحة راجستان. تضم تلك الساحة ثلاث مدارس، وتعجّ بالسياح من الصباح الى أوقات متأخرة من الليل. إنها مكان لاستذكار أوج المملكة التيمورية وبهاء فن العمارة الإسلامية، وتاريخ طريق الحرير والتجارة بين الشرق والغرب.

والثقافة الأوزبكية غنيّة بالرسومات والزخرفة والمنمنمات. وتُعتبر صناعة الحرير والرسم على الأقمشة من أبرز ما يميزها، بالإضافة إلى فنون الفخار والخزف والنسيج وتركيب الجص.

لا يتسع المقام لسرد كل تلك الدهشة والجمال اللذين عشتهما في أوزباكستان، بالرغم من أن الوقت لم يسعفني لزيارة بقية مدنها. ولكن رحلتي إليها كانت تجربة لا تُنسى، وقد تركَت بصمة عميقة في روحي، وحفرَت في قلبي محبة وإجلالًا لأهلها وتاريخها وجمالها. وهي الدولة التي كنت في لحظة مغادرتها، أخطط لزيارتي إليها المرة المقبلة.


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

موسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة.


0 تعليقات على “عين وعدسة: طشقند الأثيرة وسمرقند الساحرة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *