مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2019

حدائق الفراشات
بساطتها، وجمالها، وأهميتها الحيوية


أمين‭ ‬نجيب

الفراشة هي أجمل زوَّار الحدائق، وأكثر ما يثير الخيال. فهل أعددنا لاستقبالها ما يليق برقتها ورشاقتها وما تعشق من نباتٍ ورياحين ورحيق؟
لقد حولنا كثيراً من موائلها إلى غاباتٍ من الإسمنت وطرقات ومزارع ومصانع. وجعلنا المبيدات الحشرية تقضي على أعدادٍ كبيرةٍ منها. وأحدثنا تغيراً مناخياً خطيراً، فتصحرت موائلها، خاصة في المناطق المدارية حيث تزدهر. وهذا ما أشار إليه بحثٌ حديثٌ حول الفراشات في ألمانيا، أجراه كل من “جان كريستيان هابل” من الجامعة التقنية في ميونيخ و“توماس شميت” من جمعية “سينك برغ لبحوث الطبيعة”، في فبراير 2019، واستنتج أن أعدادها تناقصت إلى الثلث.
لذلك يتخطى الهدف من حدائق الفراشات الناحية الجمالية، ليتصل بمسألة وجود هذا النوع الجميل الذي هو جزءٌ من الدورة الحياتية وتكاملها على الكرة الأرضية.

جاء في دراسة حديثة وموسَّعة نشرتها مجلة “نايتشر إيكولوجي”، أن هناك أربع ملقحات منها الفراشة، مسؤولة عن 85 بالمئة من تلقيح الأشجار والأزهار مهدَّدة بالانقراض. ويقول التقرير إن إنشاء حديقة ولو صغيرة كموئل لهذه الكائنات، يسهم بشكلٍ قويٍ في إيقاف هذا الانحدار. ولكن قبل الشروع بالحديث عن مستلزمات إنشاء حديقة للفراشات، يجب التعرف على دورة حياة الفراشة لمعرفة ماذا تحتاج.
تُعدُّ الفراشة من الحشرات المتقدِّمة التي لديها دورة حياةٍ كاملة من أربع مراحل، هي: البويضة، واليرقة، والشرنقة، واليَفَاعة.

ففي البدء، تضع أنثى الفراشة بويضاتها، التي هي عبارة عن أجسام صغيرة جداً، على الأوراق والسيقان وغير ذلك من أقسام النباتات. وعادة ما تكون على أو بالقرب من طعام اليرقة التي ستولد من البويضة. وبعد أن تضع الفراشة الأنثى معظم بويضاتها تموت في الحال، وبعد أربعة أيام تولد اليرقة.
واليرقة هي مرحلةٌ تكون فيها الفراشة على شكل دودة طويلة. غالباً ما تشتمل على نمط مثير من الخطوط أو البقع. وقد يكون لها شعر يشبه العامود الفقري. وتُعد هذه مرحلة التغذية والنمو، حيث تأكل اليرقة بشراهة، وتموت إذا لم يتوفر لها الغذاء لفترة قصيرة. واليرقة انتقائية جداً، لا تأكل سوى أنواعٍ قليلة من أوراق النباتات. وفي أثناء نموها، تتخلى عن جلدها أربع مراتٍ أو أكثر، حتى تتمكن من تغليف جسمها لتصبح شرنقة خلال أسبوعين.
والشرنقة هي مرحلة التحوُّل التي يتم فيها تحطيم أنسجة اليرقة، ليبدأ تشكُّل هيكل الفراشة خلال عشرة أيام.
أما اليفاعة، فهي المرحلة التي تصبح فيها الحشرة فراشةً بكامل ألوانها. إنها مرحلة الحركة والتزاوج ووضع البيض، وهي أيضاً مرحلة الهجرة واستعمار موائل جديدة.

فراشة المونارك
أول ما يتبادر إلى ذهن مصمم حديقة الفراشات هو كيفية جذب الفراشة الملكة أو “فراشة المونارك”، وهي أكبر الفراشات وأجملها، وتتواجد في معظم أنحاء العالم. وفي هذه الحالة فإن النبتة التي لا يمكن لهذه الفراشة أن تعيش من دونها خلال معظم دورة حياتها هي الصقلاب السوري الدرني.

تضع فراشة المونارك بيضها على الجانب السفلي من الأوراق الطرية الحديثة التفتح ما بين الربيع والصيف. وخلال تحوُّل اليرقة إلى شرنقة تقوم بحياكة نفسها بخيطان من الحرير حول غصنٍ أفقي وتتدَّلى منها.

السبات الشتوي
خلال فصل الشتاء، تعيش الفراشات جميعها، باستثناء فراشة المونارك المهاجرة، في سبات شتوي؛ وهي حالة نوم متواصل خلال فصل الشتاء كله. وتدخل الفراشة في هذه الحالة في أي مرحلة من دورتها الحياتية؛ كبويضة أو يرقة أو شرنقة أو حتى كفراشة يافعة.
وتوقيت استيقاظ الفراشة من السبات مهم للغاية، فعندما تستيقظ، تحتاج الوصول إلى الغذاء الصحيح. وعلى سبيل المثال، لا يمكن لمعظم اليرقات أن تستهلك سوى مجموعة صغيرة من النباتات، لذلك يجب أن تظهر عندما تكون هذه النباتات قد أورقت لتتغذى عليها، وإلا فإنها ستموت.
كما تحتاج الفراشات إلى البقاء باردة وجافة أثناء السبات. وإذا ما تم إزعاجها، من المحتمل أن تستيقظ أثناء السبات مبكراً وتموت، خاصة إذا كان عليها استخدام الطاقة للعثور على مكان آخر مناسب للاحتماء. وإذا تركت من دون إزعاجٍ، فمعظم الفراشات تبقى نائمةً حتى أول أيام الربيع الدافئة.
يمثل تغير المناخ مشكلة كبيرة لسبات الفراشات، لأن درجات الحرارة المرتفعة بشكل غير عادي في فصل الشتاء تجعلها تستيقظ في وقت مبكر. فمثلاً، خلال فصل الشتاء الأخير في بريطانيا، تم رصد عديد من الأنواع النشطة: فراشة الأدميرال الأحمر، والسيدة الملونة، والطاووس، والسلحفاة الصغيرة وغيرها. وفي هذه الحالة، ولأنها استيقظت قبل توفر الغذاء، فقد ماتت.
أما العمر المتوقع لمعظم الفراشات اليافعة فيتراوح بين أسبوعٍ وأسبوعين، ولكن بعض الأنواع يعيش حتى عدة أسابيع أو أشهر.

اليرقة هي فراشة على شكل دودة طويلة تشتمل عادة على نمط من الخطوط أو البقع. وبعد أسبوعين تصبح شرنقة وبعد ذلك فراشة بكامل ألوانها

تصميم حديقة فراشات ومكوّناتها
تختلف حدائق الفراشات المفتوحة وغير المغلقة من ناحية التصميم عن بقية الحدائق، لأنها مصممة للفراشات وليس لنا كما هي العادة. فعلى سبيل المثال، إن المشهد الطبيعي الأنيق والنظيف لأرض الحديقة، كما نحب أن نشاهد عادة، لا يلائم هذه الكائنات الجميلة. إذ يُعد الخث والرَخاخ المتولدة طبيعياً من الأوراق والأعشاب الميتة والرطبة موطناً لعدد من الأنواع المهمة للفراشات واليرقات والشرانق البلدية. كما أن فراشة عباءة الحداد ويرقة نائب الملك وشرنقة الكرَفس، وغيرها كثير تقضي سباتها الشتوي على الأرض في هذه المواد الرطبة.
يتراوح حجم حدائق الفراشات من الحدائق الصغيرة التي تتكوَّن من عدد قليل من أواني الرياحين وأحواض الزهور إلى حدائق كبيرة مخططة بعناية. وعلى التصميم أن يأخذ عدة عوامل مهمة في عين الاعتبار:
المأوى: الفراشات حساسة جداً وتستسيغ المناطق ذات الرياح القليلة جداً أو المحمية منها. ويمكن إنشاء منطقة محمية بأكثر من طريقة. فيختار بعض مصممي حدائق الفراشات بناء حواجز أو أسوار على أطراف حدائقهم. ويجد آخرون أن زراعة النباتات الطويلة والشجيرات يمكنها أن تعمل بشكل جيِّد أيضاً للحماية. في هذه الحالة يجب اختيار شجيرات، حيث تحب الفراشات وضع بيضها عليها، كالعشقة وأنواع الصقلاب العديدة.
ويوفر المكان المحمي للفراشات أيضاً موقعاً للراحة، ويشكل ملجأً من سوء الأحوال الجوية المتنوعة، إذ تبيت فيه أثناء الليل، وغالباً على الجانب السفلي من الأوراق. لذلك فإن الشجيرات والأعشاب الطويلة مفيدة، ويمكن أن تأخذها الفراشات أيضاً كمأوى من الصدمات الهوائية.

الفراشة، هي واحدة من أربع ملقحات مسؤولة عن 85 بالمئة من تلقيح الأشجار والأزهار مهدَّدة بالانقراض. من هنا تكمن أهمية إنشاء حديقة ولو صغيرة كموئل لهذه الكائنات، حيث تسهم بشكلٍ قوي بإيقاف هذا الانحدار.

وعند ذلك ستشكِّل الحديقة ملاذاً مهماً ليس فقط للفراشات، بل لكثيرٍ من الحشرات المفيدة الأخرى. ويمكن للحديقة المدروسة جذب عديد من أنواع الفراشات إذا أضفنا النباتات الخاصة والضرورية لتتغذى يرقاتها منها، عند ذلك قد نرى موئلاً غنياً على مدار الفصول الأربعة.
الشمس الساطعة: تحتاج الفراشات إلى كثير من ضوء الشمس والدفء، والنباتات التي تجذبها عادة ما تكون الأنواع التي تتطلب كثيراً من أشعة الشمس؛ وهي عادة نباتات زاهية الألوان. وعند اختيار موقع الحديقة، يجب البحث عن المنطقة الأكثر عُرضة لأشعة الشمس طوال اليوم.
البرك: وتحتاج الفراشة في غذائها إلى المعادن. ولكي تكمل نظامها الغذائي مع الرحيق، ترتشف أحياناً من البرك الطينية الغنية بالمعادن، ويسمى هذا السلوك “التوحل”. ويحدث في كثير من الأحيان بين ذكور الفراشات أكثر من الإناث، حيث تمتزج المعادن مع الحيوانات المنوية التي يتم نقلها إلى الإناث أثناء التزاوج، والذي يساعد على نضج البيض. لذلك من المستحسن أن تحتوي حديقة الفراشات على برك موحلة صغيرة.
أما إذا أردنا إنشاء بركة ضحلة لجذب الفراشات الخطافية الذيل والفراشات الزرقاء والكرنبيات ومثيلاتها، خاصةً تلك التي تشرب الماء الموحل للحصول على الملح، فيجب الانتباه إلى أن رش ملح الطعام في هذه البرك لجذب هذا النوع من الفراشات يضر النباتات.
وفي بعض الأحيان، تحتشد الفراشات حول حمامات العصافير الضحلة، وهي أحواض صغيرة مرتفعة قليلاً، كما أن وضع طبق ضحل من الماء في الحديقة يمكنه أن يكون جذاباً للعصافير والفراشات.
الدفء: تبحث الفراشات عن أجزاء دافئة ومحمية من الحديقة، لذلك يجب زراعة زهور غنية بالرحيق توفر مصدراً للغذاء بدءاً من أوائل الربيع عندما تخرج من سباتها الشتوي حتى نهاية الخريف. ومن المستحسن أيضاً وجود بعض الصخور، حيث يمكن لهذه الحشرات أن تتشمس وتشعر بالدفء.

لمحة عن الاهتمام بالفراشات في المملكة
نظَّمت الهيئة الملكية بالجبيل في مارس 2017، فعالية ضمت إنشاء حديقة عالم الفراشات المغطاة على شاطئ الفناتير. اكتظت بأنواع متعدِّدة نادرة وهجينة ومستوردة من الفراشات، مرفقة بشروحات إرشادية لدورة حياة كل منها وطرق التعامل معها بشكل سليم.
يذكر أن البريد السعودي أصدرت سنة 2007م طوابع بريد توثق أشهر أنواع الفراشات الموجودة في المملكة. ومنها فراشات خطافية الذيل وخطافية الذيل الصحراوية وغيرها.

تلافي كل أنواع المبيدات
إن استخدام البخاخات الكيميائية، مهما كان نوعها، يقضي على الفراشات. بدلاً من ذلك، يجب إنشاء حديقة عضوية. فإذا كانت لدينا حديقة مليئة بالزهور والشجيرات والأشجار المختلفة، فستنجذب إليها الحشرات المفترسة المفيدة التي تهتم بأي آفات قد تكون مضرة للنباتات. وعلى سبيل المثال، غالباً ما تجتذب النباتات مثل الصقلاب الأنيق والصقلاب حشرات المن الصغيرة، التي تجتذب بدورها الخنافس التي سوف تلتهم المن وجزءاً من اليرقات، وهكذا سوف تتعافى النباتات المريضة خلال بضعة أيام. فما يجب التنبه له هو أن بعض العلاجات “العضوية” أيضاً قد تكون مميتة للفراشات واليرقات مثل أي علاج غير عضوي آخر. فالطبيعة هي في معظم الأحيان أفضل ما يحافظ على التنوُّع وازدهار الحياة من تدخل الإنسان.

تضع الفراشة البرتقالية بيضها على عدد من الأزهار المفضلة كزهرة الحُرف المرجي، أو زهرة الوقواق أو السمارة الثومية أو ساق الحمام

اختيار النباتات والأزهار
إن الفراشات ستزور أي حديقةٍ، مهما كانت صغيرة، إذا كان فيها الرحيق المغذي لها. ولذا، من المهم اختيار النباتات المحلية لهذه الحديقة. فالفراشات والحشرات الأخرى تطوَّرت مع الأزهار المحلية التي تعرف طعم رحيقها. كما أن العناية بالنباتات المحلية غالباً ما تكون أسهل من غيرها. ويأتي في الأهمية نفسها توفير النباتات والأشجار التي يجب أن تستضيف اليرقات مثل الصقلاب والبلوط والدردار والصفصاف.
إن اختيار وتحديد النباتات المحلية في أي منطقة ليس مسألة صعبة. إذ يمكننا أن نعثر على معلومات حول احتياجات أجمل أنواع الفراشات، وهي ليست قليلة، بالاستعانة بمراجع كثيرة متوفرة. وبعضها الآخر تطور مع حشراتٍ أخرى، لتعتاد مع الوقت، على طعم النباتات التي تعرفها. وعندما يتم تحديد موقعها واحتياجاتها بشكل صحيح، يمكن أن تكون النباتات المحلية أسهل بما يتعلق بزراعتها وصيانتها والاعتناء بها.

يجب أن تروى النباتات بشكل كافٍ لتبقى في حالة جيدة وتنتج مزيداً من الرحيق للفراشات الجائعة، وإطالة فترة الإزهار عن طريق تقليم النباتات وتغذيتها بالسماد الطبيعي. فالرحيق يمنح الفراشات طاقة للطيران والتزاوج. وفي الربيع، يساعدها على التزود بالوقود بعد السبات الشتوي أو بعد رحلة طويلة وشاقة.
وكلما زاد عدد وأنواع ما نزرع من النبات المناسب، زادت كمية الرحيق وزاد عدد الفراشات. وأياً كان ما نزرعه، يجب توفير تنوُّع في الارتفاع، وحجم الأزهار، وملمس الأوراق. فكلما كانت الحديقة أكثر تنوعاً، تزدهر الحياة فيها خلال مراحلها من البيض إلى الفراشة.

التقليم
ليست الفراشة هي الوحيدة بين الحشرات التي تتبع استراتيجية السبات الشتوي. فكثير من العث والنحل البلدي يتبع الاستراتيجية نفسها. ومن الحكمة الانتظار حتى آخر لحظة ممكنة في كل ربيع لتقليم النباتات، حتى لا تنزعج هذه الكائنات اللطيفة التي تستيقظ في شهري مارس وأبريل. وإلى جانب ذلك، تسهم هذه الطريقة في إشباع التربة أكثر بالرطوبة الضرورية وتعزل النباتات عن البرد.


مقالات ذات صلة

في عام 2077م، شهد معظم سكان أوروبا كرة نارية تتحرك في عرض السماء، ثم سقطت كتلة تُقدّر بألف طن من الصخور والمعادن بسرعة خمسين كيلومترًا في الثانية على الأرض في منطقة تقع شمال إيطاليا. وفي بضع لحظات من التوهج دُمرت مدن كاملة، وغرقت آخر أمجاد فينيسيا في أعماق البحار.

نظرية التعلم التعاضدي هي: منهج تتعلم عبره مجموعة من الأفراد بعضهم من البعض الآخر من خلال العمل معًا، والتفاعل لحل مشكلة، أو إكمال مهمة، أو إنشاء منتج، أو مشاركة تفكير الآخرين. تختلف هذه الطريقة عن التعلم التعاوني التقليدي، فبين كلمتي تعاون وتعاضد اختلاف لغوي بسيط، لكنه يصبح مهمًا عند ارتباطه بطرق التعليم. فالتعلم التعاوني التقليدي […]

حتى وقتٍ قريب، كان العلماء مجمعين على أن الثقافة هي سمةٌ فريدةٌ للبشر. لكن الأبحاث العلميّة التي أجريت على الحيوانات، منذ منتصف القرن العشرين، كشفت عن عددٍ كبيرٍ من الأمثلة على انتشار الثقافة لدى أغلب الحيوانات. وعلى الرغم من الغموض الذي يلفّ تعبير الثقافة، حسب وصف موسوعة جامعة ستانفورد الفلسفيّة، هناك شبه إجماعٍ بين العلماء […]


0 تعليقات على “حدائق الفراشات”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *