هناك علاقة وثيقة بين المكتبات وشخصيات مُلاكها. ولكن الآراء تتباين في أي منهما متغير مستقل وأيهما تابع. وقد سبقني ألبرتو مانغويل في مؤلفهِ “المكتبة في الليل” حينما قال: “إن كل مكتبة هي بمثابة سيرة ذاتية لصاحبها”.
فتعقيبًا على مقال أحمد الحناكي الذي نشرته القافلة في العدد 700 حول المحور التفاعلي بين القارئ والكتاب، نشير إلى أن المكتبة المنزلية تخلق رابطة ثقافية اجتماعية تنبع من إخلاص القارئ ورغبته في جعل مدخلاته الثقافية رمزًا يُشار إليه في مسكنه. وهذه الرابطة عجيبة بين القارئ والكُتّاب والشخصيات الروائية، سواء أكانت تلك الشخصيات خيالية أم واقعية لها ثقلها التاريخي الذي خلّدها. فهو يشعر تارة بالفخر تبعًا لما حدث، وتارة بالحزن والاستياء مما حصل، وأحيانًا كثيرة بالرضى والاطمئنان إلى أن ما نال إعجابه أصبح كنزًا مملوكًا بين يديه وفي واحة بيته.
فمن الطبيعي أن نتلمس هذه العلاقة، وكيف للمكتبة وهي ينبوع أو وعاء معرفي متوهج ومتقِد بالعلوم والخبرات والتجارب أن تُشكل جزءًا ليس باليسير من هوية صاحبها.
ما نقرؤه يُشكلنا ويرسم نهجنا في الحياة ويظهر حتى في أحاديثنا. فالكلمة العذبة التي أحببنا لفظها ومعناها في تلك الصفحة نستخدمها اليوم، فنلتمس حُبًا ولُطفًا في تقاطعات حياتنا الاجتماعية مع الآخرين. وتنعكس ردود فعلهم بناء عليها، وبذلك تستمر دائرة علاقاتنا. وعلى صعيدٍ آخر، فإن العلم الوفير عن موضوع ما قد يجذبنا، فنتبعه ونقرؤه لنحصد عالِمًا جديدًا يُكمل مسيرة ذلك الكاتب. كما أن الكُتب ذات الطابع القصصي والغنية بالأمثال والحِكم، هي حياة جميلة وذكريات مليئة بالتناغم مع ذواتنا وصغارنا.
فكل ذلك ينطلق من غرفة المكتبة المنزلية التي زوّدت كل أفراد العائلة بموروث علمي ثقافي واجتماعي، وكذلك حمّلتهم بالكثير من الذكريات بصحبة الكتب وبين رفوف المكتبة الدافئة؛ فشكلت هوياتهم واختارت معهم رغباتهم الحياتية في أن يصبح أحدهم كاتبًا وروائيًا، والآخر طبيبًا مداويًا، وكذلك الأب الواعي والأم المسؤولة والابن الطموح. حتى إن بعض المكتبات العُظمى في التاريخ الإنساني بدأت بمكتبة منزلية ورغبة شخصية من قُرّاء مؤثرين تنعموا بأرزاق المعرفة والثقافة، وعلموا أن النفع كل النفع في المطالعة، فعمدوا إلى مكتباتهم ووسعوا دارها وجعلوها مزارًا اجتماعيًا ومجلِسًا ثقافيًا وترفيهيًا، حتى ازدادت الرغبة في إنشاء دورٍ تتسع للقرّاء وتلائم اهتماماتهم.
وعلى سبيل المثال، زرتُ مكتبةً تاريخية عريقة صغيرة في أحد أحياء مدينة مانشستر الإنجليزية، وهي موجودة منذ عام 1965م، وتحدثت إلى صاحبها الشيخ الكبير سنًا وعِلمًا، فكان وثيق الصِلة بكل ما فيها على رغم تنوع المحتوى. وحين استفسرت عن أثر مكتبته عليه، كان ردّهُ واضِحًا في تصرفاته؛ إذ إنه من شدة ولائه للورق لا يقبل التعامل إلا نقدًا وكان مبلغًا زهيدًا يكفيه فقط لضمان استمرار المكتبة، ويمنع التقاط الصور تقديرًا لحُرمة الكُتب، حيث قال: “الكتب ليست شيئًا يُلتقط إنما كنز يُحمل ويُنشر”. وأمَّا عن سرده، فكان غاية في العمق لكل حادث عنده حديث وتعقيب واقتباس. وعن أثمن ما قدمته له الكتب قال: “إن صدري يسع العالم كُله، وابنتي تربت بين هذه الكتب”. وهنا تحديدًا تتضح صعوبة تحديد من يؤثر على الآخر في هذه العلاقة.
فالكتب تعطينا العديد من اللحظات والتجارب وكأننا نعيش الحياة في العام ألف مرة، وقد نصل إلى مرحلة تكون فيها الكتب هي من يختارنا، فتطرق دروبنا وتنال من أوقاتنا ليجذبنا مكان ما، أو كاتب ما، أو حياة ما، فنتعمق فيها ولا نكتفي، ونطلب المزيد في المجال ذاته، عندها نبصر حقيقة أن الكُتب ومؤلفيها يختاروننا في أحيانٍ كثيرة. فقد قرأت مرة قول مارتينيز في المكتبة المظلمة: “لقد خلصتُ إلى اقتناع بأن القُراء لا يختارون كتبهم دومًا، إن الكتب في ظل ظروف ما، هي من تختار قُراءها”.
ولأن التنوع في الآراء مكسب وقوة، لا سيما إذا كان محور الحديث في الكتب والمكتبات، فقد استطلعت رأي الدكتورة روضة الفضلي، وهي قارئة شغوفة ومتخصصة في علم المكتبات والمعلومات، فكان رأيها: “المكتبة الشخصية لا تُشكل صاحبها، إنها تتشكل معه، فتنوع العناوين واختلاف المستويات القرائية هي انعكاس لنضج القارئ ونموه الفكري. فإذا أردت أن تتعرف على أحدهم، فتصفح عناوين الكتب في أرفف مكتبته الشخصية”.
اترك تعليقاً