أتصور أن العلاقة بين الشخصيات الروائية والمكتبات المتخيلة في الرواية، تحفزنا إلى خيال أكثر صخبًا في العلاقة بين القارئ والشخصيات، أو بين القارئ ومكتبته المنزلية.
عندما قرأت المادة المنشورة في مجلة القافلة لعدد مايو – يونيو 2023م، تحت عنوان “مكتبات الشخصيات الروائية.. تتبدل النظرة إليها بتبدل الأبطال”، تبادر إلى ذهني عندئذٍ هذا السؤال: هل ينعكس تأثير القراءة في القارئ؟ وهل يعبر مفهوم المكتبة المنزلية عن شخصية مالكها؟
من الصعوبة بمكان أن تكون الإجابة قطعية حول التساؤل الثاني، أقصد المكتبة، في حين أستطيع أن أجزم بأن تأثير القراءة في القارئ واضح وجلي، سواء أكان تأثيرًا فوريًا أم تأثيرًا بعيد المدى. على كل حال، تتفاوت ردة الفعل من القراءة بين قارئ وآخر بوجه عام، فضلًا عن الدور الكبير الذي يؤديه احترام القارئ للكتب وللكاتب في تشكيل المفاهيم العامة ممّا يقرؤه، وكذلك نظرة القارئ وبيئته الثقافية تؤثران في تفاعله مع الشخصيات الروائية.
وعن تجربة شخصية، فقد كانت بداياتي داخل أروقة دار الكتب الوطنية في شارع الخزان بمدينة الرياض، حيث كنت أرافق أخي إلى هناك. في البداية كان أمين المكتبة يرفض دخولي؛ لأن المكتبة كانت مخصصة للكبار فقط، وكان يوجهني إلى مكتبة الأطفال في الطابق الأرضي. ولكن أخي ألحّ عليه، فسمح لي أخيرًا بالدخول، وفتح لي باب جنة الدنيا على مصراعيه.
كانت بداياتي في القراءة مع روايات عنترة بن شداد وحمزة البهلوان وسيف بن ذي يزن، وأتذكر جيدًا أنني كنت أنتظر أخي الأكبر ليشتري مجلدًا جديدًا فيعيرني إياه بعد أن ينتهي من قراءته. كنت عندما آخذ مثل هذه الكتب أقرؤها بمنتهى الشغف والنهم، وكأنما هي وجبة لذيذة لا تتحقق لك إلا لمامًا.
في رواية عنترة، يوجد بطل صغير يُدعى ربيعة بن مكدم. وبعيدًا عن المبالغة في الرواية، إلا أن تعاطفنا معه بلغ أقصاه، ولا سيما عندما غدر به الأشرار وقتلوه. كان التأثير بالغًا لدرجة أن أحد إخوتي بكى بمرارة بعد أن قرأ نهايته المفجعة.
لا تخرج روايات “إلكسندر دوماس” و”ميشال زيفاكو” عن نمط عنترة وأصحابه من حيث الشجاعة والرومانسية ومثالية شخصيات الروايات، طبعًا مع فارق الزمان والمكان واختلاف الأسلوب.
لكن واقعية نجيب محفوظ شيء آخر، فهو مرآة الشعب المصري، فقد عبّر عن طبقاته الثلاث أفضل تعبير، وجعلنا نحن القراء نتفاعل مع شخصياته الروائية ونعشقها ونتفاعل معها ونسعد لفرحها ونبكي لحزنها.
في العقود الأخيرة، طغت الروايات الأجنبية على المكتبات، لكن الروايات العظيمة الكلاسيكية القديمة منها أثّرت كثيرًا في وجداننا، فقد لخصت “ذهب مع الريح” لمرغريت ميتشل بجدارة الحرب الأهلية الأمريكية من خلال شخصياتها المميزة مثل “سكارليت” و”ريت بتلر”.
لا ننسى تحفة فيكتور هيجو “البؤساء”، التي كانت محور الثورة الفرنسية ومأساة “مادلين” وتضحيات “جان فالجان”. وكذلك “آنا كارنينا” و”الحرب والسلام” لليو تولستوي، و”آمال عظيمة” لتشارلز ديكنز، و”جين أير” لشارلوت برونتي، و”وداعًا أيها السلاح” لإرنست هيمنغواي، ومجموعة دوستويفسكي.
في يقيني أن هذه الروائع ستشكل شخصية قارئها. ومع أن هذا يبدو مبالغًا فيه، فإن القارئ النهم لا بد أن “يتلاقح” مع الرواية ويعيش مع أبطالها، ويتفاعل معهم، وإلا فلا يمكن أن نصنفه قارئًا.
بالطبع، هناك هواة الاستعراض والمباهاة الذين قد يملكون مكتبات آية في الفخامة، لكنهم لا يعرفون حقيقة محتواها، ومثلهم من يحفظ العناوين كي يستعرض بها في ليالي الترف.
لكن المكتبات من وجهة نظر عاشقها هدية، تمنحنا وقودًا نستمد منه آمالنا وتطلعاتنا، ونثري من خلالها خيالنا.
اترك تعليقاً